هل ينقرض العرب بعد 100 سنة؟

mainThumb

26-06-2008 12:00 AM

عندما يحتفل أبناء الأرض بولادة وطنهم، ويرون البلد وهي تكبر وتتسع، فإن آخر ما يرد على بالهم، وهم يحتفلون، أن تسقط الدولة يوما وينتقل أهلها إلى رحمة الله. ولو قدّر لك أن تطلع نبيلا إنجليزيا في القرن التاسع عشر عن غيب ما ستؤول إليه الامبراطورية البريطانية بعد 150 سنة، من تلاشي مستعمراتها، وتحولها إلى حليف تابع للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين لشكّ في أنك مختل عقليا. ولو أخبرت عثمانياً استشهد أبوه للتو في محاصرة أسوار فيينا في القرن السابع عشر، بأن الامبراطورية العثمانية ستقضي نحبها بعد 300 سنة، لربما انتهيت إلى ما انتهى إليه والده: الموت.

في الماضي كانت الحياة رتيبة، وبطيئة ومملة، وكان الناس وقتئذ يخلطون بين الرتابة وبين الثبات، ولأنه لم يحدث لهم شيء منذ 100 سنة، فإنهم كانوا يعتقدون بأن شيئا لن يحدث في المئة سنة التالية. كانت الديمومة هي الأصل في تفكيرهم وتصوراتهم، وكان التغيير استثناء.
ولم تكن الامبراطوريات، سواء كانت رومانية، أم فارسية، أم عربية أم تركية، هي التي تعمّر فحسب، وإنما كان الناس والأفكار يعمرون كذلك. وكان نخبة المجتمع من علماء، وسياسيين، وعسكريين، وفنانين، يتربعون على عرش النجومية لفترات طويلة، وكانت أفكارهم وأعمالهم بصرف النظر عن قيمتها السياسية أو الدينية أو الثقافية والفنية، تظل سائدة لأجيال، لأن الفارق الحضاري بين جيل وجيل كان شبه معدوم. وكانت مؤلفات القرن الثالث عشر، تكفي لشاب يريد أن يفهم العالم من حوله في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر، وكانت الأفكار نفسها تسود بين الكبار والصغار، وبين الأغنياء والفقراء، والمرأة والرجل.

كان الحراك بين البشر والتنقل بين حدود الإمبراطوريات موجودا، لكنه كان محدودا وبطيئا. وكان التاجر أو الرحّالة يغادر بلده ويعود إليه بعد سنوات، وله في كل «ترانزيت» أو محطة جغرافية مرّ بها زوجة من طول الإقامة. فابن بطوطة، الذي أطلقت عليه جامعة «كيمبردج» «أمير الرحّالة المسلمين» ترك المغرب وعمره 20 سنة، وعاد إليها وهو بعمر 47 سنة، تزوج خلالها من الهند ومن الصين (تخيّل بيبي صيني من أصول مغربية)، وأتقن خلال إقامته التركية والفارسية. وظلت مؤلفاته لقرون هي المصدر الوحيد للناس في المغرب.. هي المرشد الحضاري والسياسي الوحيد عن البلدان التي رآها، لأن الناس ستعيش وتموت، ولم ولن ترى ما رآه لقرون تالية.

وكان الناس يعيشون حياتهم يوما بيوم، فالمستقبل لم يكن يعني كثيرا بالنسبة إليهم، على اعتبار أنه لم يكن «مجهولا» بالمعنى المعاصر، وبالتالي لم يكن يستدعي استعدادات مادية من التوفير أو نفسية من القلق والخوف. ولم يكن هناك فارق بين الأجيال، وتصنيفات نمطية بين الأعمار، فلم تكن مرحلة المراهقة مرهقة، ومتعبة ومقلقة، ولم تكن الشيخوخة مرحلة الموت البطيء في حس المجتمع. وكانت توقعات الناس متواضعة، واحتياجاتها محدودة، وتمنياتها أن تعيش وتموت «مستورة» بين أهلها وأوطانها.

وحين ندخل بوابة القرن الحادي والعشرين، فإننا أشبه ما نكون دخلنا إلى عالم مملوء بالمغامرات المثيرة التي في أفلام «لورد أوف ذا رينج» و«هاري بوتر» الخيالية. في هذه الأفلام التي تحاكي عقلية وأحاسيس طفل لم يتجاوز العاشرة، نرى أكثر من مئة شخصية خرافية تظهر وتختفي في لحظات، وكأنها لو بقيت معنا أكثر بدقائق لأصباتنا باكتئاب من فرط الملل. فلم يعد التغيير والتجديد سمة عصرنا، وإنما التغيير والتجديد على متن طائرة «كونكورد» تحلّق بسرعة 2000 كيلومتر في الساعة. التغيير بخلطة سريعة، أو السرعة بخلطة متغيرة هي سمة زماننا، والأقوى أو الأبقى فيه، هو الذي يستطيع أن يتكيف مع التغيير السريع، وإلا تحول إلى شخصية خيالية من شخصيات هاري بوتر، ما إن تظهر حتى تندثر.

لم تعد النخبة تتزوج المجتمع زواجا كاثوليكيا يستمر للأبد، وإنما صارت النجومية في حس الناس مثل ألعاب النار، تحلق عاليا في السماء، ثم ترتد إلى الأرض منطفئة باهتة. الناس ملّت السياسيين، والمثقفون صاروا خارج حلبة الوجود الحيوي للمجتمع والاهتمام الشبابي، لأنهم لايزالون منشغلين باهتمامات القرن العشرين حول مفاهيم الهوية والاستعمار والأصالة والتجديد، والفنان يطلق ألبومه فتسمعه مرة ومرتين وتبحث عن صوت آخر ولحن آخر. انتهى زمن أم كلثوم وعبدالحليم والفيس برسلي والخنافس، ليس لأن الناس لم تعد تستهوي الجيد، وإنما لأنها لم تعد تطيق اللاتغيير.

الموضة لم تعد تعني أن يكون هناك فارق في المظهر بين الأعمار فقط، وإنما صارت بين المواسم، وحسب مزاج المصمم وآخر تقليعاته الإبداعية. وهذا ما فتح شهية الجيل الجديد للاستهلاك، وأثقل بند مصروفات الأسرة التي اقترضت لتوها لتجديد السيارة والبيت والأثاث. والذين يجددون موبايلاتهم كل شهرين وثلاثة لا يبحثون عن وسيلة اتصال حديثة، وإنما عن آخر «ستايلات» هذه الوسيلة. ولم يعد الناس يبحثون عن الحياة، وإنما عن نعيمها. وانتقلت اهتمامات الناس بالإنسان إلى الاهتمام بالأشياء. (لاحظ أن أحدا لا يهتم كثيرا بمصير أو عدد من يلقون حتفهم في العالم العربي من عمليات الإرهاب والفقر والأمراض، مقارنة بالاهتمام في مصير القروض وزيادة الرواتب خمسين دينارا!).

وفي وسط زحمة الحياة، لا أحد يتساءل منا عن مصير العرب في هذا العالم المتغير، وموقعه من الإعراب الدولي؟ هل سنظل «محلك سر»، ننبض بالحياة، لكن لا نتحرك خطوة للأمام؟ وأسهل شيء أن نتفاعل مع محيطنا بالاستهلاك وهل سنكتفي بالوجبات السريعة وشراء آخر الموديلات، وأصعب شيء أن نفكر بصوت عال وجدية ما إذا كنا سنظل فيما دون ذلك متخلفين في ميادين الحرية وتكافؤ الفرص ومهارات الإنتاج؟

فالزمن الذي نعيش فيه صعب وزاخر يالتحديات ولا يرحم الضعفاء، العالة على ما ينتجه الآخرون، والإمبراطورية الرومانية سقطت بعد أكثر من 800 سنة على يد قبائل جرمان لما فشل الرومان في التكيف مع متطلبات عصرهم المستجدة، والعثمانيون سقطوا لأنهم لم يستفيدوا من الثورة الصناعية سوى في المزيد من الانفتاح على أسواق أوروبا، والعرب اليوم سينقرضون لو ظلوا على هامش التحولات مبعثرين، لا مبالاين، لا يفكرون سوى يوما بيوم، وبموديل وراء موديل، تماما بذهنية «مجددة» من ذهنية من عاش القرون الوسطى.

يا سادة إن زمننا صعب، والبقاء لم يعد فيه للأقوى عضليا، أو الأقوى استهلاكيا، وإنما للأقوى في مواكبة التغيرات السريعة من جميع جوانبها ومناحيها، ومن لديه المهارات التي تمكنه من الانتقال من منطقة الراحة والعادة، إلى عالم التحدي، والمغامرة. يقال إن الديناصورات انقرضت لأنها فشلت في التكيّف مع العصر الجليدي، وفي رواية لما تحول وزنها إلى عبء في زمن اللياقة البدنية. فهل سيقال يوما (بعد 100 سنة مثلا؟) إن العرب انقرضوا لما زادت أوزانهم، وفشلوا في التكيّف مع زمن المهارات وعصر القانون والعدالة والحريات؟

* نقلا عن جريدة "أوان" الكويتية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد