مجتمع المهاجرين والأنصار!

mainThumb

04-12-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
لكم أحب قصة المهاجرين والأنصار، ولكم أرى فيها ملحمة رائعة جديرة بالتأسي، فما أقدر تلك القصة إذا ما أخذنا العبرة منها على تطهير عقولنا وأفئدتنا مما يلوثها من فيروسات التعصب والعنصرية والإقليمية! عندما آخى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بين أهل المدينة المنورة وإخوتهم الذين لجأوا إليهم فراراً من ظلم كفار قريش وقهرهم، آمراً الأنصار بأن يقتسموا نصف ما يملكون من متاع الدنيا الفانية مع أشقائهم اللاجئين، الذين لم يعودوا لاجئين أبداً اعتباراً من تلك اللحظة التاريخية الباهرة، لم يضق بذلك الأمر النبيل إلا أهل النفاق ـ أصحاب الدرك الأسفل من النار ـ الذين تغلبت عليهم الأنانية وأعماهم الجشع وسيّرتهم مصالحهم الصغيرة الضيقة!
أما الطيبون، ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، فقد طابت نفوسهم بإخوتهم وبما جادوا به لهم، دون أن يفكروا لحظة واحدة في تعييرهم أو المنّ عليهم بشيء، ليثبتوا للتاريخ أن البشر يستطيعون الارتقاء إلى مصاف الملائكة إذا ما تخلوا عن صغائر نفوسهم، كما يستطيعون في المقابل أن يتحولوا إلى كائنات حشراتية وضيعة مأواها النار إذا ما استجابوا لنوازع الطمع والعصبية الثاوية فيهم!
منح الله الإخوة من أبناء ضفتي نهر الأردن الخالد شرف تكرار قصة أجدادهم المهاجرين والأنصار، بل دعونا نقول إنه جلت حكمته قد أدخلهم في التجربة نفسها التي عاشها جدودهم قبل قرون، ربما ليميز الخبيث منهم من الطيب! هذا، وقد جاء على الإخوة في الأردن حين من الدهر سجلوا فيه أرفع الدرجات على صعيد الاقتداء بنبل وإخلاص أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في تآخيهم وتوادهم وتراحمهم واقتسام لقمة الخبز فيما بينهم.
غير أن السياسة اللعينة الحمقاء، والسياسة لعبة الشيطان التي لا تدخل في شيء إلا أفسدته، لم يهدأ لها بال ولم يغمض لها جفن حتى زرعت بذور الشقاق والفرقة بين الإخوة، وجعلتهم في لحظة غضب أعمى يرفعون السلاح في وجوه بعضهم، في فتنة ملعونة ما أجدر الجميع بنسيانها وعدم الخوض في أوحالها، كتلك الفتنة المؤسفة التي نشبت بين علي ومعاوية، ونهى أهل العقل والحكمة الناس عن النقاش فيها.
منذ نشوب تلك الفتنة اللئيمة والشيطان يقحم وساوسه أكثر فأكثر يوماً بعد آخر بين الإخوة، حتى كثرت بينهم نظرات وعبارات التشكيك والاتهام وضعف الثقة، مع أنهم ظلوا ـ ويا للعجب ـ يشتبكون عملياً في وحدة حميمة خالدة لا يمكن التنصل منها أو إنكارها، لا تعبر عن نفسها وحسب في مجرد وحدة الأصل والدين واللغة والثقافة والتاريخ والهوية والمصير، إلى آخر تلك المقومات المهمة، حتى وإن اتخذت طابعاً أقرب إلى العاطفية والمعنوية والتجريد، بل تفصح عن نفسها أيضاً عن طريق روابط مادية دميّة ـ لا أحب استخدام مصطلح دموية هنا ـ تنبض في قلوب الملايين من أبناء ضفتي النهر المقدس، الذين يتلاحمون بعلاقات الأمومة والبنوة والخؤولة والمصاهرة ...الخ، ناهيكم عن الشبكة الهائلة والمعقدة من الشراكات والمصالح التجارية والاقتصادية التي تتواشج بين إخوة الأرواح والقلوب والأجساد!
بعض الإخوة الذين لم يتفيأوا ظلال الروح القومية الدافئة التي غمرت وطننا العربي الكبير ذات زمان مضى، وقعوا في لحظة من غياب التبصر في مصيدة الإقليمية والتعصب باسم الانتماء الوطني. لهؤلاء أقول: انتماء الإنسان إلى وطن ما، أمر ضروري وجوهري ومقدس، غير أن للانتماء مقومين رئيسين، كثيراً ما يخلط الناس بينهما، ربما عن غير وعي، ففي الانتماء ثمة مقوم عاطفي شعوري، يتعلق في المقام الأول بجملة الأحاسيس التي يحملها الإنسان تجاه مكان أو أمكنة ما، وهذه الأحاسيس تعبر عن أمر شخصي وخاص، وقد لا يعلم بحقيقتها إلا الله وحده، العالم بالنوايا والخفايا في الصدور. أما المقوم الثاني، وهو الأهم على المستوى المجتمعي، فهو المقوم السلوكي، الذي يتعلق بأفعال الإنسان القابلة للتقييم والحساب من منظار قانوني.
فمثلاً، من الحمق والوضاعة أن نؤاخذ مواطناً أردنياً من جذور شيشانية لأنه يعتز بأصله، ويصر على تعليم أبنائه لغة أجداده، والترنم بأغنيات أسلافه وقصصهم، والافتخار برموزه وأزيائه التقليدية وتعليقها في صدر بيته، بل والسعادة بارتدائها والتحلي بها. أما ما يمكن محاسبته عليه وحسب، فإنه سلوكه الفعلي فيما إذا شكل انتهاكاً للقانون أو إضراراً بالصالح العام. فالغش والسرقة والفساد والاحتكار والتهرب من الضرائب وتنفيع الأقارب على حساب الناس وإساءة استعمال السلطة...الخ، هي الجرائم التي يستحق صاحبها العقاب، أياً يكن نسبه وأصله وفصله، أما تعريف المرء لنفسه وتحديد هويته ومدى انتمائه فأمور عاطفية قلبية لا يحق لأحد التنطع وحشر أنفه فيها، ما دام صاحبها يخدم البلد الذي يحمل جنسيته بشرف وإخلاص ودون مساس بالقانون.
ثم إن تبنّي أكثر من هوية واحدة في الآن عينه لا يعني التناقض أو حتى التعارض فيما بينها بالضرورة، ولا يعني على الإطلاق خيانة إحدى الهويات لصالح غيرها! وإلا لكان الرئيس الأمريكي أوباما مثلاً، الذي يفخر بأصوله الإفريقية ولا يتنكر لها، خائناً للولايات المتحدة الأمريكية، ويستحق الشنق وتعليق جثمانه على أبواب البيت الأبيض!
من زاوية حقوق الإنسان، يطالب الناشطون ـ بوجه حق ـ بأن يُمنح الشخص الذي يلد على أرض ما جنسيتها مباشرة دون تفكير أو تساؤل حول خلفيات أهله، وهذا ما يطبق بالفعل في العديد من البلدان التي تبدي قدراً من الاحترام الجدي لحقوق الإنسان فيها. فما بالنا نحن لا نتورع عن سحب الجنسية من أشخاص ولدوا هم وآباؤهم على هذه الأرض، وأفنوا أعمارهم في خدمتها!؟ وكأنهم مجرد عمالة "سيرلنكية" لم تكن موجودة إلا لخدمتنا، وصار من اللازم التخلص منهم عند أول فرصة ممكنة، بعد أن بتنا نراهم عبئاً على مواردنا التي أسهموا في تنميتها، أو خطراً داهماً يتهدد أمننا!
أتستطيعون تخيل قساوة، بل فظاعة، أن يولد المرء على تراب أرض ما، ويشب وهو لا يعرف إلا ذلك التراب، الذي قد يدفن فيه ذات يوم، ينام ويصحو ويحلم ويبكي ويفرح ويكدّ ويعرق سنوات وسنوات وهو يتنسم عبيره الذي يغدو جزءاً من جسده ووجدانه، ليفجع بأحدهم في يوم من الأيام يقول له: أنت لست من هنا يا هذا، إنك مجرد دخيل طارئ متطفل، فاحمل حقيبتك وارحل، فبيت جدك الذي تحامقت وزرته تحت حراب الاحتلال ينتظرك!
لنتخيل أن خادم المصباح السحري الشهير قد ظهر فجأة لأحد إخوتنا الكرام من أصحاب التوجهات الإقليمية المتشددة، وأعطاه الفرصة لأن يحقق له ما يشاء من أمنيات، فسارع صاحبنا إلى أمر الجني بإبعاد جميع الأردنيين من أصل فلسطيني إلى أستراليا ـ كما يمكن لنكتة خبيثة أن تقول ـ للارتياح من كابوس التوطين الذي يقض مضجعه! وذلك طبعاً بعد أن أبدى العفريت الخائب عجزه عن طرد الصهاينة من فلسطين كي يعود إليها أبناؤها! فماذا سيجري لأردننا الحبيب عندها!؟ وكيف سيصبح حاله وقد خلا من قرابة نصف سكانه، بكل ما يسهمون به من لمسات متواضعة لخدمة هذا البلد ورفعة شأنه وإعلاء اسمه!؟
ألا يقرأ صاحبنا الأخبار التي تزين الصحف بين حين وآخر عن إنجازات عربية ودولية تدعو للفخار صنعها مواطنون أردنيون، يعود كثير منهم بأصوله إلى غربي النهر الحزين بفرقة أبنائه!؟ هل أسرد عليكم آلاف الأسماء الكبيرة التي ارتبطت راضية ومختارة وسعيدة باسم الأردن وشاركت ببسالة في تشييد مقومات تميزه واعتزازه!؟ هل أحدثكم عن عبد الحميد شومان، أو عن داود حنانيا، أو عن إحسان عباس، أو عن فهمي جدعان، أو عن جمعة حماد، أو عن كامل الشريف، أو عن غيرهم وغيرهم من القامات الشامخة التي لا تملك الهامات النبيلة المطهرة من التعصب إلا أن تنحني احتراماً لذكر أسمائهم!؟
لصديقي المبتلى بالنظرة الإقليمية البائسة أقول مذكراً، والذكرى تنفع المؤمنين: الأردن قام ونمى وتطور حتى صار إلى ما صار عليه اليوم، بالرغم من شح الإمكانات والموارد، وبالرغم من كل ما عانى ويعاني من ضغوط وتحديات وعقبات ومشكلات، بفضل سواعد كل أبنائه الذين انصهروا كياناً واحداً، على اختلاف جذورهم وأصولهم. وآباؤنا وأجدادنا الذين عمروا هذا البلد وكتبوا قصة مسيرته، لم يكن أحدهم ليسمح لبصره أو بصيرته بأن يقفا عند مشارف قريته الصغيرة، حتى وإن تمرغ في ترابها حباً وهياماً، بل كانوا يطلقون العنان لعيونهم وقلوبهم، ومن قبل ذلك لأرواحهم، كي تحلق بعيداً في فضاءات فلسطين والشام والعراق والحجاز ومصر والمغرب والكويت والجزائر والسودان...، كامتداد طبيعي لمجال حنينهم وانتمائهم، فلماذا تشوهنا واسودت آفاقنا نحن اليوم، ولماذا حبسنا أنفسنا ضمن أسماء تبقى صغيرة مهما كبرت، باسم الخصوصية والوطنية، والوطنية من أوهامنا البائسة براء!؟
sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد