" ان التاريخ يعيد نفسه "

mainThumb

06-12-2010 10:00 PM


سأتطرق إلى تفكيك العبارة ومفرداتها اللفظية ودلالات معانيها الخفية وراء نصها المزيف المغلف بالحقيقة عند بعضنا ، مستندا إلى أساس المعرفة التاريخية الشرطية المشكلة للأحداث التاريخية التي ذكرتها في الجزء الأول .فأي حدث تاريخي له شروط وعناصر لتحققه فأي فقدان معرفي لأي مكون منها ( الإنسان ، الزمان والمكان ) يعني الإخلال بعنصر أساسي أو أكثر لاكتمال الحدث التاريخي الذي ينعكس على المعرفة التاريخية خاصة والمعرفة عامة لتنتج معرفة منقوصة ولكل ما يقاس عليها من أحكام ونتائج بها غلط كبير .



وظاهر المعنى لمقولة إن التاريخ يعيد نفسه ،أن بعض الأحداث التاريخية تعيد تكرار حدوثها في أزمنة متعددة من القديم إلى الحديث والمعاصر وربما المستقبل أي تتكرر من زمن إلى أخر ومن عصر إلى عصر احدث منه ومن حضارة سابقة إلى حضارة لاحقة ، وفي الحقيقة إن الأحداث التاريخية لا تكرار حتى ولو مرة واحدة والتي تنفي مقولة إن التاريخ يعيد نفسه بل الصواب ، "إن التاريخ لا يعيد نفسه" ؛ لان الحدث التاريخي مهما كان زمانه ومكانه ، لا يتكرر نفسه بتفصيلاته الزمنية والمكنية والعنصر الأساسي المحدث للحدث ( الإنسان ) فالتاريخ لا يعيد نفسه .



عزيزي القارئ إن المواقف لا يمكن تكرارها ولا إعادة بناءها مرة أخرى وحتى لو تناسين شروط المعرفية التاريخية المشكلة للأحداث والوقائع التاريخية لأنه انتفى عنها توافر نفس الدوافع الإنسانية السابقة لتشكلها ، فإذا استعاد الموقف و الحدث التاريخي دوافعه السابقة وعلاقته بمحيطة يمكن تكرر الموقف نفسه في الحاضر وربما المستقبل وتتكرر نفس الأفعال التاريخية ولكن السؤال الذي يفرض ذاته هل خلجات الإنسان وأحاسيسه يمكن أن تتساوى وتتوازى لنفس الشعور عينة ، فالشعور بالإحباط أو القوة أو الذكاء أو الدهاء أو الإفراط بالحب والإفراط بالكراهية ... وغيره كثير من دوافع إنسانية وأحاسيس تجسيدية ، هل يمكن قياسها ، فإذا استطعت ذلك فل يكن ما ذهبت إليه صحيح ، فالحب والكره يمكن قياسه في شكله العام لا الدقيق ، كأن أقول انك غاضب جدا وهذا شعور يلحظه الجميع ، فما يعني غاضب جدا ، أتعني انه يمكنك أن تقتل أم تضرب أم تكتفي بالصراخ أم تهرب .... أم ماذا ؟ .


ولو ان الناس عامهم ومثقفهم واعين لخطورة مثل ترديد هذه العبارة " إن التاريخ يعيد نفسه " لم عرفناه بصيغتها الحالية وانتشارها في كل الأوراق وكأن الأمر مبتوت فيه لا يمكن تغييره آو طرحه للمناقشة .


وما يعنيه المعنى الظاهر عند عموم الناس إن المواقف تتكرر مرتين أو أكثر وبصورتها المبسطة ، الأمر الذي يحمل خطورة اكبر لأنها تعني معناً أوسع من ذلك ؛ أننا انهزاميون لا جديد لدينا بالطرح والأفكار التي يمكن البناء عليها ، معناه أننا مقلدون لا مجددون ، معناه غيبيون لا وقائع ودلائل تؤكد ما ذهبنا إليه ، معناه امة لا تقرأ ، معناه امة متلقيه ، معناه امة ينتشر الفساد في أوصالها وأخلاقها متروكة ، معناه ثقافتها سطحية تعتمد على القيل والقال لا تعتمد على الدرس والتمحيص والتدقيق والنقد البناء ، معناه امة حاسده كارهه ،ومعناه كثير ... معناه ما نحن فيه وواقعنا أكثر مرارة مما نتصور لا حرية فيه وشواهده كثيرة ... .


فالإنسان الذي أسهم بالحدث التاريخي ليس نفسه ولا الزمان نفس الزمان فسنة 2009 تختلف عن 2010م زمانيا وتاريخ 1/1/2000م يختلف عن 1/1/2010م "فمياه النهر لا تجرى في النهر مرتين " ، فالتغير حاصل في العناصر الثلاثة المكونة للحدث التاريخي، والحاصل هو تشابه في نوع الحدث و موضوعه ومختلف في أسبابه ونتائجه وتفصيلات أجزاءه وأحكامه العامة لذا لا يجوز لنا إطلاق نفس الحكم عليه ولا على غيره.


فالصوب أن نقول تشابه الأفعال لا تشابه الأحداث لان التشابه والتلاقي حادث بين البشر و فلسفاتهم ومعتقداتهم وطرق تفكيرهم ،فكل جيل يأتي يأخذ المعرفة من نهايتها ويكمل عليها ويزيد أو يحلل ويقوض وبذلك تنتج معرفة جديدة لان المعرفة ليست دائرية ولو كانت كذلك لكان كل واحد منا حيث نشأ وكان من النقطة التي بدأ ينتهي ، لأنها تراكمات طبقية ( تراكمات معرفية على شكل طبقات ) تبدأ كل طبقة من حيث انتهت الطبقة التي سبقتها ( يبدأ كل حقل معرفي من حيث انتهى الحقل المعرفي السابق له ) . فالأصل أن لا نقول إن التاريخ يعيد نفسه لمجرد التشابه ببعض الحوادث، بل نقول إن التشابه حادث في التاريخ وأفعاله ويكون التشابه بموضوع الحدث لا تفصيلاته وأسبابه ونتائجه لان لكل زمان ثقافته وأطره بالتفكير وصياغة أهدافه .


فإذا كان القصد مجازيا لوصف التشابه بينهما فلا خلاف ولكن الأفضل الابتعاد عنها حتى لا يصبح هناك خلط وفهم خاطئ للعبارة أو أن نقول إن الأحداث التاريخية قد تتشابه في بعض الأحيان مجازاً بالاستناد والقياس. ولو صحت هذه العبارة ومثيلاتها لما لاحظنا التغير والتطور (الحراك المعرفي) في تقدم التجارب الإنسانية في كل الحضارات ولبقينا مراوحين المكان نفسه والزمان نفسه بل التاريخ نفسه وبالتالي المعرفة نفسها ، فل المتأمل البسيط يجد الفرق ويدرك خطأ العبارة وأثرها على المعرفة وعلينا في قصور المعرفة وضمور الإنتاج الفكري لدينا .


ولو سلمنا بصحة العبارة فالواجب علينا عدم صرف الجهد في التغيير والبناء والتقدم وإحداث النمو ، سكون هذا غير مألوف وخارج طبيعة البشر وحضارتهم ، لأنه بناءً على المعرفة المتشكلة من هذه المقولة - وغيرها - فكل شيء مثبت في الحياة لا يمكن تغييره أو تبديله ، فمن كان محيطة منتج ومبدع سيكون كذلك في كل الأوقات والبيئات ، ومن كان محيطه متخلف وهمجي سيبقى كذلك في كل الأزمان ولن يتغير شيء ، الذي سيربي مجتمعا فاسدا يشهد انحدار في القيم والأخلاق والمبادئ العليا التي اقرها ديننا الحنيف وبعض الأديان الأخرى ، حيث تشير المؤشرات من حولنا إلى ارتفاع نسب الفساد بأنواعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكل مناحي الحياة من حولنا ، الذي أسفر عن تهدم كل الروابط المجتمعية في مجتمعاتنا العربية المسلمة وانهيار القيم الروحية لدينا.


وما أثبتته الوقائع التاريخية عكس ذلك ونقيض النقيض ، حيث أن التغيير حادث في الزمان والمكان والإنسان ، فكل شخص عليه أن يسعى إلى تطوير نفسه حتى يحدث التغيير العام في المجتمع ككل ، ولا يمكن أن يتحقق التطور والنهوض إلا بالثوابت التي يتمسك أفراد المجتمع بها ، بان يؤمن بامتلاك الحد الأدنى من الفاعلية والاستعداد للعمل والتطوع من دون مقابل وإجماع الجميع على ضرورة التمسك بالبناء الفكري السليم الذي يمكن تحققه بالإيمان والقراءة الفاعلة كلّ على مستواه ومن موقعه وان لا يؤمن بأي قول لمجرد أن فلان قاله أو انه ورد في كتاب كذا ، وان يكون هدفه التصحيح والبناء لا التعكير والتعثير وبث الشكوك لدفع نحو الاستسلام واليأس والانقياد بالطاعة العمياء من دون تفكير ونقد . ولو كنا كذلك لما رددت هذه العبارة - إن التاريخ يعيد نفسه - في كل الأوسط والمحافل ومثيلاتها بين النخب المثقفة وأهل العلم وعامة الناس التي لازالت لم تطبق شرط التغيير بدليل قولة تعالى : "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد