إنّ الدّم ليفتَحُ في الأرضِ شكلَ نهر

mainThumb
فتاة فلسطينية تجلس أمام رسم غرافيتي أعلى أنقاض منزل دمرته غارات الاحتلال في دير البلح بقطاع غزة (رويترز)

14-02-2024 04:33 PM

 

أطرحُ اليومَ، منذُ الصّباح سؤالًا حقيقيًا على نفسي أولًا: كيفَ يستمرُّ العالَم/ نستمرُّ بشكلٍ طبيعيّ، في الوقتِ الذي ما زالَ يُقتلُ (يستشهِدُ) المئاتُ كلّ يومٍ في ما تبقّى من قطاع غزّة، وفي السّودان، وسوريا، وأوكرانيا، وأماكن أخرى من العالم. كيفَ هذا العالَمُ لا يطلُبُ استقالةً جماعيّة من دورِهِ المسرحيّ السخيف في «السّعي والمواصلة»؛ كانَ سقطَ وجهُ قابيل/ قايين.. حينَ افتتحَ ماراثونِ القتلِ فوقَ الأرض، وكانَ دمُ هابيل صارخًا إلى الله من التراب. كيفَ هذا العالمُ يستطيعُ الاستمرار في «الفرجَة» بهذه الطّريقة، وهو ينتظِر مُخلصًا من نوعٍ ما ينتَصِرُ لصراخِ الطفلةِ بين جثث أهلها يحاصِرها الاحتِلال بدباباته، وهو ما زالَ يؤمِنُ أنّ ثمّة متسع لبيانات استجداء مؤسسات القانون والعدل والشّرعيّة والأمم. إنّ الوجودَ البشريّ في شكلِهِ الحاليّ شكل من أشكالِ العبثِ المطلق، والخَدَرِ المطلق، والتَّبلُّد أمامَ مشاهِدِ الدّم كأنّها لا تعنيه ولا تخصُّه، وإنَّ الدّم ليفتَحُ في الأرضِ شكلَ نهر، وإنّه ليجري.. حتّى يطالَ وجوهَنا كلّنا، ويغيِّرَ الشكل المشوَّه لهذا العالَم، وإنّه ليجري أسرَعَ مما يتخيَّلُ الإنسانُ الذي «فقدَ إنسانيّته»، وأكثر مما تتخيَّلُ الحكومات، هو مسافةٌ صغيرةٌ بينَ بغداد 2003، وسوريا ومصر وتونس وليبيا والسّودان 2012. إنّ الفرجة على السُّقوط كانت إنذارًا بالتّساقُط، بشكلٍ أكثر «عارًا».
من الجذرِ اللّغوي دالَ، كانت لفظةُ الدَّوْلة أو الدُّوْلة، وقالَ بعضُ «فقهاءِ اللّغة» إنّهما بمعنىً واحدٍ، أمّا آخرونَ فقالوا: (الدُّولة بالضّم في المَال، وبالفَتْح في الحَرب). ما بينَ "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ"، إلى "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ"، تظهرُ دلالاتٌ مصاحِبة تمامًا لفِكرة التّداوُل (مرةٌ لهذا ومرّة لِذاكَ)، مثلَ: الغَلَبة والنّصر والفَوز والامتِلاك بالقوّة "الظَّفَر"، مقابل الهزيمة والخَسارة والنّقصان والتنازُل طوعًا "التّخلّي". ومن هذا الجذرِ اللغويّ جاء مصطلح "الدَّولة" بمفهومة الحديث؛ لأنّ الدّولة بناءٌ سياسيٌ واقتصاديّ و.. يأتي بعدَ حربٍ أفضَت إلى نَصر، وأيضًا لأنّها في جوهَر وجودِها، المستمدِّ من دلائِلِ اسمها أولًا ومن طبيعة القاعِدة الإلهيّة لكلّ ما في الحياة، مُتداولَةُ السُّلطةِ بينَ قادتها وسياسيّيها قبلَ اختراعِ مفهوم "الديمقراطيّة". أمّا اليوم.. فانتفى المعنى الأوّل وغُيِّبَ الثاني، لكن لا أحدَ أبدًا يستطيعُ تغييبَ "وتلكَ الأيامُ نداولها بينَ النّاس"، ولا أحدَ يستطيع (اختراع) دولةِ فلسطين، بــ«التّخلي».
والآن.. في الوقتِ الذي يتقِنُ ويعتادُ فيه الجميعُ الفُرجة، ويحذّرُ فيه الجميع من «توسُّع الحرب»، فإنّها تأخُذُ بالتّوسُّع إلى «ما لستُ أعلَمُ»؛ لأنّ أحدًا لم يستطع كبحَ توحُّش اليمين الإسرائيليّ المتطرف، ولا أحد استطاعَ كبح حلمِهِ التّوراتيّ، ولأنّه لا فرصة مواتية أفضل من هذه لتمدُّدِ جسدِ هذا الكيانِ الذي بلا حُدود، وبأحلامٍ توسُّعيةٍ لا تنتهي، سواءً باتّجاه سيناء، أو لبنان، أو في كلِّ الاتّجاهات. لستُ متشائمًا أكثر من اللازم.. لكنَّ كلَّ يومٍ إضافيٍّ يبعدنا عن إمكانيّة إبرام صفقة، ورضوخ الاحتِلال لأيّة شروط، والمنطِقُ بسيطٌ هنا: كلُّ دول العالم تفشَلُ في الضغطِ على الاحتِلال بوقف الحرب أو الجلوس لمائدة التفاوض على أسراه (الذينَ لا يعنونَ له أيّ شيء)، فكيفَ سيستطيع هذا العالم الضغط على دولة الاحتلال لتطبيق حلِّ الدولتين الميّت، المستحيل على أرضِ الواقع، وبالتّالي..قيام «دولة فلسطينيّة» على أساسِ قرارات ما يُسمّى (الشرعيّة) الدوليّة. سؤال بسيط بلا إجابة.

 

 

* كاتب فلسطينيّ



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد