إدمان التنطّع في البرلمان المصري - سعد القرش

mainThumb

03-12-2018 03:27 PM

 في منتصف الثمانينات انتفض البرلمان المصري، في نسخته السابقة التي كانت تحمل اسم “مجلس الشعب”، مدافعا عن فضائل كبرى وشرف رفيع ادّعى أن كتاب “ألف ليلة وليلة” يمسّه بالأذى. أثبت ذلك “الحادث”، بإغرائه لباحثي علوم النفس والاجتماع والسياسة، أن في الممارسة البرلمانية المصرية جانبا من المساخر، منذ فتح الرئيس الأسبق أنور السادات السوق للاقتصاد الحر وللأحزاب المصطنعة. ومن يعرف كيف يُختار أعضاء البرلمان فلن يسأل: لماذا يستمرئون التنطّع؟ ومن المؤكد أن أغلبهم لم يسمع بكتاب ألف ليلة إلا حين أثيرت القضية قبل أكثر من أربعين عاما، ولو أنهم قرأوا بعضا من الليالي لنالوا حظا من خيال تفيض به فتنة الكتاب العابر للأجيال واللغات، ولما أورثوا أبناءهم مرض التنطع اعتراضا على كتاب أو تحرشا بامرأة ارتدت فستانا لا يروق لهم، في حفل داخل دار الأوبرا، لا في الشارع المبتلى بالرذائل، والمريض بالكبت الجنسي والنفاق الاجتماعي والتدين المنقوص.

 
بلد ببرلمانه ونيابته وقضائه يغضب ويثور وينتفض؛ لأن الممثلة رانيا يوسف حضرت حفلا بفستان لم يعجبهم، وانتشرت الصور في مقطع فيديو من بضع ثوان، أثناء دخولها حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي الأربعين، 29 نوفمبر 2018. سمعت برلمانيا يتصل بزميله مقدم أحد برامج التلفزيون، وهو يتباكى غيرة على ما يسميه الأخلاق، ويقسم أنه سيقدم إلى النائب العام شكوى في الممثلة، فيزايد زميله بأنه سيقدم إلى البرلمان استجوابا لوزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم. وكأن للوزيرة وصاية على ثياب المشاركين في حفل ختام مهرجان دولي. ومن الغرائب أن الذي يزعم خدش الحياء العام هو من تلصص على المرأة، وظل يعرض الصورة التي زعم أنه يرفضها، فينال استحسان المرضى بالفضيلة، ويحصد أيضا المزيد من أموال الإعلانات، بمعنى أن الأمر حجٌّ وبيع سِبَح.
 
لم تنتفض مصر ببرلمانها ونيابتها وقضائها في أي مرة مُنع فيها مسيحيون من العبادة في بيت أحدهم، حيث لا توجد كنيسة، ويهاجمون بالحجارة ويهجّرون من بيوتهم، ثم تجري مصالحة عرفية تنسف فكرة العدالة والقانون. مثل هذه القضايا لا تجلب لدعاة الأخلاق شهرة، ولا تمنحهم فرصا للتفنن في وصف الفستان والجسد في برامج التلفزيون، فيعرّيهم هوسهم الجنسي مثل مشايخ يحذّرون الجماهير من إغراء النساء بتقصي مفاتن المرأة، في استمتاع ولذّة تعوّض الشيخ عن الكبت والحرمان ومعاندة الفطرة.
 
اعتذرت الممثلة رانيا يوسف من دون الإساءة إلى أحد، وقبل انتفاضة البرلمانيين والنيابة واستعجال محاكمتها، أخلت نقابة المهن التمثيلية مسؤوليتها ببيان ركيك احتشد بنفاق فارغ عن عدم توافق مظهر ضيفات المهرجان مع “تقاليد المجتمع وقيمه وطبائعه الأخلاقية، الأمر الذي أساء لدور المهرجان والنقابة المسؤولة عن سلوك أعضائها… وسوف تقوم النقابة بالتحقيق مع من تراه قد تجاوز في حق المجتمع وتوقيع الجزاء المناسب”، ولم يبق للنقابة إلا أن تقرر زيّا مدرسيا موحّدا لأعضائها في هذه المناسبات. وبدلا من الدفاع عن حريات شخصية لا تؤذي مشاعر الأسوياء، فإن النقابة تغالي في التشدد، وفي الخطوة التالية ستطالب بحذف مشاهد الرقص الشرقي من أفلام قديمة لم تفسد أخلاق محبي تحية كاريوكا وسامية جمال وسهير زكي.
 
كان على النقابة وعلى النيابة تذكير مقدمي البلاغات بفضيلة غضّ البصر، وهذا أوجز ردّ يغلق باب التنطع محليا، وإرشادهم أيضا إلى إمكانية تقديم طلبات، عبر وزارة الخارجية والسفارات الأجنبية في مصر، يهيبون فيها بالمهرجانات الدولية الكبرى مثل كان وبرلين وفينسيا، وكذلك بأكاديمية الفنون والعلوم السينمائية منظمة جوائز الأوسكار، بمراعاة “تقاليد المجتمع وقيمه وطبائعه الأخلاقية”، لأن مقاطع الفيديو لفساتين الممثلات الأجنبيات أكثر إثارة، وهي تنتشر بما لا يمكن منعها.
 
لا يكف الخاسرون عن خوض المعارك نفسها، فبعد السماح بتداول ألف ليلة وليلة، أثاروا القضية نفسها مطالبين بمنع تداول طبعة أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2010، والطريف أن الطبعة الجديدة المستهدفة بالمصادرة هي نسخة مصورة عن طبعة أصدرتها عام 1252 هجري (1836 ميلادي) المطبعة الأميرية ببولاق بالقاهرة، وصححها الشيخ محمد قطة العدوي.
 
بدأت المقال بألف ليلة وليلة، ولا أجد فصلا للمقال أفضل من قول الوزير دندان، في الليلة الحادية بعد المئة “والله إن قلبي نافر من هذا الزاهد، لأني ما عرفت للمتنطعين في الدين غير المفاسد”.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد