كوابيس إنترنتية!

mainThumb

28-11-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
تكتظ حياتنا المعاصرة بكم هائل من الكوابيس التي ترتبط بكل شيء تقريباً، التي لا تكتفي بإرعاب مناماتنا، بل تتمادى لجعل عالم ص?Zحونا أيضاً محفوفاً بالمخاوف والوساوس والهواجس المقلقة. فطعامنا مثلاً مشكوك في سلامته، فهو مهرمن ومسرطن وملوث لفرط ما عبثنا به بحجة تحسينه وتكثيره، مع أنني لا أدري لم تحرص البشرية الشريرة على تكثير إنتاج الطعام، وهي لا تتورع عن إتلاف آلاف الأطنان منه أو إلقائها في البحر، حتى لا يحصل عليها ملايين الفقراء الجائعين بثمن زهيد!
أما بيئتنا الطبيعية، فحدث ولا حرج عن الكوابيس المفزعة المترتبة عن جشع البشر واستهتارهم وجورهم عليها، وما أكثر السيناريوهات "الهيتشكوكية" ـ نسبة إلى مخرج أفلام الرعب الشهير ـ التي لا أستبعد إطلاقاً تحقق بعضها، التي تصف لنا كيف ستنتهي حياتنا الفاسدة بفضل ما كسبت أيدينا الآثمة ونحن نمعن في الفتك بالطبيعة حولنا، في ممارسات حمقاء هوجاء تكشف عن سفهنا، وإصرارنا المازوشي على الانتحار!
لكن تلك الكوابيس المفزعة، التي لا تشكل إلا غيضاً من فيض، لن تكون موضع اهتمام هذا المقال، الذي سيبدو لكم مرعوباً من كوابيس من نوع آخر، أرتئي إمكان تسميتها "الكوابيس الإنترنتية"! نعم، فللإنترنت كوابيسه وشياطينه أيضاً، وبقدر ما يبدو ذلك الاختراع المذهل صديقاً نافعاً ومخلصاً ومسهلاً لأمور الحياة أحياناً، بقدر ما يبدو عدواً خبيثاً يمكن أن يُقدم فجأة، وبكبسة زر، على العصف بحياتنا وجعلها في مهب تهديد خطير ومخيف!
إذ تخيل يا رعاك الله مثلاً أن تصحو ذات صباح، فتفتح جهاز حاسوبك الذي ترتبط به بصداقة حميمة لا فكاك منها، لتجد أن فيروساً وضيعاً فتاكاً قد غزاه على حين غرة، فأطاح بمحتوى كل ما فيه من ملفات، أنفقت سنوات طويلة من الجهد والمال والسهر والأعصاب والمشاعر في تعبئتها، دون أن تكون متحوطاً للأمر ومحتفظاً بنسخ بديلة من تلك الملفات خارج نطاق الحاسوب المنكوب بالهجمة الغادرة!
وتخيل أن تجد ذات يوم كل ما أرسلته من رسائل، عامة وخاصة، مذ بدأت تبحر في عوالم التواصل الإلكتروني، منشورة على الملأ ومبذولة للجميع على مواقع إلكترونية لئيمة، يتلذذ أصحابها بهتك أستار الناس وكشف أسرارهم! تخيل أن كل ما احتضنته تلك الرسائل من أحاسيس واعترافات وتذمرات وشتائم ومخاوف وأحلام ونوايا ونزوات وخطط...الخ، قد أضحى معروضاً، وبالمجان، على حبال الشبكة المعلوماتية اللعينة؛ ما يجعلك تغدو ضعيفاً عارياً فجأة أمام خلق الله، مفضوحاً كذاك الذي أجريت له عملة "طهور" بعد أن غدا في سن الخروج على المعاش!
أظن أن مجتمعنا العربي سيشهد حينها كارثة حقيقية شاملة من تصدع العلاقات وتهشم الروابط بين الناس، بل وربما يشهد حمامات من الدم الذي سيراق بحجة الذود عن الشرف الرفيع! فأين هو الرجل الذي لم تغره الشبكة المعلوماتية بالانسياق خلف إقامة العلاقات السهلة، المتفاوتة في درجات براءتها، التي يوفرها الإنترنت بسخاء!؟ وأين هي الفتاة التي لم تقع في لحظة ضعف أو غفلة أو شقاوة في حبائل واحد أو أكثر من الفتية ـ والله وحده العلام بالنوايا وخبايا القلوب ـ الذين يتربصون بالحالمات الباحثات عن الزواج أو الحب أو وهمه، فسلمتهم مفاتيح نفسها وأسرارها، إن لم تسلمهم ما هو أغلى في عيون الناس!؟
وتخيل أن يعمد أحد مبغضيك أو حسادك إلى فبركة صورة رخيصة مزيفة تظهر إحدى أرحامك في وضع عابث مخل بالأخلاق، تخيل حجم الشكوك القاتلة التي ستزلزل ساعتها دعائم عالمك! وتخيل حجم الجهود الجبارة التي عليك أن تبذلها لإثبات براءة قريبتك مما أسند إليها من تهمة باطلة، وهيهات أن تنجح في إقناع الكثيرين ببراءة المسكينة من تلك الوسمة الفاضحة، التي سيسعد سود القلوب لسبب أو لآخر بتصديقها وترويجها!
وتخيل أن تقصد "صرافاً آلياً" لسحب حفنة من الدراهم أنت في مسيس الحاجة إليها، لتكتشف أن رصيدك قد صُفّر وبات خاوي الوفاض، على يد قرصان أثيم نجح في اختراق شبكة المعلومات البنكية الخاصة بحسابك! لا أدري إذا كانت أنظمة البنوك الجشعة ستعوضك عن نكبتك وقتها، وإن كنت أظن أن عليك أن تستعوض الله فيما فقدت!
وتخيل بعد أن ضقت ذرعاً بفشل وصفات الأطباء ـ وما أكثر ما تفشل وصفاتهم هذه الأيام ـ في مداواة مرض اعتراك، أن تلجأ إلى أخذ وصفة علاجية من ملايين الوصفات "الطبية" التي تزخر بها المواقع الإلكترونية، التي يفتي بعضها في كل شيء ـ والغريق يتعلق بقشة كما يقال ـ فإذا بك تخطو خطوة سريعة على طريق الهلاك!
وتخيل أن توفر لطفلك الغض البريء حاسوباً مشبوكاً بشبكة المعلومات؛ حرصاً على إدماجه في عصر الحداثة وحثه على مواكبة ثورة المعلومات، فإذا بك تُفجع برؤيته يُحملق مشدوهاً في موقع خلاعي سافل قفزت مناظره المنحلة أمام ناظريه فجأة، وهو يتجول في مواقع الإنترنت بحثاً عن لعبة أو معلومة علمية!
وتخيل أن تُفلح عصابات الإرهاب الدولي ـ التي باتت تتمتع بقدرات تقانية مذهلة تكاد تتفوق على قدرات أجهزة الأمن ومكافحة الجريمة ـ في السطو على الشيفرات الإلكترونية المسئولة عن تشغيل محطات إطلاق الصواريخ النووية المدمرة العابرة للقارات ـ كما يبشرنا بذلك كثير من الأفلام الهوليودية الغُرابية ـ أين سيكون المفر عندها!؟ ومن سيعصم العالم وقتها من دمار مبين محقق!؟
وتخيل أن تُصفع بمشاهدة مقال كتبته بنبض قلبك ونزيف روحك منشوراً على صفحات الإنترنت وهو مذيل بتوقيع "كائن" آخر، لم يطرف له جفن أو يؤنبه ضمير أو يردعه خلق وهو يغتصب بنتاً من بنات أفكارك، وينسبها لنفسه دون حياء، كما حدث بالفعل لعدد من مقالاتي البائسة! أو تخيل أن ترى ذلك المقال مدرجاً في هذا الموقع أو ذاك مُغفلاً إيراد اسمك، وكأنه من كتابة نكرة مجهول الهوية، أو كأننا لم نسمع بشيء يسمى "حقوق الملكية الفكرية"!
وتخيل أن تجد على الشبكة "الشامتة" سبابك وقذفك بأقذع الصفات والتهم والافتراءات من جانب كل من هب ودب من سقط الناس وأراذلهم وجهالهم ومفترييهم، بحجة حرية التعبير، وهم يتخفون خلف أسماء وهمية جبانة، وكل ذنبك أنك نشرت على تلك الشبكة ما يفضح التخلف، أو يكشف الفساد، أو يعري التعصب!
لم أعد أستطيع تخيل المزيد من تلك الكوابيس المريعة إذا أردتم الحق، فقد بلغ بي الفزع مبلغه، وأظنني سأشرع جدياً في إعادة النظر في عضويتي الجبرية في تلك الشبكة الخؤون، التي يقترف المرء حماقة قاتلة إذ يأتمنها على أسرار حياته ومقومات وجوده.
هذا، ومما يزيد مخاوفي ويؤكد استنادها إلى أرضية لا تخلو من القوة، الخبر الذي قرأته مؤخراً عن ذلك الموقع التواصلي الشهير المعروف باسم "الفيس بوك". فحسب الخبر، قام جهاز الاستخبارات الإسرائيلية المعروف بـ "الموساد" بشراء الموقع من مخترعه الأمريكي الشاب قبل سنوات بملايين الدولارات، ولكم أن تتخيلوا لم?Z يمكن أن يعمد "الموساد" إلى فعل ذلك، ولكم أن تتنبأوا كيف يمكن لذلك الجهاز المحترف في فنون الإجرام والاحتيال وتوريط النس أن يستغل ذلك الموقع، وبالتأكيد، على حسابنا نحن العرب، أكثر أمم الأرض غفلة وسذاجة!
فلنعدّ أيها الإخوة والأخوات من الواحد إلى العشرة قبل أن ندلي لتلك الشبكة أو عبرها بأي كلمة أو معلومة عنا، ولنتأكد من تغيير رموز دخولنا إلى المواقع الإلكترونية التي دأبنا على استعمالها كل حين وحين، ولنتق الله قبل كل شيء، فنتجنب مواطن الشبهات ومواقعها، ولنتذكر أن شياطين الإنس والجن تتربص بنا لإيقاعنا في شراك الغواية والخطيئة والخيانة، ولندرك بأن الشبكة المعلوماتية يمكن أن تكون بوابة رحمة رحبة يمكن أن تسهم في وضع أمتنا على بداية طريق النهوض الحضاري وتجاوز واقع الجهل والتخلف، غير أنها يمكن أن تكون، في الآن عينه، بوابة شيطانية، تقود إلى تكريس أسس تأزمنا وانحطاطنا، وإطلاق أفظع كوابيس الأرض في وجوهنا؛ رقوداً وأيقاظاً!
sulimankhy@gmail.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد