القرآن ليس حكراً على أحد

mainThumb

21-06-2008 12:00 AM

لم تكن أجواء الاحتفال مفعمة بالرهبة والإجلال، ولم يلبس الحضور حللاً جليلة تضفي على أصحابها هالة من الوقار، ولم تبد القاعة التي كادت تغص بمختلف أنواع الناس أنها بنيت في القرن التاسع الميلادي على أيدي أعظم مهندسي الأندلس.

بل على العكس، كانت صالة متعددة الأغراض، رسمت على أرضياتها خطوط تشير إلى أماكن تمركز اللاعبين، وعلى أطرافها خطوط أخرى تدل على أماكن وضع المرمى، وعلى جدرانها خطت بعض الإرشادات التي تنبئ ببعض العقوبات لمن يسيء استخدام المكان.

أما المسرح فلم يبدُ أنه نفسه الذي احتضن أول مسرحية في التاريخ والتي وضعها (أسخيلوس) عام 490 قبل الميلاد، ولم يكن أبداً مسرحاً شكسبيرياً حيث لم أتمكن من اقتفاء آثار دماء عائلة (هاملت) التي أثخن فيها الأمير الدنماركي الجراح لا لشيء إلا لأن شبح أبيه الميت ظهر له فجأة وأمره بالانتقام لمصرعه من عمه الخائن.
كان الأطفال يركضون في كل اتجاه، وكانت أصوات الأهالي تتعالى مرة بالضحك ومرات أخرى بتوبيخ أطفالهم الذين أشعروا الجميع بأنهم ينتظرون أن يزاح الستار عن مسرحية طفولية تزيد من بهجة ذلك اليوم اللطيف.

كنت قد جهّزت الكاميرا لالتقاط صور تذكارية لابني سعيد الذي فاز في جائزة حفظ القرآن الكريم، حيث عكفت أمه - وحاولت أنا كلما سنحت لي الفرصة - على تحفيظه السور التي كانت ضمن المسابقة، وفي كل مرة كان يحفظ فيها شيئاً كانت تأتي له بهدية مجزية لتشجعه على حفظ المزيد.

كنت كلما دخلت البيت أسمعه يردد بعض الآيات وهو يلعب مع أخيه الصغير عمر، أو وهو يقلّب صفحات بعض الكتب، حتى وهو يجري في البيت كان يردد تلك الآيات استعداداً للمسابقة. كنت أظن أن يوم التكريم سيكون مليئاً بمن يصنّفون أنفسهم بأنهم متدينون، ولا أدري من أين أتى هؤلاء بهذه التصنيفات التي أعتقد بأنها أقرب إلى فصل الدين عن الحياة من دمجه فيها.

فعندما يصف البعض برنامجاً ما على أنه برنامج ديني فإن ذلك يعني بأن جميع البرامج الأخرى غير دينية، وعندما يصنّف الإنسان نفسه - أو حتى إذا اعتقد ذلك خلسة ـ على أنه متدين فإنه يرمي إلى أن الآخرين غير متدينين، أي بلا دين، وهو تصنيف شبيه بوصف الرئيس الأميركي لكل من ليس معه بأنه ضده!

واعتقدت أيضاً بأن القاعة ستكون ملأى بالمواطنين والعرب فقط، لأنهم يتحدثون اللغة العربية، وإذا بي أجد أولياء أمور من مختلف جنسيات العالم، الشرقية والغربية، أتوا جميعهم شاهرين كاميراتهم لتصوير أبنائهم في هذا اليوم البهيج.

عندما بدأت مراسم الاحتفال وبدأ العريف ينادي على أسماء الطلبة ليصعدوا إلى منصة التكريم تقدم نصف من في القاعة إلى الصفوف الأمامية لالتقاط الصور، وكانت مفاجأتي عظيمة عندما رأيت أشكالهم.

فمعظم النساء لم يكنّ محجّبات، حيث كنّ من بعض الجنسيات الآسيوية وبعض البلدان العربية، وكنّ على النقيض التام للاحتشام، وكنّ كلما سمعن اسم أحد أبنائهن يصرخن وكأنه فاز في مسابقة ستار أكاديمي - عندما قارنت أشكالهن بالمناسبة هذا ما تبادر إلى ذهني، فلم أتصور أن تكن هؤلاء النسوة أمّهات لحفظة القرآن ـ بل إن بعضهن كان يبكي من شدة الفرحة، وكنّ يتبادلن القبل والتهاني بفوز أبنائهن وبناتهن في المسابقة.

رأيت رب عائلة آسيوية يحاول تقبيل يد الشيخ زغلول النجّار الذي كرّم الأطفال، وكانت زوجته تقف إلى جانبه وتشكره باللغة الإنجليزية حيث أحجمت عن مصافحة الشيخ على الرغم من أنها لم تكن ممن يقمن حاجزاً بينها وبين الرجال على ما يبدو، ولكنها قدّرت أن الشيخ قد يستاء إذا مدّت يدها.

استغربت من تلك المرأة التي فاز ابنها وابنتها في المسابقة، والتي تحترم بعض القواعد التي على الرغم من عدم تطبيقها لقواعد أهم منها إلا أن ذلك لم يمنعها من احترام الموقف، فليس بالضرورة أن يكون الشخص متديناً ليفهم الدين ويحترم تعاليمه. بعد أن انتهى الحفل تمعنت في تعابير وجوه الحضور، فهنا امرأة تبكي وهناك رجل يقبل ابنته أو يحتضن ابنه.

بعض النساء كن منتقبات وبعضهن لم يعرفن للحشمة طريقا. هنا رجل أطال لحيته وقصّر ثوبه، وهناك آخر يلبس قبعة وحلق لحيته... الجميع في قاعة واحدة، وكلهم أتوا من أجل شيء واحد.. الاحتفاء بالقرآن الكريم. فحتى الذين لا يطبقون تعاليمه الجليلة يعرفون تماماً أنه أساس الدين وأنه هويّتهم، وأنه أيضاً صواب حتى وإن كانوا لا يمارسونه، إلا أنني قرأت في وجوههم رغبة جامحة في أن ينبت أبناؤهم وبناتهم نباتاً حسناً ويتحلّون بأخلاق القرآن التي أحجموا هم عنها.

في تلك اللحظات التي سجّلتها في ذاكرتي وفي مفكّرتي أيقنت بأن القرآن ليس حكراً على أحد، لا متدين ولا ملتزم، وأن القرآن ليس ملكاً لفئة بعينها تفسّره كيفما تشاء لتخدم مصالحها أو مصالح من يعلوها باسم الدين، وأيقنت أيضاً بأن الحكم على الإنسان من شكله هو أكبر طامّة حلّت على المسلمين مؤخراً، وان كره الآخر لا لشيء إلا لأنه لا يشبهنا أولا يتشبّه بنا ليس ذريعة لنخرجه من رحمة الله التي وسعت كل شيء.

نعم، نعتقد بأن الاحتشام والتشبه بالصالحين هو إحدى أدبيات ديننا العظيم، ولكن تكفير كل من لم يقم بذلك وإخراجه عن الملّة وإنزال اللعنات به هو أول الخطأ ونهاية الصواب. أستغرب ممن يدعو إلى الله بين الذين يعبدون الله حق عبادته ويترك من ابتعد عنه، وأعجب كل العجب من أنهم يحاولون إصلاح مجتمع هو أصلاً «صالح» في تعبيرهم.

القرآن أشمل من أن يصنّف لفئات معينة، وأجمل من أن يعرّف بأشكال معينة، فالله عز وجل لم ينزل القرآن ليُشقي به أناس أناساً آخرين (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) بل إن الذين أرادوا أن يتبحروا في العربية من غير العرب والمسلمين إبان ذروة الحضارة الإسلامية كانوا يتعلمون اللغة من خلاله لينقلوا بعد ذلك علوم المسلمين إلى الغرب ويؤسسوا على إثرها مدارس لتعليم مختلف العلوم، من الطب وحتى الشعر.

كنت مرة في الحرم المكّي مع مجموعة من الأصدقاء وكان إلى جانبنا رجل يقرأ القرآن، فالتفت إلينا وسألنا عن بلدنا، وبعد أن أخبرناه قال لنا:«الحمد الله الذي فضّلنا عليكم بجوار الحرم» فأشحت بوجهي عنه وقلت في نفسي هل اطلّع هذا الرجل على الغيب فرآنا في النار ورأى نفسه في الجنة، أم أنّه قرأ القرآن ولم يتجاوز حنجرته بعد؟

الله المستعان.

* نقلا عن صحيفة "البيان" الإماراتية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد