لماذا أصبحت أمتنا كرة قدم!؟

mainThumb

24-11-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
لطالما كان التحيز صفة بارزة في البشر، حتى ليمكن الافتراض بأنه سمة طبيعية متجذرة في تكوينهم، فالمرء في العادة لا يملك إلا أن ينحاز بهذه الدرجة أو تلك إلى موضوعات وجهات وأطراف بعينها (كالأهل والأقارب والأصدقاء والجيران وأبناء العشيرة أو القرية أو المدينة أو البلد أو الأمة...الخ) يجعله الانحياز إليها يشعر بأن له هوية متعينة، وأن هناك حاضنة تمتلك من عناصر جذبه واستقطابه ما يدفعه إلى الارتماء في أحضانها، والمحاماة عنها، ولم لا نقول أيضاً الاحتماء بها.
وتكمن أهمية مفهوم التحيز، في أنه قد يشكل إطاراً نظرياً يساعد، إلى قدر ما، على فهم ما شهدناه في الفترة الأخيرة من "تشجيع" الأشقاء في كل من مصر والجزائر لفريقيهما الوطنيين لكرة القدم، ذلك التشجيع الذي عبر عن نفسه بصورة متطرفة متشنجة، لا تتناسب شدتها وحدتها على الإطلاق مع طبيعة الموضوع الذي ينصرف الحديث إليه، اللهم إلا إذا غدا الفوز أو الهزيمة في مباراة كروية أمران مصيريان خطيران يمسان صميم الوجود الوطني وعمق الكرامة القطرية!
ولكن دعونا نتساءل هنا: لم يأخذ التحيز أحياناً، الذي يُفترض فيه أن يكون في الأصل شعوراً تلقائياً محموداً يعبر عن الانتماء النبيل الحميم، صيغاً متشددة جامحة تجعله يقطع الحدود باتجاه التعصب الرذيل الذميم!؟ فالتحيز للأبناء وهم يلعبون مباراة في كرة القدم مع أبناء الجيران مثلاً وتحميسهم على بذل قصارى جهدهم واللعب بروح رياضية طيبة، لا يعد سلوكاً شريراً حتماً، وشاسع جداً هو الفرق بينه وبين النظر إلى تلك المباراة كمعركة مصيرية توغر الخسارة فيها صدور المغلوبين ومن يقف في صفهم!
سنحاول فيما يلي إيراد جملة من التفسيرات المحتملة، التي قد تعيننا على فهم الأحداث المؤلمة التي جرحت عيوننا وقلوبنا إذ تفجرت بين الأشقاء الجرائريين والمصريين، بسبب مباراة لعينة لن تعيد للعرب، أياً يكن الرابح فيها، كرامتهم التي تهدر كل يوم لألف سبب وسبب ألف مرة:
المجتمعات التي ما تزال تصر على العيش بعقليات بدائية لم تعد صالحة حتماً للسير في طرقات العالم المعاصر، توفر مناخاً مثالياً لتفشي قيم التحيز الأهوج المتماهي مع التعصب، فالمنطق الذي يسود في تلك المجتمعات هو منطق قطيعي، يتبنى المثال القائل: "أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، بأسوأ التفسيرات والتطبيقات الممكنة لذلك المثال! فالقريب غالباً، إن لم يكن دائماً، على حق، وليس من الوارد العمل على تقويمه وإصلاحه، حتى وإن أدت حماقاته وجناياته إلى إسالة شلالات من الدماء! وأنّى لنا الحديث تحت مظلة تلك المجتمعات عن التقويم والإصلاح، والكل مسوق بعقل جمعي ديناميتي آيل للانفجار، لسان حاله يردد مع الشاعر الجاهلي شعره المسلوب الإرادة: "وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد"!
إنها، أي المجتمعات الرافضة لتجديد نفسها، دون أن يعني ذلك بالضرورة التنكر لما لديها من قيم نبيلة وأصيلة، تعيش مهووسة بهاجس "الآخر"، فلا بد لها من "آخر" تعاديه، وكأن وجودها لا يتعين أو يتبلور إلا بوجود ند مناقض لا بد من محاربته، ولو على ملاعب الكرة! فـ "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، كما يقول المثل الدارج، وفي حال ما إذا أدركنا عدم قدرتنا على منازلة ذلك الغريب لسبب أو لآخر، كما نفعل نحن العرب مع أعدائنا، فإننا نسارع إلى وضع القريب في خندق العدو، ما دمنا قادرين على مقارعته، في سلوك يحيلنا إلى فكرة المبادرة إلى غزو القبائل الضعيفة واطئة الحائط، وتجنب الاقتراب من حدود القبائل المنيعة المرهوبة الجانب، التي استوطنت عقول أجدادنا ذات زمن!
على الصعيد ذاته، تشكل تلك المجتمعات التي تسيّرها جملة من الأفكار المغلقة الرافضة للتطور، التي توجه حركة معتنقيها وتحدد لهم هويتهم، بيئة خصبة لازدهار التعصب، ففي مثل تلك المجتمعات، تغدو ثنائية "النحن" و "الهم" المحور الذي يضعه الناس صوب أعينهم، تقريباً حيال كل شيء، فمبارة كرة القدم مثلاً، التي لا تعدو كونها في الأصل أكثر من نشاط رياضي للترفيه، تصبح تعبيراً فعلياً عن هوية "النحن"، ومن هنا يمكن أن نستوعب لماذا تصبح الهزيمة في مثل تلك المباراة أمراً لا يمكن القبول به، بوصفه يشكل مساساً عميقاً وتهديداً جدياً لبنية "النحن" وتماسكها!

في مثل تلك المجتمعات، تذوي فضيلة التسامح ولا تؤخذ على محمل الجد؛ لينتعش التحيز السلبي ويفرض حضوره القابل للانفلات واتخاذ أشكال متضخمة أقرب إلى مفهوم التعصب. ولنعترف هنا بأننا لا نلقي بالاً لتنشئة أبنائنا تحت أفياء مفهوم التسامح؛ بل إننا ننفرهم منه في واقع الأمر، ونجعلهم يستدخلونه كما لو كان يعبر عن حالة ضعف جديرة بالرثاء أو الازدراء، فالشخص المتسامح في عرفنا أبله وساذج وبسيط وضعيف، حتى وإن كان تسامحه عن قوة ومقدرة!
يحتاج مجتمعنا العربي ولا شك إلى رد الاعتبار لمفهوم التسامح، وإلى إدراك أنه ليس سلوكاً متوارثاً يولد مع الإنسان ويشب معه بصورة تلقائية، بل إنه مجرد استعداد كامن في النفس، ينبغي العمل على تعزيزه ورعايته منذ نعومة الأظفار، وإلا ارتفعت احتمالات نزوع المفتقر إلى قدر وافر منه إلى التورط في سلوكيات متعصبة، نراها كل حين أينما وجهنا أبصارنا! لذلك؛ ليس علينا أن نلوم إلا أنفسنا عندما نرى أولادنا على أتم الاستعداد لإحراق الدنيا وإبادة أهلها انتقاماً لخسارة مباراة تحركها الأقدام قبل العقول!
ودون أن نبتعد عن موضوعنا نذكّر بأن النفس البشرية كالطبيعة تماماً، لا تحب الفراغ ولا تحتمله، ومن ثم فإنها تسعى دائماً إلى الامتلاء، فإذا لم تمتلئ بما هو نافع وفاضل وبنّاء، تراكم فيها ما هو ضار وساقط وهدّام! الدول والأمم هي أيضاً كذلك، فإذا لم تنشغل بجلائل الشؤون وعظائم الأفعال التي تعبر عن غايات سامية ومطامح راقية، انحدرت إلى التيه في مستنقعات اهتمامات تافهة ومسائل هامشية مبتذلة.
ومع الأسف الشديد، تبدو أمتنا العربية، شعوباً وحكومات، غارقة حتى أذنيها في ما لا حصر له من التفاهات والسفاسف والسفاهات، فإذا ما تتبعنا ورصدنا اهتمامات الأغلبية الساحقة من أبناء الأمة، وبخاصة الشباب، الذين يشكلون رأس المال البشري والرمزي الأكبر والأهم، لأصبنا بذعر حقيقي، إذ أظنني لا أجانب الصواب إذا ما زعمت أن تلك الاهتمامات تتأرجح ضمن عوالم "هيفاء" وصويحباتها ومقلداتها، ومن يناظرهن في عالم "الرجال"، وأحدث الهواتف النقالة التي تنقل الإثم والشائعات والفضائح، وآخر صيحات الموضة وأصباغ "التبشيع" وتسريحات الشعر! ومن لا يصدق مزاعمي، فليحاول العثور على تقارير تتحدث عن أعداد متابعي البرامج الصفيقة المعنية بإفساد الشباب، التي تشير إلى تمسمر ملايين الملايين من الشباب العرب، ذكورهم وإناثهم، أمام شاشات الفضائيات للتبرك بمسوخها!
وبطبيعة الحال، تبدو حكوماتنا العربية، التي تبذل قصارى جهدها لصرف نفسها أولاً، ومن ثم صرف رعاياها ثانياً عن التفكير في الأحوال المائلة المكتظة بمشاهد الضعف والتخلف والفساد والظلم والانهزام، سعيدة راضية بتصاعد شعبية تلك البرامج؛ ما دامت تعينها خير عون على تطويع الناس وتدجينهم، وجعلهم أسرى التفكير في الجانب الأسفل من أجسادهم! أما "الحمقى" الذين يتجاسرون ويأبون الاصطفاف في طوابير القطعان الزاعقة في المباريات أو المصفقة في المهرجانات "الفنية"، فالعصى حاضرة لتأديبهم وردهم إلى جادة الصواب، وقد يتم عقابهم بإهمالهم، حتى تبح أصواتهم ويتبين لهم عبثية صرخاتهم وعقمها!
في علم النفس الفرويدي ـ نسبة إلى العالم النفسي النمساوي الشهير سيجموند فرويد ـ توصيف مثير للآليات التي يلجأ إليها الإنسان في معرض سعيه إلى تحقيق قدر من التوازن النفسي والانسجام مع الذات والتملص من ألم مجابهة الحقيقة الموجعة، فيما يذكرنا بالمقولة الشهيرة لشاعرنا الكبير (إبراهيم طوقان) رحمه الله: "والمريض القلب تجرحه الحقيقة"! من أبرز تلك الآليات ما تعرف بآلية "التعويض"، التي تعبر عن سعي الشخص العاجز في مجال ما إلى التفوق في مجال آخر، كشكل من أشكال التهرب من مواجهة الاعتراف بالفشل وإقناع الذات، قبل الآخرين، بالقدرة على تحقيق الإنجازات، حتى وإن كان ذلك في حقول لا علاقة لها على الإطلاق بحقل الفشل!
أمتنا "الماجدة"، تبدو مبدعة ومحترفة في اللجوء إلى تلك الآلية الخائبة، وبكثافة مهووسة، فهي تسعى جاهدة ـ دون نجاج يذكر طبعاً ـ إلى تناسي الهزائم والانكسارات المزمنة التي ما انفكت تتعرض لها منذ قرون، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وعلمياً وحضارياً، ولذلك، نلاحظ الاهتمام المضخم والمبالغ به بأدنى إنجاز أو انتصار يتم إحرازه، حتى وإن كان ذلك الانتصار على شقيق من الأشقاء، وفي مجال ثانوي ليس له أن يبدد شيئاً من هول تلك الهزائم المنكرة، كمجال الرياضة!
لقد غدت الأمة كتلك "القرعاء التي تتباهى بشعر ابنة أختها"، فهي تستجدي، وبكل ابتذال، الإطراء والمديح، كي يحفظ لها بعض ماء وجهها المراق، حتى وإن كان ذلك عن طريق التغني ببطولات لا علاقة لها بها! لذلك لا استغرب بتاتاً عندما أقرأ صحفنا العربية القطرية تتباهى بإنجاز حققه أحد أبنائنا المهاجرين في هذه المدينة أو تلك من مدائن دنيا الاغتراب، متناسين بأننا بسياساتنا "الحكيمة" وبظلمنا واستبدادنا وفسادنا قد قمنا بإجبار ذلك المهاجر، أو جدّه ربما، على حمل حقيبته والفرار من الجحيم الذي كويناه بناره!
وتمثل سلسلة المعارك النابية بين الأشقاء من مصر والجزائر، ومناصري الجانبين هنا هناك، التي اضطررنا إلى متابعة جولاتها بين الأشقاء على صفحات الصحف وشاشات الفضائيات براهين قوية لا يمكن دحضها على تورط كثير من المؤسسات الإعلامية، وعن سابق إصرار وترصد، في جريمة مفاقمة الخلافات ورش النار على الزيت؛ سعياً إلى المزيد من الإثارة الرخيصة، وربما خدمةً لأجندات مشبوهة ترقص طرباً لتأزم الأمور واضمحلال المروءة بين العرب؛ الأمر الذي يجعلنا نحذّر من كثير من تلك المنابر المغرضة، التي تستحق الفضح والتجريس على الأقل!
كما تجسد تلك المعارك المؤسفة دليلاً ساطعاً على فشل النظام التربوي ـ التعليمي في مدائن العروبة المختلفة فشلاً ذريعاً، فما كان لنظام يتمتع بالحد الأدنى من النجاح في أداء واجباته التعليمية والتربوية أن ينتج كائنات مشروخة الوعي منحطة التفكير كتلك الجموع الهائجة التي رأيناها تتدافع كالذئاب المسعورة، التي لا يسكن غضبها الأخرق إلا برؤية لون الدم ومناظر الخراب والدمار!
عندما انهارت المشاريع القومية الكبرى، وتهاوت الأحلام النهضوية العريضة، وتهشمت أو غيبت الأسماء والرموز النظيفة، بتخطيط أو تواطؤ من حكومات خرقاء، لم يعد غريباً أن تغدو أمتنا كرة قدم، تتقاذفها أرجل خبيثة تتسلى بإساءة التسديد!
sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد