تضيقُ على الفلسطينيّ سُترة العالم

mainThumb

06-12-2023 10:59 PM

 

آلافُ الشّهداء. يتحوّل الفلسطينيّ إلى رقم تمامًا، ودونَ أن نظلّ نستدعي "الشهداء ليسوا أرقامًا"، رقمٌ تمامًا.. بل ورقم "مشكوكٌ فيه"، فهو رقمٌ في حياتِهِ بمدينة/ سجنِ "الطّوابير" المسمّى غزّة.. طوابيرُ على الخبز والغاز والوقود والعلاج والتّنفس حتّى، وطوابيرُ كأنّها واقفة أو جالسة في انتظار الموت. ورقمٌ في مماتِهِ مسجّى في طوابير من الشّهداء المنتظرينَ تكفينِهم أو دفنهم.. إن حالفه "الحظّ" أصلًا بجسدٍ كاملٍ أو بخروجٍ "سريع" من تحتِ الرّكام والرّدم. ورقمٌ أيضًا في سجونِ الاحتلال، وفي سجلاتِ النازِحين، وفي سجلاتِ المصابين، وفي كلّ شيء. ويبدع السّياسيونَ في "ترقيمه" ونقلِ معاناتِهِ أرقامًا مثلَ وكالاتِ الأنباءِ الرديئة، في الزّمن الفاسد هذا.

 يفقد الإنسان في هذه المرحلة الثّقة بكلّ شيء، وبنفسه وإنسانيّته، ويبدو كأنّه لا يعرفه فعلًا حينَ انهارت في جوفه الأشياء وفقدت معانيها. غزّة لا تحتاجُ مَن يُصبِّرها تحتَ الموت، ولا مَن يطالبها بالصّمودِ أكثر مِما تصمد، ولا تحتاجُ مَن "يؤسطِرها". وإنّي لأبحثُ وسط ثقل العجز المطبقِ عن منفسٍ للكلامِ والبكاء، ولا أعرفُ كيفَ هناكَ من يستطيعُ حتّى الآن المناكفة والمتاجرة والفرجة والمزاودة.. وكلّ الأفعال التي يقوم بها البشر حاليًا تجاه هذا الجنون الذي يجري، مع أنّ الخلاصة بسيطة: غزة لو بقيت وحدها بهذه الطريقة فلن يتبقَّ مما تبقى منها.. شيءٌ ولا أحَد.

«حَمَلتْ» الحربُ أوزارها مرّة أخرى، بعدَ سبعةِ أيامٍ من هدنةٍ "غير إنسانيّة" (رغم أهمّيتها) قايَضَ العالَم فيها أسرى الاحتلال بقليلِ الطّعام والوقودِ والعلاجِ للأسرى الفلسطينيين داخِل السّجن الجماعيِّ المسمّى غزّة، وتدخل يومها الثاني بعدَ الشّهر الثاني. يقولُ المحتلّون: "المفاوضاتُ تحتَ النّار، وسننتصر"،..«النّارُ هُنا لا تمزَح يا قِردة».. تحتَ النار الأطفال والنّساء والمدنيين العُزّل، وهم الذينَ يملكونَ أحدث أسلحة الدنيا وجيوشًا جرارةً وحلفاءَ، لديهم (تحدٍ) بالنّصرِ على العُزّل. مهزلةٌ لا يتحمّلها "عقلٌ سويّ" هذا الذي يجري.

«مرّة ثانية مرّة دائمة».. تضيقُ علينا.. سُترةُ العالم كُلّما تَقدّمنا. تمامًا كما كان يضيقُ الحذاءُ بأقدامِنا، لكنّنا اليومَ لا نملكُ رفاهيّة تبديلِ هذه السُّترة.. أو رتْقِ مِزَقِها التي تظهِرُ لحمنا المتورِّم، لم نعد نملكُ أيّ رفاهيّةٍ تجاهَ الأشياءِ التي تضيقُ كلّها دفعةً واحدة، رحلةٌ عبرَ الضيقِ هذه الحياة، إلى ضيقٍ أشدّ في قلبِ "أُمّنا الأرض". ويبدو أنّ ما يضيقُ لا يتّسعُ أبدًا، (أضيفُ "يبدو أنّ" مرغمًا). يضيقُ الكلامُ أيضًا ونضيقُ بهِ وتضيقُ به اللّغة، فيصبحُ الإنسانُ أقلّ رغبةً في خوضِ حديثٍ، أو نقاشِ فكرةٍ جديّة.. ويبدو أقلّ تحملًا لسماعِ أيّ شيء، أو أيِّ أحد. ربّما تمرّ أيامٌ الآنَ دونَ كلامٍ، أو نطق، (أفرّقُ بينَهُما) وحتّى بينَ (الإنسانِ ونفسه) يبدو أكثر استسلامًا وضيقًا من أن يناقشَ أيّ شيء. «هذا قبلَ ما جرى ويجري فكيفَ الآن؟.. هذا للجالسين على "الفرجة" فكيفَ باللّذينَ تحتَ الموتِ واحتمالاتِه؟»
هل يحتاجُ سنواتٍ هذا الإنسان ليدركَ أنّ اتساعَ الكونِ لا يعنيه؟ وأنّه كانَ أحرى به أن يبحثَ عن سُبُل (تكادُ تكون غيرَ مكتشفة) للحدِّ من تَضَيُّقاتٍ صغيرة تخصّه؟، أو.. بشكلٍ أدق.. هل كانَ حريًا به أن يعكِسَ المسألة: يُضَيّق مدارِكَ العقل "ليتّسع المدى" وكلّ شيء؟.
اعتادَ الناس أن يستدركوا على الكُتّابِ والشّعراءِ والمفكّرين.. ربما هي جرأةٌ غيرُ محبَّبةٍ فعلًا، وأنا لا أريدُ أنْ أستدركَ على ابنِ عربي، (مَن أنا لأفعل ذلك؟)، لكنّني وددتُ لو أنّه قالَ: كلّ توسيعٍ للعقلِ في غير محلِّهِ لا يعوّلُ عليه. (وكانَ قالَ في معنى شبيه "التّوحيدُ المُدْرَكُ بالدّليلِ العقليِّ لا يُعوَّل عليه").
وأنا أكتُبُ هذا، فجأةً، أسمعُ في رأسي آية: "حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ". وأتأمّل البلاغة القرآنيّة.. التي اختصرت (في جزءٍ من الآية 118 من سورة التّوبة) كل ما قلتُ.. وما لم أقل.. وما يمكنُ أن يقالَ أبدًا في وصفِ الضّيق.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد