جعابير الحصن .. آخر ايام الصيفية .. !

mainThumb

08-07-2009 12:00 AM

 محمد حسن العمري

الوجه الحسن والخضراء لكن من غير الماء او من الماء القليل !!

لعل هذا اقرب الوصف قبل ان اوغل في وحل اربد الجميل ، وقبله اتفق مع الوصف بان اربد هي القرى بينما عمان هي عمان والقرى من حولها لتبقي على حيوتها وتذكرها دوما ان الارض ما زالت على (الارض!)...

منذ سنوات دأبت على التوقف في كل الاجازلات التي اقضيها هنا في الاردن متنقلا بين اربد وعمّان في ،الطريق الطويل الكاكي ، الباقي من لون الارض بين عمان المدينة واربد (القرى ) ، لا يثيرني فيها غير اصحاب الخيم من تجار الصيفية يبيعون التين والقثاء والشمام والبطيخ و ( القنار) ورمان جرش الجميل الذي يشبه بعض جمال النساء ، في كل عام يشدوك بالحداثة في التنوع العجيب الرائع مما تجود به الارض ، هذه الايام يغريك مثل ما فعلت اليوم بشراء اليقطين الاصفر العملاق الذي تزن الحبة مثل التي اشتريت 15 كليو ، وثمة ما هو اكبر ، وحدها الجعابير ، التي لا تكبر كابن جلدتها الشمام تظل صغيرة ، لا تشدك المطلق بشكلها الذي لا يوحى بذائقة رائعة يمتلكه طعمها بالفعل ، هذه الجعابير الخضراء الصغيرة المكومة على بسطات صغيرة عند معظم تجار الصيفية على دفتي طريق الحصن – عمان ، شاهد لا يغيب عن بقية زراعتنا التي تنحسر بقعتها كل عام اكثر بعوامل لم تقدر ان تنقذها الازمة الاقتصادية الراهنة والتي كان من الممكن ان تسحب الناس هنا مرة اخرى نحو الزراعة ، لا يبدو ذلك متاحا ابدا والناس تبحث عن سد الفجوة الاقتصادية بالربح ( الهرموني ) المتضخم من غير دراسة ، كما فعلت الكثير وليست كارثة البورصة الا منحى بسيط لتفكير ( الفاست فوود ) الغائب عنه كل ابجديات التجارة والسوق...!

***

لعلك تشعر بالسعادة مثلي ان ثمة بقعة في هذه الارض مازالت تستحق الحياة ، تلد كل صيف هذه الاكوام الجميلة الحمراء والخضراء والصفراء ، تفتح شهيتك نحو الارض اكثر ، هذه الارض التي تتصحر يوما بعد يوم ، ولا ندري اين تسير..

***

فيما مضى كانت بعض قرى اربد التي اعرف ، ارضا ولودا مثل ارحام النساء ، كانت قرية كفر ابيل والاشرفية هي اجمل اراضي الاردن التي تخضر صيفا بفعل الكوسا التي لا يشبه خضرته حتى الاخضر في لوحات الرسامين ، وقرية خريم الممتدة عن قرية جنين الصفا التي يشبه ترابها وتراب قرية سموع اخر فنجان القهوة التركية المائل الى اللون الكاكي ، كانت هاتين المنطقتين تنجب قثاءً صغيرا جميلا لا تشبهه اصابيع ( البوبو) في مسلسلات ابو رباح القديمة ، وكانت المنطقة الممتدة من منطقة حوفا المزار الى اخر طريق عجلون ، تتصل بسلسلة واحدة تسور الصيفية بطوق جميل من عباد الشمس الذي يميل معها اذ تميل ، يميل مع الشمس اذ تميل ...

***

في المثال يقولون : كالذي يبيع الماء بحارة السقاية ..وفي القرى كانوا يقولون : كالذي بيع الصبر بجحفية ، وجحفية قرية تكثر فيها السناسل الحجرية التي كانت تغطيها نباتات الصبر العريضة المدببة بالشوك ، والصبر الذي اعشق ويعشقون ، قبل نحو ستة اشهر مررت قريبا من جحفية ، بعض السناسل تهدمت وامعنت النظر جيدا ، قليلا من الصبر باق والاكثر ذهب مع اي شيئ ذهب معه..

***

كانت منطقة بيت يافا والدير و صولا الى قرية صما وما بعدها من القرى التي لا اعرفها جيدا تكون مسرحا ذهبيا واحدا للقمح ، اذ تمر اليوم تجد هذا المسرح خاليا من الجمهور والممثليين كذلك...

***

ليس من نافلة القول ابدا ان منطقة البقعة حيث انشئ المخيم اثر هزيمة 67 ، كان اخصب بقعة في الاردن ، ويذهب اساتذة زراعيون الى ما هو ابعد من ذلك باعتباره اخصب بقعة زراعية في العالم ، هذا المخيم الذي هو ايضا امتداد لذات الطريق بين اربد وعمان ، هو اليوم شاهد على هذا الانحسار المؤلم للزراعة الا من بعض البيوت البلاستيكية وبعض تجار الموز والبطيخ الذي لا يزرع اصلا في هذه المنطقة الاخصب اردنيا او عالميا ، ما كان بالطبع يضير الامم المتحدة او وكالة الغوث لو بنيت المخيمات على الجبال غير الزراعية المتأخمة للسهول الزراعية كحوض البقعة ، لكن لا يختلف اليوم اثنان ان وراء الاكمة ما وراءها ، ووراء هذا التخطيط الطويل ما وراءه...!

كان المرحوم خالد الحامد الذي توفى منذ عشرة سنوات وعمل بالزراعة في حوض البقعة اربعينات القرن الماضي ، وكان يبيع البندورة البقعاوية في حيفا يقول ان سعر هذه البندورة هناك كان يباع بخمسة اضعاف سعرها او يزيد ، كان يقول ايضا ان الحسناوات اليهوديات كن يحاولن استدراج تجار البندورة القادميين من الاردن عبر الشريعة وعبر بيسان ، كانت الشعر الاشقر يملأ حيفا ، والمخططات تجرى واسلحة العرب الفاسدة في المخازن..

***

قرية تبنه وقرية عنبه والتي خرجت معظم قرى شمال اربد ، كان يصفها المرحوم الشيح عبدالله الكليب الشريدة بانها المشتل ، والمشتل هو منبت البندورة ، والتي تنتشل من المشتل للتزرع في الارض الاخرى ، وعبدالله الكليب الذي توفي منذ سنوات بعد ان ناهز فيما اعرف المائة والعشرين سنة هو ذاته الذي كان رئيسا لمجلس النواب الاردني في عهد الوصاية الدستورية قبل السن القانونية لجلالة المغفور له الملك حسين في اول عهده ،كان يسمي هذه القرى المشتل لانها انبتت بقية قرى اربد الشمالية منها ، وهي اليوم بائسة كحال الارض نفسها..

***

كانت قرى المزار وهام وبيت يافا هي القرى المعروفة بتجارة الابقار ، وكان ثمة تاجر ابقار مزاري يمتلك من فنون التجارة ما لا يمتلكه كل رؤوساء الادارات في الشركات التي تبيع وتشتري وما لا يمتلكه اساتذة

MBAفي التسويق

، كان اذا اراد ان يبيع بقرة يقول للمشتري : بكم تدفع في الهولندية ، ومعروف ان البقر الهولندي سمين وغالي السعر ، واذا اراد ان يشتري من رجل بقرة يقول له : بكم تبيع ( قرعومة) هالبقرة ، في اشارة الى هزلها ، فيسسحق نفسية البائع ، يبيعها باقل الاثمان ، ويرفع معنوية المشتري فيشتري الاخرى باعلى الاسعار..!

لا اعرف اين ذهبت تجارة الحلال اليوم التي لا اسمع عنها الا في عيد الاضحى ، تباع وتشترى للاضاحى ليس غير..

***

كانت قرية جديتا وهي ذاتها المنكوبة اليوم بفلذة كبدها التائه اللغز ورد ، هي السوق الاوسع لبيع الخضرات في تلك القرى ، كان اهل القرى يطلقون عليها اسم كويت الكورة ، لان ابناء القرى المجاورة يبيعون خضراواتهم فيها بعد ان يضعوها في صناديق ، سالت صديقي الدكتور جعفر ربابعة وانا اكتب الان ، هل مازال اسم – كويت الكورة – يطلق على جديتا ، فحلق صاحبي اكثر وقال : الان صار اسمها سنغافورة الاردن..!

***

بالامس عائدا من عمّان ، ركبت معي امرأة مسنة يعني ( حجة) وهي والدة بائع الشمام الذي اشتريت ، اوصلتها الى اول مدخل الحصن ، قالت لما سألتها وهي من ملامح قرى اربد ، انها من الشمال ، قلت اعرف من الشمال ، ولكن من اي شمال ، اضافت الى ثقافتي مصطلحا جديدا وهو ان الشمال الذي نعرف في الاردن هو اربد وقراها ، ولكنه اذ قيل هنا في الشمال يعني سوريا او درعا ، اول مرة اسمع هذا التعبير ، قالت المرأة انها من عائلة الفاعوري ، قلت لها اعرف ان الفاعوري عائلة سلطية عريقة ، فقالت بثقة عالية : نعم موجودين نحن في سوريا والسلط ، قبل ان تكون هناك حدود اصلا..

قالت اذا كان ابنها قد غلبني بالسعر فممكن ان نرجع له مرة اخرى ، قلت لها انه لو طلب بالكيلو دينار كنت ادفعها وانا راضِ ، نزلت بعد ان امطرتني بالدعاء...

***

قبل نحو عشر سنوات كذلك ركب معي رجل مسن كان يومها في الثمانيين ، واوصلته الى قرية ايدون ، وهو من عائلة المعايعة ، التي تبين لي انها غير عائلة المعايعة في مأدبا لان الرجل كان مسيحيا من قرية عنبة ايضا ، وخرج منها واولاده المتعلمون الى اربد منذ سنوات طويلة وكان يتردد على بعض اصدقائه القدماء هناك ، قال لي يومها انه في بعض السنوات كانت الناس تعمل من القثاء مقدوس واحيانا تطبخه كما تطبخ الكوسا واحيانا كانت تصيره الى – مربى- لكثرة الفائض منه ، اذكر ذلك لكن لا اذكر كيف يصير القثاء مربى...!

***

هذه المنطقة الكاكية اللون بلون حرث الارض بين ايدون والنعيمة التي تشد حتى من لا تربطه بها تاريخ، شاهدة حية جميلة على الحنين المتبقى مع الارض التي تصغر ، وتصغر فيها الهمم اكثر ، هذه المنطقة ايضا فيما اعرف لا يعتبر اهلها من الفلاحين او الزراع ، فمعروف هنا في شمال الاردن ان اهالي الحصن ، والتي اعرف منها الكثر ، متعلمون جدا وقليل منهم من عمل بالزراعة على مدار العهود الماضية ، ولعل الحداثة التي سبقتها عن بقية قرى اربد مرتبطة بفعل التعليم وبفعل العنصر المسيحي فيها ايضا ، والمعروفيين اردنيا وعربيا بكثرة الهجرة للعمل اوالتعليم في المهجر ، وهو ما ينطبق على قرى اردنية وعربية اخرى في مصر ولبنان وسوريا ، ساهم التنوع الاثني او المسيحي تحديدا في ان تقطع شوطا متقدما عن مثيلاها من القرى ، تجده في الحصن وتجده ايضا فى قرى عربية كثيرة ايضا..

***

اكتب عن الزراعة لا ترفا ولا استعراضا ، اكتب عنها وانا اعيش خارج البلد مديرا في احدى الشركات ، افتخر اني زرعت وحصدت ، زرعت كل انواع الصيفية مع ابي يوما ما ، وحصدت القمح والكرسنة وانا على مقاعد الجامعة وكنت ذلك الوقت اكتب في الصحافة واحصد الارض ، لا ينقصني تذكر ذلك شيئا ، بل يشحنني كل حين كما تشحنني الكتابة عنه اللحظة...!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد