يقولون أن السياسة هي فَنّ الممكن، ويقولون أن السياسة لا تحكمها الأخلاق، والدول الناجحة في بناء أوطانها تكون سياساتها مبنية على تحقيق مصالحها حتى وإن كان على حساب الآخر، الجمهورية الإيرانية تعرض على الأردن تزويدها بالنفط والطاقة لمدة 30 عاماً مقابل تبادل تجاري وسياحة دينية، وفي الحقيقة لا يمكن اعتبار هذا العطاء مجانياً بالمعنى السطحي لتصريح السفير الإيراني في عمان، فلا يمكن أن تُقدِّم أي دولة مثل هذا العرض دون مقابل، ولكن ما تم عرضه كمقابل من السفير الإيراني هو التبادل التجاري والسياحة الدينية.
إيران تعاني من حصار اقتصادي شديد من قِبل الغرب بقيادة أمريكية بسبب برنامجها النووي، وقد رأينا كيف حدث الانهيار لعملتها أمام العملات الصعبة والانخفاض الشديد في قوتها الشرائية، وبالتالي فهي تبحث عن أبواب تساعدها في إخراج منتوجاتها إلى الأسواق الخارجية، وفي المقابل إيران تعلم أن الأردن دولة ليست بالإنتاجية بل هي دولة استهلاكية، وبالتالي، إنْ حدث ما ذهب إليه الإيرانيون سيصُبّ في مصلحتهم _وتجارياً على الحدّ الأدنى_، فعند النظر إلى الميزان التجاري الأردني(ما بين الاستيراد والتصدير) نجد أن قيمة مستوردات الأردن تفوق أضعاف أضعاف ما تقوم بتصديره.
العرض الإيراني ليس اقتصادياً فقط، وإنما هي تبحث أيضاً عن اصطفافات سياسية جديدة في المنطقة لإعادة بعض التوازن وخاصة لمحورها في مقاومة المشروع الصهيوني(كما تقول هي وتعلن) وزيادة نفوذها في المنطقة، وهي تقدم المقابل مقدماً كثمن لهذا الاصطفاف، وما نعلمه أن الأردن قد وضع نفسه منذ عقود وخاصة منذ القبول بالمشاركة في مؤتمر مدريد، ومعاهدة وادي عربة فيما بعد، ضمن الرؤية الأمريكية للمنطقة(تحقيق مصالحها وضمان أمن الكيان الصهيوني)، وما تعانيه الأردن الآن من انهيار اقتصادي تقريباً، والمتمثل بالعجز الجنوني في الموازنة، وارتفاع كبير تجاوز كل الخطوط الحمراء في المديونية، ما هو إلاّ نِتاج تموضعها في الحضن الأمريكي، وتبني سياسة اقتصاد السوق الحرّ، والذي استلزم الدولة الأردنية إلى خصخصة مؤسساتها الوطنية المنتجة(الفوسفات والبوتاس كمثال) وبعض الخدمات الرئيسة(الكهرباء والماء) والتي تمس الأمن الوطني المجتمعي، مما حول الدولة الأردنية إلى الاعتماد الكلي على المساعدات المشروطة بتقديم مواقف سياسية للأطراف الداعمة، أو على القروض من صندوق النقد الذي ساهم من خلال شروطه في رسم سياسات الدولة في جوانب عديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولنا في القرض الجديد تجربة ماثلة للعيان من رفع الدعم عن المشتقات النفطية، والذي سيتبعه بعد فترة وجيزة رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، والبدء بتنفيذ اتفاقية سيداو وغيرها غير المُعلن أيضاً _وهذا ما عودتنا عليه دولتنا على مرّ السنوات الماضية_ إذن في النهاية فإن الدولة الأردنية قائمة في استمراريتها بتقديم المواقف السياسية للغير على حساب المشروع الوطني والذي هو جزء من المشروع العربي في التحرر من التبعية للقوى الغربية ومقررات صندوق النقد الدولي الذي تقوده أمريكا والانخراط في المشروع الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية منذ توقيعها معاهدة وادي عربة.
نعود إلى العرض الإيراني ونتساءل ما هو الموقف أو ما هو الثمن السياسي المطلوب من الأردن تقديمه مقابل العطاء الإيراني؟!، ونتساءل أيضاً هل سيكون الثمن السياسي المُقدم من الأردن متوافق مع المشروع الوطني التحرري؟!، وهل يمكن للدولة الأردنية أن توازن ما بين العرض الإيراني وعلاقاتها مع الغرب وخاصة أمريكا، أو مع الدول العربية المناهضة لإيران وخاصة دول الخليج؟!، وهل يتعارض مع معاهدة وادي عربة؟! هناك الكثير من علامات الاستفهام التي قد تُثار حول العرض الإيراني ولكن من هو القادر على الإجابة على هذه التساؤلات..!، فهل تملك الدولة الأردنية ممثلة بوزارة الخارجية مناورات سياسية تؤدي إلى الاستفادة من هذا العرض دون التأثير على علاقاتها مع الغير وخاصة دول الخليج؟! أو إعادة الاصطفاف سياسياً الذي سيمنحها حلاً جذرياً للمعضلة الاقتصادية؟!, أم أن التخوف من المدّ الشيعي والاصطفاف المذهبي بقيادة السعودية سيمنع ذلك؟!.
المستغرب ما كان من المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ همام سعيد وقوله (الشرط الذي تضعه إيران لدعم الأردن يخالف شرع الله)، وهي فتوة سياسية بامتياز كونها تأتي بعد القطيعة بين الإسلاميين وإيران بسبب الملف السوري، في حين أن علاقاتهم قبل ذلك كانت وطيدة وذات تنسيق عالي، حيث كانوا يطالبون الدولة الأردنية بالتقارب مع إيران، وهذا يدلل على أن الإسلاميين في الأردن لا يريدون خروج الدولة من مأزقها الاقتصادي لتبقى الأصوات مرتفعة في الاحتجاجات المطلبية التي تغذي الشارع وبالتالي تمنحهم مزيداً من الزخم الشعبي لتحقيق مكاسب سياسية.
ولكن تبقى الحقيقة الماثلة أمامنا، والتي أوصلتنا إلى هذه الحالة المتردية اقتصادياً من عجز ومديونية، وتنازلات سياسية واستمرارية التبعية، والتي سببها الرئيس هو النهب والسلب لمقدرات الوطن، ومدّ اليد للمال العام، والهدرّ الكبير في الإنفاق، وعدم توظيف الإمكانات المادية في العقد الماضي من عمر الدولة في مشاريع إنتاجية تحقق التنمية في المحافظات، لتساعد في حلّ مشكلتي الفقر والبطالة ضمن خطط قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى والقادرة في أخذنا إلى الاستقرار الاقتصادي والاعتماد على الذات ولو نسبياً، بالإضافة إلى استغلال مكنوزات الوطن من ثروات وتوظيفها بشكل سليم يحمينا من استغلال الغير وبالتالي تقديم التنازلات تلو التنازلات, وهذا يقودنا إلى ضرورة التخلي عن النهج الاقتصادي الحالي(النيوليبرالي=اقتصاد السوق الحرّ) وفتح كل الملفات ذات العلاقة وإجراء محاسبة حقيقية لكل من ساهم في إيصالنا لما نحن عليه والانتقال إلى مشروع وطني توافقي(اقتصادياً، اجتماعياً، وسياسياً) فلدينا كل الإمكانات من ذوي الخبرة إذا ما توفرت الإرادة..!