طوابير

mainThumb

17-11-2008 12:00 AM

مشهد آلاف السيارات الواقفة على طابور البنزين ، مشهد مؤلم للغاية ، والطابور لا يتوقف ، ولن يتوقف ، فمثله هناك طابور المدرسة ، وطابور مؤن وكالة الغوث ، وطابور مساعدات المعونة الوطنية ، وطابور مساعدات المؤسسات الخيرية ، خلال شهر رمضان ، وطابور الاحزاب على باب الحكومة ، من اجل دفعاتها ، وطابور على السرفيس والباصات ، وطابور على تعويضات النفط ، سابقا ، وطابور على تعويضات الخبز ودعمه ، سابقا ، وهكذا يلد الطابور طابورا.

حتى الكاتب حين يكتب رأيا مزعجا ، يقال انه طابور خامس ، والحزبي والسياسي والنائب ، وغيرهم ، حين يتخذون مواقف سلبية ، يقال عن بعضهم انهم طابور خامس ، فحتى التوصيف السياسي للخصم لدينا ، يعود الى ثقافة الطابور ، فالكل يجب ان يقف في الطابور ، ولا فرق في حالات كثيرة ، ان كنت واقفا ، في طابور للحصول على دعم الخبز ، او طابور لطلبات المنح الدراسية في الجامعات ، او لتعبئة ليتر كاز ، من اجل اولادك في فصل الشتاء.

كثيرون يقرأون مشهد طوابير البنزين ، من ناحية اللحظة ، وان هناك نقصا في الخدمات ، وتراجعا فيها ، والبعض يقول لك هل نحن في بغداد ، ولماذا يحدث هذا الامر ، غير اني اقرأ الامر من زاوية اخرى تماما ، فقد طوعتنا الظروف والحمد لله طوال سنين ، على مبدأ الوقوف في الطابور ، لاي سبب كان ، ولدينا القدرة على الصبر في الطوابير ، ما دامت الغاية سوف تتحقق في نهاية المطاف ، ولم يعد احد يناقش في مبدأ الطابور ، بل يناقشون في طوله وقصره ، واسبابه ، وغير ذلك ، لكنهم ينسون في غمرة الامر ، ان مبدأ الطابور مقر ، وسيبقى حتى اشعار اخر ، وقد كان بالامكان في ملفات كثيرة ، الغاء ملف الطابور ، فالمسكين يحصل على معونته عبر الطابور ويمكن ان يحصل عليها عبر المصرف ، غير ان الطابور يجب ان يبقى موجودا ، والطالب الذي يتقدم بطلب لجامعته للحصول على منحه بأمكانه ان يقدم طلبه عبر الايميل ، غير ان الطابور يجب ان يبقى موجودا ، وتسجيل الشركة يجب ان يكون الكترونيا ، غير ان الطابور يجب ان يبقى موجودا ، وهكذا تستمر القصة ، من طابور الى اخر ، حتى ان الواحد فينا ، اذا لم يجد طابورا بحث عن مخبز مكتظ ، ووقف في الطابور ، من اجل ممارسة الفعل والحاجة الى الانضباط والانتظار والصبر ، وتوكيل الامور الى الله.

للطابور فوائد كثيرة ، فهو يعلم الانسان الصبر والتواضع ، ويذكره ان ليس كل شيء متاحا في اي وقت ، وان القدر يتجلى عبر الطابور ، وان الكبار والصغار من اعمار مختلفة وثقافات مختلفة ، يقفون على ذات الطابور ، وهو يحقق النزعة للمساواة بين الفقير والغني ، ويخلق حالة من التوتر ، من اجل تذكير الانسان بأوقات النعم ، التي لايقف فيها على الطابور ، فما ان ينتهي الطابور ، حتى يحمد الله ، على ان انهى دوره وحصل على مبتغاه ، ويعود الى اهله فرحا مسرورا بربطة الخبز ، او بلتر البنزين ، او ببقجة المساعدات ، وهي البقجة التي كانت جدتي تقف ساعات ، من اجل الحصول عليها ، من وكالة الغوث قدس الله سرها ، فتعود وقد غشيها التعب ، واشفق عليها ، ولا اعرف لماذا تقف كل هذا الوقت ، وان عرفت لاحقا ، انه طابور يتعلق باثبات قضايا اخرى ، لا علاقة لها ، بعبوة السمن ولا كيلوغرامات السكر والارز.

في شرق المتوسط والعالم الرابع ، للطابور ميزة اضافية ، فهو منتشر في كل هذه المنطقة ، ومثلما يقف اخواننا المصريون على طوابير «الفراخ» يقف اخواننا العراقيون في بغداد العائمة على بحر من النفط على طوابير البنزين ، ويقف الفلسطينيون على طوابير العبور من غزة الى الضفة ، او على مشارف الاقصى ، ويقف الصوماليون في طوابير للعبور الى اليمن ، وهكذا تعيش شعوب هذه المنطقة ، ذروة حياتها بالوقوف في طوابير لها اسبابها ، ولها نتائجها ، غير الصحية على الاطلاق ، ولا يعود الانسان قادرا على مناقشة حقوقه ، بل تصبح مهمته المقدسة ان يختصر عدد الطوابير الى اقل عدد ممكن ، وان يتفادى اي طابور باللجوء الى تشوه اخر اسمه «الواسطة» فيقفز عمليا من طابور المواطنين الى طابور المدعومين.

من حق شعبنا ، ان لا يقف على هكذا طوابير ، من اجل النفط او غير النفط ، ولا بد لادارة راشدة ان تلغي مبدأ الطابور ، في قضايا كثيرة ، وان نجعل قولنا عن اننا البلد الاكثر تعليما في شرق المتوسط ، ذا دلالات على الارض ، فنلغي كل الطوابير الممكن الغاؤها ، ولانتسبب بطوابير مفتعلة ، كما في قصة النفط ، وشعبنا من شماله الى جنوبه ، ومن شرقه الى غربه ، ومن بواديه الى اريافه ، عاش رافعا رأسه طوال عمره ، وسيبقى كذلك ، وليس من مصلحتنا تكسير الذات الاجتماعية والوطنية ، بهكذا مشاهد ، فالواقف على الطابور ، يتألم وتتكسر مجذايفه ، سواء احس بذلك او لم يحس.

لا عاشت الطوابير ، ولا عاشت مثنى وثلاث ورباع.

الدستور


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد