صحيفة السوسنة الأردنية

يسْتخْدِمُ الأنسَانُ في حيَاتِهِ اليَوميّةِ وسائِلَ اتصَالٍ مُتَنوِّعةٍ كالرَّسمِ و النّحتِ و المُوسِيقا و حَركاتِ الجِسمِ وغَيْرها. و لكِنْ تحتَلُّ اللغةُ الأنسْانيّةُ صَدَارَةَ وسَائِلَ الأتصَالِ لقُدرَتِها العَجيْبَةِ على اختِزَالِ العَالمِ كلِّهِ و قُدْرَتِها على تَلبِيَةِ حَاجَةِ الأنْسَانِ التّواصُليِّةِ. و تَجدُرُ الأشارَةُ أنَّ المَعرِفةَ اللّغويّةَ في ذاتِها مَوضُوعٌ عِلمِيٌّ مُسْتَقِلٌّ مُحايِدٌ بالنِّسبَةِ لِعلمِ اللّغَةِ تُشْبِهُ بِذلِكَ المَعرِفةَ الخَاصَّةَ بالطَّبِيْعَةِ. و لكنَّ الأستِعمَال الأنسَانيّ للمَعرِفةِ اللغويِّةِ -التي تَتَمَتَّعُ بِقَابِليّةٍ مَرِنَةٍ للتَواصُلِ الأنسَانيّ- يُخْرِجُها حَقِيقةً عَن حِيادِيتِها و يَجْعَلُوها تَتَلوّنُ بِفِكْرِ الشَّخَصِ و قَضَايَاهُ.

تَكْتَسِبُ المَعرِفةُ اللّغويّةُ بالأستِعمالِ الأنسانيِّ سِمَتَيْنِ بارِزَتَينِ، هُما: أوّلاً، سِمَة اجتِمَاعيّة حيْثُ يَتَأثَّرُ الأستِعمَالُ اللغويُّ بالوَاقِعِ الأجتَماعِيّ، و يُؤثِّرُ أيْضَاً فيْ هَذا الوَاقِعِ. اذ يَهْضِمُ الأستِعمَالُ الأنسانيُّ اللّغويُّ مُعطَيات الوَاقِعِ مِنْ جِهَةٍ و يُعيْدُ باللّغةِ تَشْكِيلَ مُعطَياتِ الوَاقِعِ مِنْ جِهةٍ أخْرى. و بِذا، يكُونُ استِعْمالُ الشّخْصِ للغةِ مُنغَمِسَاً كُليّاً بالمُجْتَمَعِ. ثَانِيّاً، سِمَة آيديُولوجِيِّة اذْ لا يَكُون استِعْمالُ الشّخْصِ للّغةِ ضِمنَ تَشْكِيْلاتِ المُجتَمَعِ و صِراعَاتِهِ مُحَايِدَاً خَالِصَاً. انّمَا يُوَظِّفُ الشَّخْصُ معْرِفتَهُ اللّغويّة كَيْ يَخْدُمَ رؤيَتَهُ الذّاتيّة. فَقَدْ يُضْمِرُ الأستِعمَالُ اللّغويُّ بِنَاءَ سُلطَةٍ أو تَقويِضَ سُلطَةٍ، قَدْ يُبْطِنُ تَعَزِّيْز قَبْضَةَ الأسْتِبدَادَ و الظُّلمِ أو تَفْكِيكَهُما بِواسِطَةِ اللّغةِ. و بِذا، تكونُ اللّغُة ذَاتُها سِلاحَاً في المَعَارِكِ المُشْتَعِلةِ.

و مِنْ أجْلِ تَوضِيْحِ أهميّةِ الأستِعمَالِ اللغةِ في الصّراعِ و الحَربِ، و تَجْلِيَةِ وَجهَيْهِ الأجتِماعيّ و الآيديُولوجِيّ، عَرضَ المَقالُ عِدّةَ أمثِلَةٍ على اسْتِغْلالِ كيَان الأحتِلالِ اللّغة كَوسِيْلَةٍ لحَربِ الأبادَةِ التي يَخُوضُها ضِدّ غَزة و المَنطِقَةِ بأسْرِها منْذُ أكثَر مِنْ عَامٍ.

المِثَالُ الأوّلُ: أَطْلَقَتْ قُوّاتُ الأحتَلالِ تَسمِيَةَ 'السّيُوفِ الحَدِيديةِ' على عَمليّاتِها العَسْكَريّة على غَزة. وَ قَدْ هَدفَتْ مِن هذهِ التسْميَةِ الى تَحقِيقِ عِدّةِ غايَاتٍ، هي: أوّلاً، احْلالُ تَسمِيْةٍ خَاصّةٍ بِقوْاتِ الأحتِلالِ بَدلاً مِن خَوضِ المَعارِكِ بتَسمِيَةِ 'طُوفانِ الأقْصَى' الذي أَطلَقَتهُ حَركَةُ حَماس. و في هَذا تأَكِيْدٌ على هُويّةٍ لُغويّةٍ ذاتيّةٍ مُستَقِلّةٍ بدَلاً مِنْ اتّبَاعِ مَا تَفْرِضْهُ حَماس مِنْ تسْمِياتٍ. ثانيّاً، تَعبِئَةٌ نَفسِيّةٌ لليَهُودِ و أَنصَارِهِم دَاخِل الكَيانِ و خَارِجهُ مِنْ أجْلِ الأتّحادِ ضِد فَصَائِلِ المُقَاوَمَةِ و ازَالَةِ الخَوفِ النّاجِمِ عنْ عمَلِيّةِ طُوفانِ الأقْصَى المُفاجِأةِ و القَويّةِ. و تَستَنِدُ هذهِ التعبِئَةُ على بُعدٍ دينِيٍّ توراتيٍّ يُشِيْرُ الى مَنْعِ أَهل فلسطِين أَعمَالَ الحِدَادَةِ و السيُوف الحَديديّةِ على اليَهودَ في الزَّمَنِ القَدِيْمِ. و بِذا، تَرمِزُ تسمِيةُ السُّيُوفِ الحَدِيديّةِ' الى تَجْدِيِدِ روحِ الثّأرِ و الأنتِقامِ عنْد اليَهودِ بِتَأَثِيرٍ مِنَ النصِّ المُقَدَّسِ. ثَالِثَاً، تَصْميْمٌ عَلى ابَادَةِ حَماس و أهْلِ غَزّة الذيْن أَرْعَبُوا و أوْجَعُوا كَيانَ الأحتِلالِ. فَقَد وَرَدَ في سِفرِ الخُروجِ نَصٌّ يَقولُ: "فَهَزَمَ يَشُوعُ عَمَالِيقَ وَقَوْمَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ". ما يعْنِي أنَّ أرَادَةَ الأبَادَةَ ذات مَنظُورٍ دينيٍّ توراتيٍّ و شَكّلَ السّيْفُ في فِكرِهِم أدَاةَ هَذِهِ الأبَادَةِ للأعْدَاءِ. رابِعَاً، يُشيْرُ استِعمَالُ صِيْغَة الجَمْع 'السّيوفِ' لا المُفرْدِ 'السّيْف' الى نيّةِ خَوضِ حَروبٍ شَرِسَةٍ -لا حَرْباً وَاحِدَةً- و على عِدّةِ جَبَهاتٍ أيْضَاً.

المِثالُ الثّاني: فيْ وصَفِ مَنْ اعتَقَلَتْهُم حَرَكةُ حمَاس في السّابِعِ مِنْ تشْرِين الأوّلِ، يُصِرُّ كيَانُ الأحتِلالِ على تَرسِيخِ كلِمةِ 'رَهائِن' في وَسائِلِ الأعلامِ و الخِطابِ السِياسيّ العَالمِيّ. و يُهاجِمُ منْ جِهةٍ أُخرى كلَّ خطَابٍ يَسْتَعملُ كلمةَ 'الأسرى' فِي وَصْفِهِمْ. يَعيْ السياسيّونَ في كَيانِ الأحتِلالِ أنَّ لفْظَ 'الرَّهَائِن' يَدُلُّ على اعتِقالِ أشْخَاصٍ مَدَنيين مُسَالمِين مِنْ أجْلِ تَحقِيقِ أغْراضٍ سيَاسيّةٍ أو ماليّةٍ. بينَمَا يَدلُّ لفْظُ 'الأَسْرى' على اعتِقالِ أشْخاصٍ في وضْعِيِّةِ قِتَالٍ و حربٍ. و بَذا، يَهدِفُ كيَانُ الاحتِلالِ مِن وَراءِ هَذا الأستِعمالِ اللغُويِّ الى ايْجادِ تَصوّرٍ عامٍّ يرتَكِزُ على دَلالتَيْنِ أسَاسِيّتَينِ، هما: [أ] أنّ مَنْ تعتَقِلُهُم حَرَكةُ حماس مُجَرّد أشْخَاصٍ مَدَنيِّين أَبرِياء، لا عُلاقة لَهُم بالحَربِ. ما يَجْعَلُ اطْلاقَ سَرَاحِهم في نَظَرِ الرّأي العَالمِيّ وَاجِبَاً قانونيّاً و انسَانيِّاً. [ب] خَلق انْطِبَاعٍ عامٍّ في الخَطَابِ العَالميِّ بأنّ حَركَةَ حمَاس حَركَةٌ غيْر انسَانيِّةٍ. مَا يَفْرِضُ على الجَمِيْعِ مُحَارَبَتها.

المِثالُ الثّالثُ: يُكَرّرُ السِياسيّون و الكُتَّابُ في كَيانِ الأحتِلالِ وَصْفَ 'طُوفَان الأقصْى' بأَلفَاظٍ مَقْصُودَةٍ تَخْدُمُ روايَتَهُمْ. و مِنْ هذِهِ الألفَاظِ الأَكْثَرُ تِكْرَاراً في خَطَابَاتِهِم: هُجُوم حَماس، هُجُوم حَماس الوَحْشِي، مَجْزَرَة 7 اكْتُوبر، المَجَزَرةُ المُرَوِّعةُ، منْذُ 7 اكْتُوبر 2023، أَحْداثُ 7 اكْتُوبر، أَصْبَحَ 7 اكْتُوبر مَوعِداً تارِيخِيّاً. تُؤَدّي هذِه الألفاظُ عِدّةَ أهدَافٍ، و هي: أوّلاً، تَقْدِيْم حَرَكَة حَماس للخِطابِ العَالمِيٍّ كَحَركَةٍ ارهَابِيّةٍ. ثانيّاً، اظْهَار حَماس بِمَظْهَرِ المُعْتَدِ الذيْ بَاشَرَ العُدوانِ. و هَذا يَقتَضِيْ تَحْمِيْلَ حَرَكَةِ حمَاس مسْؤوليّةَ الدّمَارِ والأضطِرَاب في المَنطِقَةِ و أَوزَار الحَربِ. و يَخْدُمُ في طَمْسِ الأَفعَالِ الأجْرامِيّةِ المُتَوَاصِلَةِ التي يُمَارِسُها كَيانُ الأحْتِلالِ على فِلسْطِين -أهلِهَا، تاريِخِهَا، و أَرضِهَا- منْذ عُقُودٍ. ثالِثَاً، تَثْبِت الرَّبْطِ بيْنَ بِدايَةِ أعمَالِ العُنْفِ و السّابِعْ مِنْ تِشرِيْنِ الأوّلِ. أيْ يحْصُرُ خِطابُ الأحتِلالِ بِدَايَةَ التَأرِيْخِ للأحَداثِ الدّامِيَةِ في السّابِعِ من تِشرِينِ الأوّلِ و يُخْفِي مَا قِبْلَها مِن عُدوانٍ حَاقِدٍ على أهلِ غزّة و عُمُومِ فلسطِين.

المِثالُ الرّابِعُ: يَتَلاعَبُ خِطابُ كَيانِ الأحتِلالِ في الألفَاظِ التي يَستَعْمِلُها للْدَلالَةِ على وَقْفِ الحَرْبِ بيْنَمَا يَظُنُّ كَثيْرٌ مِنَ جَمْهورِ العَامّةِ و النُّخبَةٍ أيضَاً أنّها ذاتُ دَلالَةٍ واحِدَةٍ. تُسْتَعْملُ في سِياقِ انْهَاءِ القِتَالِ عِدّةُ الفَاظٍ يَتَوَجّبُ التّمييزِ بيْنِها، و هِيْ: [أ] الهُدْنَة Truce: اتفاقٌ غيْرُ مُلزِمٍ لوَقفِ الحَربِ يَجرِي بيْنَ المُتَحَارِبيْن وَ لا يَعنِي انهَاءَ الحَربِ، و قدْ يكُونُ في منطِقةٍ مُحدّدةٍ منَ الصِّراعِ. [ب] وقْفُ الأَعمَالِ العِدَائيِّةِ cessation of hostilities: اتفَاقٌ أَكْثرُ رسْمِيةً منَ الهُدنَةِ و لكِنَّهُ غيرُ مُلْزم، يَعنيْ اعلانَ طرَفٍ أو طَرفَيْ الصِّراعِ تعليْقَ القِتالِ و بِدايةَ المُفاوَضَاتِ.[ت] وقْفٌ انسَانيّ humanitarian pause: وقفٌ مؤَقتٌ للأعْمالِ العِدائيِّةِ منْ أجلِ أهدافٍ انسانيّةٍ، و يكُونُ لفتْرةٍ محدودةٍ أسَابيعَ أحيَاناً و في منطقةٍ محدَّدةٍ من الصّراعِ. [ث] أيامُ الهُدُوءِ days of tranquility: وقْفُ الأعْمالِ العِدائيّةِ و اطْلاقِ النّارِ بيْنَ المُتَحَارِبين لأيامٍ معْدودةٍ من أجلِ تقدِيمِ الرعايةِ الصحيةِ و الغذائيةِ للأَطفالِ. [ج] وقفُ اطلاقِ النّارِ ceasefire: اتفاقٌ لوقفِ القِتالِ في منطقةِ الصِّراعِ كلِّها، و هو غيرُ ملزمٍ، مؤقتٌ في طبيْعتِه، و يُتَوقَّعُ أَنْ يستَمِرَّ لفترةٍ أَطْولٍ لكنّهُ لا يعْني نهايةَ الحَربِ، و يضَعُ الأطرافَ المُتَحَاربة في اتصالٍ من أجلِ تسْويةٍ مُحْتَملةٍ دائمةٍ. [ح] اتفاقٌ شاملٌ armistic: اتفاقٌ رسميٌّ لأنهاءِ الحَربِ و كافةِ الأعمالِ العِدائيّةِ، و لكنَّه ليسَ اتفَاق سَلام.

في الخِتَامِ، يُشَكِّلُ 'الصّرَاعُ' ظَاهِرَةً أسَاسِيّةً في الأجْتِمَاعِ الأنسَانِيِّ. و تَتَعَدَّدُ الأدوَاتُ التي يَستَخدِمُها الأشْخاصُ أو التنْظِيمات الأنْسانيّةِ في صِراعَاتِهِم. و تُعَدُّ اللغةُ أحد أبْرَز هذه الأدوَات كَمَا تُبَيِّنُ الأمثِلةُ السّابِقَةُ. ما يُوجِبُ على قَادَةِ كُلِّ صِراعٍ الأنتِباه الى لُغَتِهِ و لُغَةِ خَصْمِهِ أو عَدوِّهِ.فاللّغةُ دَورقٌ ضَخْمٌ يَبتَلِعُ الوَاقِعَ و يُعِيْدُ انتِاجِهِ.