سجل أنا عربي!

mainThumb

23-11-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
يقال أن معظم أصدقاء العلامة الكبير الراحل "إحسان عباس" وطلابه كانوا يجهلون مسقط رأس الرجل، ولمن لا يعرف، فالعلامة "عباس" الذي رحل عنا قبل سنوات قليلة يعد واحداً من أهم أعمدة تاريخ الفكر والنقد الأدبي الذين عرفهم الوطن العربي في العصر الحديث. وعلى الرغم من ذلك الجهل المحمود، لم يكن لأحدهم أن يتجرأ، أو يفكر ابتداءً، ويبادر إلى سؤاله عن أصله وفصله، خشية ما قد يوحيه مثل ذلك السؤال من نزوعات قطرية أتى عليها حين من الدهر كانت مرفوضة ومستهجنة تماماً لدى أبناء وطننا العربي الكبير.
أما اليوم، فلم يعد أحد يتحرج من طرح مثل ذلك السؤال المؤسف لتتبع جذور المرء واكتشاف منبته؛ الأمر الذي يبرز بكل أسف النجاح المقلق الذي أحرزته الدولة القطرية في فرض مفاهيمها وسطوتها، حتى بين أوساط المثقفين، الذين يفترض فيهم أن يكونوا أكثر خلق الله وعياً بمخاطر تغليب التوجهات القطرية، وحذراً وتحذيراً من أوحالها.
درج العبد الفقير إلى الله كاتب هذا المقال على أن يعرّف نفسه في الملتقيات العلمية والثقافية العربية بوصفه "باحثاً عربياً" والسلام، مفترضاً أن مثل هذا التعريف لا يمكن أن يشكل مدعاة لاستفزاز أحد، أو إغضاب أحد، وبخاصة في أوساط المثقفين العرب! لكنه فوجئ أكثر من مرة بالبعض يتساءلون: فهمنا أنك باحث عربي يا أخي، ولكن من أين أنت!؟
ليس هذا وحسب، بل تمادى البعض ممن تعمي التوجهات القطرية بصائرهم وبلغت بهم الصفاقة حد التساؤل بغيظ واضح لا يخلو من محاولة رخيصة للتوريط والإحراج: ألست تحمل جنسية ذلك القطر، فلماذا لا تجاهر بانتمائك إليه!؟ أم أنك لا تعتز بذلك الانتماء وتخجل منه!؟
يبدو أن أمثال هؤلاء من أرباب الانغلاق القطري البائس ينظرون إلى العروبة باعتبارها هوية معادية تتناقض مع هوياتهم القطرية التي يتمترسون خلفها، فلا يتصورون أن يكون المرء لبناني الجنسية مثلاً، وعربياً في الوقت نفسه، وأن يعتز بالهويتين معاً كتوأمين سياميين لا ينفصلان. بل يصرون على منح الأولوية والتفضيل وربما أحادية الاختيار للهوية القطرية، التي باتت ترتبط بطبيعة الحال بتأمين مصالحهم الأنانية الخاصة والآنية والضيقة، ولتذهب العروبة وأهلها إلى الجحيم!
مساكين هم إذا أردتم الحق، فماذا يفعل رجل ترتد جذوره إلى القدس، بينما شاءت له الأقدار أن تبصر عيناه النور في عمان، وكان قد وقع على حين غفلة من الزمان في غرام بيروت، ثم أسعده الحظ ـ وقلما يفعل ـ بأن يقضى في مراكش بعض أجمل أيام عمره، ثم قيضت له تدابير الدهر أن ينال أعلى درجاته العلمية من القاهرة، أتراه يخطئ إذ يشعر في أعماق نفسه أنه فلسطيني الروح، أردني الهوى، لبناني القلب، مغربي النبض، مصري الوجدان!؟ أتراه يُجرم إذ يحس أن وجوده المتعطش للحرية يعصى على الانحباس ضمن أبعاد مدينة واحدة أو بلد واحد من مدائن العرب وبلدانهم، وروحه تأبى إلا أن تتخذ من كل بلاد لغة الضاد مهما ترامت سماء لتحليقها!؟
فيما أزعم، العربي الحقيقي هو الذي لا يجد مسوغاً على الإطلاق للمفاضلة بين هويته القطرية التي يدرك قبل غيره جزئيتها وتواضعها، وبين هويته القومية الجامعة العملاقة، بل إنه هو الذي يعطي الأولوية لهذه الأخيرة، في ضوء وعيه بأن نظيرتها القطرية ـ وشتان بين الهويتين ـ قد فرضت عليه وعلى أمته بحكم ترتيبات السياسة وانقساماتها ومصالحها، ولماذا لا نقول أيضاً بحكم مؤامراتها في بعض الحالات، التي وقفت القوى الاستعمارية الشريرة خلفها!
العربي الحقيقي ـ فيما أزعم أيضاً ـ هو الذي لا يفرق بين تراب عربي وآخر، فمحبة تونس عنده هي نفسها محبة دمشق، واستعداده للتضحية من أجل تحرير القدس هو ذات حماسه للقتال من أجل الجزائر. إنه ليس من الذين يتقوقعون على أنفسهم ضمن حدود نظرة إقليمية شوفينية معتمة، بل إنه يؤمن إيماناً راسخاً لا يتزعزع بأن الوطن العربي من محيطه إلى خليجه هو وطنه، أياً يكن رأي الحدود والسياسات الإقليمية التفتيتية في ذلك! إنه سوري ومصري ومغربي وأردني وليبي وسعودي ويمني وموريتاني وعراقي وسوداني وكويتي وجزائري... في الوقت نفسه، ولو بقلبه وروحه، شاء من شاء، وأبى من أبى!
إنه من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فيحب لأخيه العربي ما يحب لنفسه، ويمزق من صفحات مبادئه المثل الوضيع القائل: "أنا وبعدي الطوفان"، ولا ترضى له كرامته وشرفه أن يتمرغ في نعيم الرفاهية وسكينة الروع وراحة البال، ما دام أخ له يتلقى صفعات الإذلال من غاصب محتل، أو يتضور جوعاً هو وأطفاله، حتى وإن كان ذلك في أقاصي الصومال!
والعربي الحقيقي ـ فيما أصر على زعمه أيضاً ـ يؤمن بأن الطوفان سيجتاح قطره الصغير عاجلاً أم آجلاً، مهما اجتهد ذلك القطر في مهادنة قوى الطغيان الأجنبي الغادر لا محالة، ما لم يناضل بكل طاقته وقوته من أجل الإعلاء من شأن هويته القومية وتسويدها. فهو ـ أي العربي الحقيقي ـ يمتلك من الوعي القومي والبصيرة العروبية ما يجعله قادراً على تدبّر المثل الحكيم القائل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، والاعتبار بالتجارب العربية المريرة في فلسطين والعراق، فهل كانت فلسطين ستضيع بتلك الطريقة المخجلة الموجعة لو كان هناك دولة عربية موحدة تحميها!؟ وهل كانت حرمة بغداد ستنتهك ويضام أهلها بذلك الشكل المرعب لو كان ثمة دولة عربية موحدة تذود عنهما!؟
والعربي الحقيقي ـ ويا لبؤس مزاعمي ـ حكيم وواع وفطن، فهو يوقن أن سلسلة المشكلات الوقحة التي تعصف بأمن أبناء أمته المنكوبة، التي لا تبدأ عند حدود الفقر والجوع والمرض والجهل والتخلف والظلم والقهر والفساد...، ولا تنتهي عند مشارف الضعف وتشتت القلوب وتخاذل الإرادات واستقواء الأعداء ...، تأبى أن تنصرف عنا بوجهها القبيح، أو أن تفر وهي صاغرة مدحورة، ما لم تجد أمة واحدة تجابهها وتتصدى لها، وعلى قلب رجل واحد، ومن لا يصدق، فليس مثال الاتحاد الأوروبي "المغيظ" عنا ببعيد!
والعربي الحقيقي ـ في مواصلة لمسلسل مزاعمي ـ هو الذي لا يحفظ من القصائد إلا قصيدة "سجل أنا عربي"، ولا يتغنى كل صباح إلا بأنشودة "بلاد العرب أوطاني"، التي أقدمت أصابع القطرية اللئيمة على شطبها من مناهج معظم مدارسنا على امتداد رقعة الوطن العربي! وهو الذي يجاهر بفلسطينيته ما دامت فلسطين تحت نير اغتصاب الصهاينة المجرمين، ويعلن انتماءه للعراق ما زالت بغداد أسيرة الاحتلال الأمريكي البشع، ويرفع راية السودان طالما ظل ترابه الطهور مهدداً بأن يلوثه رجس الغزاة!
والعربي الحقيقي ـ واعذروني لكثرة مزاعمي ـ ليس بالجاحد المكابر المشروخ الذاكرة، فهو لا ينسى بتاتاً بأن أمته المهمشة المهشمة لم تنل العز يوماً، وليس لها أن تناله أبداً، إلا برفع راية الإسلام عالية خفاقة فوق هامتها، وهو يتغنى دائماً بأن أجداده الحفاة العراة الذين تفننت إمبراطوريات القهر البائدة في تركيعهم وإذلالهم قد أصبحوا قادة الدنيا وسادتها، بعد أن حملوا مشاعل تلك الدعوة الربانية المعجزة، التي وُجدت لتصحيح مسار الإنسانية وإنقاذها من التخبط في متاهات العبودية والظلم والظلام.
هذا هو العربي الحقيقي ـ فيما أزعم ـ يا أبناء أمتي المتعبة، فهل ما زال بإمكاننا الحديث عن "عربي حقيقي" في هذا الزمان القطري السقيم؟!
sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد