حين تضيقُ بالفلسطينيّين سُترة العالَم

mainThumb
فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

04-05-2025 12:53 AM



ليسَ تبلُّداً هذا الذي أصاب الدمعَ والكلامَ في آنٍ، وليسَ تحجُّراً أن نمرَّ، دون أن نستطيع الكتابة مباشرةً، على مشاهد أطفالٍ بلا رؤوس وأجسادٍ متفحّمة وصحافيين يحترقون أحياءً في الخِيام، ثمّ نهرِّبَ أبصارَنا إلى زوايا أخرى؛ تحايُلاً على فداحة الألم وتشاغُلاً عن الدنيا بها، كأنّ الضحيّة فينا "ضاقت ذرعاً بمكانتها وبحاجتها (المستمرّة) إلى البطولة"، وكأنّ التّجاسُر، الذي لا يُقارَنُ بما لدى الجالسين تحتَ الموت واحتمالاته، خفّ ووَهَن، وكأنّه الخذلانُ لا أفقَ إلّاه، لنا ومنّا.
في الرّباط حيثُ أقيم، يتحاورُ صديقاي الفلسطينيّان حولَ ما جرى؛ يظنُّ الأول أنّ المظاهرات التي خرجت أخيراً في غزّة مفبركة، وجرى تهويلها كما جرى تمويلها من أطرافٍ عربيّةٍ يُشير إليها بالـ"ومى" (وهو الذي كان قبلاً هوّل قدرات المقاومة)، فيما الآخر يعتقد أنّها مسيراتٌ بالآلاف وتعبّر عن غضبٍ عام (وعارم) من "حماس"، ويرى أنّ على الحركة تسليم غزّة والأسرى ونفسها أيضاً، والخروج من المشهد (أيّ مشهد؟) باستسلامٍ جماعيّ تعلوه رايات بيضاء تمهّد الطّريق لتناسخ الوهم الأوسلويّ المثبت فشلُه هو الآخر، وتجاهلا أو كأنّهما... طرفاً أساسياً لم تتوقّف آلة إبادته، ولا يشكُّ عاقلٌ أنّه لا يريدُ أو لا يعرفُ كيفَ سيتوقّف حتّى لو ركع الفلسطينيون كلّهم دفعةً واحدة، إذ شهيّته للَحمِ الفلسطينيين، (والعرب أيضاً أو فلنَقُل بعضهم حالياً)، وتوحّشه لابتلاعِ المزيد من التّراب والدّم، لا يحدّهما شيء، أمام عالمٍ يُعرِّف الأخلاقيّة والإنسانيّة والعدالة والحضارة بما تشتهي وتفعل إسرائيل.
أمّا أنا فليس عندي "خِلِقْ" للتورّط في نقاشٍ مثل هذا (والحالة الفلسطينيّة كلّها مصابة بـ"ضيق الخِلِقْ" على رأي الجدّات الفلسطينيّات)، وليس لديّ قدرةٌ أبداً على المناكفة في ما آلت إليه أحوالنا، ولا جلدِنا أكثر إذ وقفنا شهود زورٍ على دمنا، مع أنّ ثمّة جُمَلاً تختصرُ أشياء كثيرة، لكن سيكونُ من المُحرجِ والمؤذي في آنٍ معاً شرحُها، وشرح آلاف الأسئلة العالقة أجوبتُها في الحلق.. خَجَلاً (...والخجل عاطفة ثوريّة)، أمامَ آلافِ التناقضاتِ التي باتت تصبغُ يوميَّنا بالبُقع المريضة والدّاكنة والرّماديّة والمتناقضة.
أكتُبُ مؤخراً من نقطةِ إحباطِ العارف، (أو الذي يظنُّ أنّه يعرف؛ ذاكَ أنّ "كلّ إنسانٍ يظنُّ أنّه أوتي الكفاية" من عقله)، وهشاشة المهزوم، وأصمتُ صمتَ المخذولِ المترفِّع المصاب برَبْكةٍ وجوديّة (كانَ وصَفَ شاعرٌ مغربيٌ آخَرَ فلسطينياً فقال: "لقد خذلتْهُ فلسطينيّته".. أو كأنّها)، وأنزوي.. أهُشُّ سيلَ الأجوبةِ عن فَمي، وأُهرِّبُ صُورَنا المتشظِّية، وأخافُ علينا كثيراً مِنّا. تتوسّع إسرائيل في الأراضي العربيّة، وتمتدُّ "أياديها" الكثيرة وتتطاول، ويتّسع أمامها المدى المفتوح للتّوحّش، في الوقت الذي تضيقُ بنا فيه.. سُترةُ العالم. تضيقُ كُلّما تَقدّمنا أو حاولنا التّقدّم، تماماً كما كان يضيقُ الحذاءُ بأقدامِنا صغاراً، غير أنّنا اليومَ لا نملكُ رفاهيّة تبديلِ هذه السُّترة.. أو رتْقِ مِزَقِها التي تُظهِرُ لحمنا المتورِّم جداً، ولحمنا الذي شتّته الطائرات، لم نعد نملكُ أيّ رفاهيّةٍ تجاهَ الأشياءِ التي تضيقُ كلّها دفعةً واحدة بنا وأمامنا وفي وجهنا، رحلةٌ عبرَ الضيقِ هذه الحياة، إلى ضيقٍ أشدّ في قلبِ "أُمّنا الأرض"، ويبدو أنّ ما يضيقُ لا يتّسعُ أبداً (أضيفُ "يبدو أنّ" مرغماً).
يضيقُ الكلامُ أيضاً، ونضيقُ بهِ وتضيقُ به اللّغة، فيصبحُ الإنسانُ أقلّ رغبةً في خوضِ حديثٍ، أو نقاشِ أفكار تفقد قيمتها مع رائحة الدّم.. ويبدو أقلّ تحمّلاً لسماعِ أيّ شيء، من أيِّ أحد. ربّما تمرّ أيامٌ الآنَ دونَ كلامٍ، أو نطق (أفرّقُ بينَهُما)، حتّى بينَ (الإنسانِ ونفسه)، وفي خضمِّ هذا كلّه، تضيقُ (أو تُضيَّقُ) الجغرافيا على الفلسطينيين، ويُهرعُ المؤمنونَ بإسرائيل قَدَراً لا يُرَدّ ويتداعون إلى المساهمة في تيهٍ فلسطينيّ إضافيّ في الأرض، وإذا ما استثنينا أنّ "القومَ في السِّر غيرُ القومِ في العلن"، فإنّ مواجهة الإبادة الجماعيّة وسياسة الأرضِ المحروقة التي تُهجِّر الناس على نحوٍ منظّم وتحاصرهم في منطقة "المواصي"، والتي تخيّرهم الآن بينَ الموتِ والتّهجير داخلياً وغداً بين الموتِ والتّهجير خارجياً، هي الاستمرار في بيانات الشّجب والإنكار، وقد لا تَصدُرُ أحياناً أو تتأخّر، حتّى تصحوا وزارات الخارجيّة من النّوم، والاستمرارُ في نداءِ مَواتِ المجتمع الدوليّ.
قد يُهجّر الفلسطينيون كلّهم ذات صباح، إذ لا جنديّ "يحلمُ بالزّنابق البيضاء" في إسرائيل، وقد يقتبسُ الدّعاة من بعد "ألم تكُنْ أرضُ الله واسعةً"، وقد يقول القوميّون إنّ "البلاد العربيّة واحدة"، والإسلاميّون "إنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدة"، وقد يتفشّى أكثر تيارُ تحميل الفلسطينيين وزرَ أنّهم احتُلّوا أصلاً وأنّهم لم يستطيعوا الموتَ بلا ضجيج، وأنّهم "نغّصوا" فُرصَ السّلام وألّبوا الشّعوبَ على حكوماتها وحكّامها، وقد نُصبح في ذيل نشرات الأخبار والصّحف، أو نختفي منها، ولن تضطرَّ "لو موند" الفرنسيّة مثلاً إلى تخصيص مساحةٍ لتغطية احتجاجات البشر في غزّة (الذين "ضاقتْ عَلَيْهم الْأرضُ بِما رَحُبَت وضاقَتْ عَلَيْهم أنفُسُهم"...) أكبر جداً من مساحة تغطية قتلهم وتجويعهم وتهجيرهم وحرقهم، قد يحدثُ كلّ هذا، وقد يُبرَّرُ أيضاً، لكنّ ثمة دماً سيظلّ صارخاً من الأرض، وإنّه (الدم) ليَفتَحُ في الأرض مجرى نهرٍ، وإنّه سيستطيلُ حتّى صدرِ كلّ واحدٍ منّا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد