لحظة لالتقاط الأنفاس

mainThumb

24-06-2008 12:00 AM

إذا كان الترحيب باتفاق التهدئة واجبا، فإن إدراك ملابساته وخلفياته أوجب، على الأقل لكي نعطيه حجمه ولا نحمله بأكثر مما يحتمل.

ما حدث يشكل تحولا جذريا (دراماتيكيا) في الموقف الإسرائيلي. هكذا ذكر تقرير مجلة «تايم» الأميركية في عددها الأخير، الذي أضاف أن حكومة أولمرت ظلت ترفض أي تفاوض مع حماس باعتبارها منظمة «إرهابية». ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تقترب شعبيته من الصفر اختار أخيرا أن يدخل في حوار غير مباشر معها، لأن الخيار الآخر المتاح أمامه هو القيام بعملية عسكرية كبرى في قطاع غزة لإسكات صواريخها، وهو ما قد يكبد القوات الإسرائيلية خسائر بشرية فادحة، فضلا عن أنها قد تفشل في تحقيق هدفها.

هذا التقييم صحيح إلى حد كبير، ذلك أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي توافق فيها حكومة الدولة العبرية على تهدئة متبادلة مع الفلسطينيين. صحيح أن ثمة جولات من «التهدئة» تمت من قبل، كانت آخرها في سنة 2005 بعد انتخاب أبو مازن رئيسا للسلطة الوطنية وقد امتدت لعشرة أشهر، ولكن تلك التهدئة كانت من الجانب الفلسطيني وحده، ولم تكن متبادلة. ومن المفارقات في هذا الصدد أن إسرائيل التي ساندت أبو مازن واعتبرته رجلا «معتدلا» وفتحت أبوابها للتفاوض المباشر معه طول الوقت، لم تقدم له شيئا يذكر في مفاوضاتها معه، فلم تطلق سراح أسير واحد، ولم ترفع حاجزا واحدا من الضفة، بل وضاعفت من تمدد المستوطنات فيها، كما أنها واصلت من عدوانها على الفلسطينيين هناك، حتى أنها قتلت ستة من أبناء الضفة قبل ساعات قليلة من سريان التهدئة في قطاع غزة. وفي حين كان ذلك موقفها من السلطة في رام الله بكل رصيدها في «الاعتدال»، إلا أن موقفها من سلطة حماس في غزة كان مختلفا، حيث قبلت بالتهدئة المتبادلة معها، ووافقت على رفع الحصار الاقتصادي بصورة تدريجية عن القطاع.

وكان لافتا للانتباه أن قرار التهدئة وافقت عليه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وقيادة الجيش والمجلس الوزاري المصغر. كما بين أحدث استطلاع أن 68? من الإسرائيليين يؤيدونه، رغم أن معارضيه ذكروا أنه استسلام لحماس يعبر عن تآكل الدرع الإسرائيلي. ويمثل إضعافا لأبو مازن، وإحراجا للمعتدلين العرب، وخيانة للإدارة الأميركية القائمة على عدم التوافق مع الإرهاب.

لماذا أقدمت إسرائيل على تلك الخطوة غير المسبوقة؟

هناك أكثر من إجابة على السؤال، منها أن الحصار الذي استمر عاما فشل في أن يحقق أهدافه، فلا هو دفع الناس للثورة ضد السلطة في القطاع، ولا هو أوقف إطلاق الصواريخ منه. منها أيضا أن استمرار الحصار بدا محرجا لإسرائيل وأصدقائها، حيث بدأت بعض الدول تتململ منه باعتباره يمثل جريمة حرب وانتهاكا لمواثيق حقوق الإنسان، الأمر الذي دفع تلك الدول إلى تجاوزه ومحاولة الاتصال مع حماس، (فرنسا مثلا). منها كذلك أن أولمرت يريد أن يهدئ الأجواء من حوله لكي يتفرغ لمواجهة المشكلات الداخلية التي تمسك بخناقه. منها أيضا أن التهدئة تتيح للإسرائيليين التفرغ للتعامل مع الملف النووي الإيراني الذي يسبب إزعاجا كبيرا لهم.

رغم تعدد الأسباب إلا أنني أزعم أن السبب الأول يكمن في الفشل الإسرائيلي في إسكات الصواريخ التي بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية في إطلاقها من غزة منذ شهر يونيو عام ,2001 وكان تصنيع ذلك السلاح في ظل الإمكانيات المتواضعة المتوفرة للفصائل من إبداعات المقاومة الفلسطينية المدهشة. ذلك أن التفوق الإسرائيلي الكاسح في السلاح والتضييق الشديد الذي أدى إلى منع دخول أية عناصر يمكن أن تدخل في تصنيع الصواريخ، بما في ذلك منع مواد التنظيف وحظر مادة اليوريا التي تستخدم في الزراعة. ثم القصف والتدمير المستمران لكل ورش الحدادة، ذلك كله لم يحل دون نجاح الفصائل في تصنيع الصواريخ وإطلاقها، حتى يذكر تقرير حول الموضوع أعده مركز الزيتونه للدراسات في بيروت (صادر في إبريل 2008) أن خبراء كتائب القسام لجأوا إلى روث البهائم لاستخراج بعض الغازات والمواد الكيماوية التي استخدمت في تصنيع المتفجرات. وأشار التقرير إلى دراسة صدرت في 4/3/2008 عن مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب أن الفصائل الفلسطينية أطلقت على البلدات الإسرائيلية 2809 صواريخ، في الفترة من 26/10/2001 إلى بداية شهر فبراير .2008

صحيح أنه لا وجه للمقارنة بين أعداد الضحايا الإسرائيليين الذين أصيبوا جراء تلك الصواريخ وبين نظرائهم الفلسطينيين، إلا أن هناك ملاحظتين في هذا الصدد، الأولى أن إسرائيل تواصل قتلها المنظم للفلسطينيين دونما أية علاقة لذلك بالصواريخ، فقد أظهرت إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد الشهداء الذين سقطوا خلال انتفاضة الأقصى التي اندلعت في 28/9/2000 (قبل وجود الصواريخ) قد وصل في 29/2/2008 إلى 5227 شهيدا. وأشارت الإحصائية إلى أن شهداء غزة كان عددهم .3107 أما الضفة التي لا تطلق منها أية صواريخ فقد قدمت 2120 شهيدا.

الملاحظة الثانية، أن المصادر الطبية الإسرائيلية تحدثت عن مقتل 14 مستوطنا بسبب الصواريخ، بينهم 11 شخصا في مدينة سديروت وحدها. وتحدثت دراسة مركز معلومات الاستخبارات والإرهاب أن 1600 إسرائيلي أصيبوا بالهلع بسبب الصواريخ في الفترة منذ منتصف 2006 وحتى 30/11/.2006 وطالب رئيس لجنة أولياء الأمور في سديروت شوشان ساره في حديث مع موقع معاريف الالكتروني بترحيل سكان سديروت على غرار مستوطني غزة. وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن سكان المدينة أرسلوا أبناءهم للدراسة في نيويورك بسبب تواصل قصفها بالصواريخ. وذكر التلفزيون الإسرائيلي أن مركز الطوارئ التابع لمدينة عسقلان استقبل خلال ليلة واحدة (ليلة 29/2/2008) أربعة آلاف مكالمة هاتفية في أقل من ساعة من مستوطنين أصابتهم الصواريخ بالرعب. وقال رئيس اتحاد مقاولي الترميم الإسرائيلي إنه خلال النصف الأول من عام 2007 تسببت الصواريخ الفلسطينية في إحداث تلفيات في سديروت تكلف إصلاحها 20 مليون دولار. في الوقت ذاته تكلف تحصين المنازل والنقاط الإستراتيجية ضد الضربات الصاروخية نحو 85 مليون دولار. وفي استطلاع للرأي أجراه في عام 2007 معهد «داحاف» بين سكان المدينة قال 86? من الجمهور إن الحكومة فشلت في حمايتهم وذكر 64? أنهم سيغادرونها في أول فرصة. وذكر الموقع الاليكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت في 20/5/2007 أن ما بين 6 و8 آلاف من بين سكان المدينة البالغ عددهم 23 ألف شخص غادروا المدينة لتدهور الأحوال الأمنية فيها.

المباحثات التي أدارتها القاهرة كانت شاقة ومعقدة، ففي البداية طلب الإسرائيليون تعهدا من جانب حماس بوقف التدريب ومنع التهريب والتوقف عن تطوير صواريخها. (في عام 2001 كان مدى الصاروخ قسام واحد 3 كليومترات وفي عام 2006 أصبح مدى الصاروخ قسام 3 حوالى 12 كيلومترا ونجح في الوصول إلى عسقلان، وذكر تقرير الزيتونة أن مدى الصاروخ قسام 4 يتراوح بين 18 و20 كيلومترا، وللعلم فإن بقية الفصائل نجحت في تصنيع صواريخها، فحركة الجهاد صنعت صاروخ «قدس» ولجان المقاومة الشعبية صنعت صاروخ «ناصر» وحركة فتح صنعت صاروخ «أقصى» والجبهة الشعبية لها صاروخ «صمود»).

في البداية أيضا لم تلتزم إسرائيل بفتح المعابر، وعلقت ذلك على تقديرها لمدى التزام حماس بالتهدئة، كما أنها طلبت إطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليط. هذا العرض رفضه ممثلو حماس، وقالوا إنهم ملتزمون فقط بوقف إطلاق الصواريخ طالما أوقفت إسرائيل عدوانها على القطاع والضفة. وذكروا أن إسرائيل كانت تحتل غزة وعجزت عن وقف التهريب، فلماذا تطالب به حماس الآن. وتحدثوا عن ضرورة فتح المعابر ضمن برنامج متفق عليه. وقالوا إن موضوع شاليط خارج السياق، لأنهم طلبوا إطلاق سراح 375 أسيرا فلسطينيا في مقابل الإفراج عنه، وقد وافقت إسرائيل على 71 شخصا فقط.

بعد أخذ ورد وافقت إسرائيل على ردود حماس باستثناء أمرين، أولهما قصر التهدئة على غزة دون الضفة في الوقت الراهن، على أن تشمل الضفة بعد ستة أشهر، وثانيهما تأجيل فتح معبر رفح الذي هو المنفذ الوحيد لعبور الأشخاص، في حين أن المعابر الأخرى مخصصة للبضائع. كما وافقت على تأجيل بحث موضوع شاليط حتى يتم الاتفاق على قائمة الفلسطينيين المفرج عنهم.

حينما وجد مفاوضو حماس أن الرد الإسرائيلي يفك الحصار تدريجيا ويوقف العدوان، فإنهم طلبوا عرض نتائج المفاوضات على ممثلي فصائل المقاومة الأخرى، لإجراء حوار وطني حوله، وتوافق الجميع على الالتزام به بمن فى ذلك الذين رفضوه (الجبهة الشعبية) والذين تحفظوا عليه (الجهاد الإسلامي).

لا أحد من المفاوضين الفلسطينيين يثق في التعهد الإسرائيلي. ليس فقط لأنها دأبت على نقض عهودها مستندة إلى الخلل في موازين القوة لصالحها، ولكن أيضا لأن عمر هذه الاتفاقية ـ في أحسن فروضه ـ لن يتجاوز عمر حكومة أولمرت الآيلة للسقوط. وقد سمعت من بعض المفاوضين قولهم إن التهدئة ليست أكثر من لحظة لالتقاط الأنفاس، وتحسين شروط العيش داخل السجن الإسرائيلي.

المفارقة أن التهدئة بين فلسطينيي غزة وبين الإسرائيليين إذا كانت قد حققت شيئا بالمعيار النسبي، فإن التهدئة بين غزة ورام الله لا تزال متعثرة. ذلك أنه بعدما تفاءل البعض بحديث أبو مازن المفاجئ في 7/6 عن الحوار مع حماس، سواء لأن أمله خاب في الوعود الأميركية والإسرائيلية، أو لأنه أراد أن يوحد الصف الفلسطيني قدر الإمكان مع قرب انتهاء ولايته (في 5 يناير المقبل) والتمهيد لانتخابات جديدة ، فإن هذا التفاؤل بدأ يتراجع بشكل تدريجي خلال الأيام الماضية.

ومما كانت له دلالته في هذا الصدد أن أبو مازن كلف وفدا من قيادات فتح بزيارة غزة والتعرف على الأوضاع فيها، ورغم أن ذلك لم يتم بالتنسيق مع قيادات فتح بالقطاع، إلا أن الأمر تمت تسويته وجرى الترحيب بالوفد على مستويات عدة. وتحدد موعد لاجتماعه مع السيد إسماعيل هنيه رئيس الحكومة المقالة، لكن أبو مازن أجرى اتصالا مع وفده قبل نصف ساعة من الموعد، وطلب إلغاء المقابلة، الأمر الذي اضطر الوفد لمغادرة القطاع يوم السبت الماضي 21/,6 دون أن يحقق شيئا يذكر في مهمته، مما يعني أن دعوة الحوار الفلسطيني الفلسطيني لم تنضج بعد. وربما احتاجت إلى طرف عربي ثالث يدفعها إلى الأمام. وذلك يعني أيضا أن ما حدث في الساحة الفلسطينية هو بدوره مجرد «تهدئة» وليس حوارا.

*نقلاً عن صحيفة "السفير" اللبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد