إدمان الخطاب الديني
في كل مرة تُفرض قضية اجتماعية أو سياسية مهمة نفسها علينا، غالباً ما نلجأ إلى مناقشتها، انطلاقاً من مفاهيم الخطاب الديني ومرئياته، وفي شكل يكاد أن يكون حصرياً. وهذا ما حصل مع موضوع «الجهاد» في برنامج «الثامنة مع داود الشريان» الأسبوع الماضي، وفي الردود التي تتالت عليه في بعض الفضائيات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
ما المشكلة في ذلك؟ ألسنا مجتمعاً مسلماً؟ تأخذ الإجابة عن ذلك صيغة سؤال أيضاً: هل هو محكوم على المجتمع المسلم من دون غيره من المجتمعات أن يتنكر لتعدديته، وأن يبقى أسيراً لخطاب واحد أحد، على رغم القرون كلها، وتغير الزمن والتاريخ والمعطيات؟ المشكلة مركبة، ولها أوجه عدة.
فإلى جانب أن التسليم بهيمنة خطاب واحد يقمع التعددية في المجتمع، إلا أنه ينسف كل مكتسبات التنمية والتعليم، ويلغي قدرة المجتمع بعد كل ذلك على التعبير عن نفسه خارج هذا الإطار، كأن شيئاً لم يستجد في تاريخه الطويل. الجانب الآخر للمشكلة أن فرض الخطاب الديني ولّد حالاً متجذرة من الازدواجية. في الفضاء العام يتحدث الجميع بلغة الخطاب الديني، أو بما يراعي حساسيات هذا الخطاب، أما في الفضاءات الخاصة حيث الرقابة أضعف ومجال الحرية أوسع، تختلف زاوية الحديث، وأحياناً ما تكون مناقضة لما يقال في الفضاء العام.
هناك جانب أكثر خطورة، وهو تضخم التناقض بين مواقف الدولة وحساباتها السياسية ومصالحها، وبين خطاب ديني لا يرى دائماً الموضوع من الزاوية نفسها. تصور في هذه الحال نتيجة ضخ مفردات الخطاب في ثقافة المجتمع، وأن المسلمين إخوة يجب أن ينصر بعضهم بعضاً، ثم في الوقت نفسه لا تستطيع الدولة الالتزام بمقتضيات هذا الطرح. الحال السورية كبّرت صورة هذا التناقض في شكل غير مسبوق، ليس بالنسبة إلى السعودية، بل بالنسبة إلى العرب كلهم.
تحول الصراع هناك بفعل سياسات النظام السوري وحلفائه إلى صراع طائفي، وفي شكل أساس بين السنّة والشيعة. إيران تدعم النظام بكل ما يحتاج إليه من مال وسلاح ومقاتلين، بينما الدول العربية لا تستطيع، أو لا تملك، أو لا تريد، كل بحسب ظروفه، أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى معارضي النظام. كأن الشبان بذهابهم إلى مناطق الحروب والقتال بشعار «الجهاد»، وبالنقاشات التي تفرضها هذه الظاهرة، ينوبون عن الدولة في الاستجابة لما يحدث حولهم في أعقاب ثورات الربيع العربي. وهذه حال تضع سياسة الدولة أمام اختبار لم تعهده من قبل.
وهنا يبرز التناقض الحاد بين الخطاب من ناحية، والسياسة من ناحية أخرى. مصدر هذا التناقض أن منطق الدولة وحساباتها لا تتطابق غالباً مع منطق الخطاب. بعبارة أخرى، تبدو السياسة من دون خطاب يعبّر عنها ويستند إلى حد أدنى من الإجماع. الخطاب الديني لم يعد كافياً للتعبير عن سياسة الدولة. هي في حاجة إلى خطاب آخر يتسع لمقتضيات الدين ومتطلبات الدولة معاً.
من هذه الزاوية يبرز إشكال آخر: هل الجهاد قضية دينية، أم قضية سياسية؟ مسار الأحداث، كما مسار التاريخ من قبل، يقول إنها قضية سياسية كل طرف معني أو مهموم بها يبحث لها عن مشروعية دينية، أو قل أيديولوجية. وعصرنا عصر المعلومة، وعصر السياسة، وعصر تسييس المجتمعات. وفي هذا السياق لم يعد خافياً أن درجة التسييس في المجتمع السعودي تتصاعد في شكل لافت. والاقتصار أمام ذلك على خطاب ديني لا يتماهى مع متطلبات الرحلة، يضمر هوة كبيرة بين الطرفين.
القضية التي تمحور حولها الجدل، ولا يزال، هي: هل حرّض بعض الدعاة والمشايخ الشبان على الذهاب إلى محارق الحروب والقتال في المنطقة بدعوى «الجهاد»؟ هل يجوز ذلك شرعاً؟ ولماذا لا يذهب هؤلاء الدعاة وأولادهم إلى تلك المحارق قبل غيرهم؟ القضية ليست جديدة ومشروعة تماماً، بل ملحة، إلا أنها تتم مناقشتها وكأنها في العراء من دون إطار اجتماعي وسياسي. طرح الموضوع بهذا المفهوم ينسجم تماماً مع المنطلقات الدينية التي يستخدمها بعض الدعاة للتغرير بالشبان. وهؤلاء المغرر بهم -كما قال أحد ضيوف البرنامج- نتاج تربية أممية تعتمد التجييش العاطفي، وتصب في إضعاف الانتماء الوطني. المذهل هذا التناقض الصارخ بين الرغبة في تعزيز الانتماء الوطني من ناحية، والاتكاء من ناحية أخرى على خطاب يرفض من حيث المبدأ فكرة الانتماء هذه.
يشترط الخطاب الديني موافقة الوالدين وموافقة ولي الأمر. كلا الشرطين صحيح من الناحيتين الشرعية والسياسية. لكن يتم التركيز على الناحية الشرعية وتهميش الناحية السياسية. وكما أشرت، هل الجهاد قضية دينية، أم سياسية، أم كلتاهما معاً؟ وما مسؤولية الدولة في كل هذه الأوجه الثلاثة؟ هناك جانب الفرد. هناك فرد قابل لأن يغرَّر به لصغر سنه، وآخر غير قابل لذلك، لكبر سنه وخبرته وتعليمه. ماذا عن الأخير عندما يذهب للقتال بقناعته واختياره ومن دون أن يغرر به أحد؟ هل يملك وحده حق تقرير موقفه من قضية بحجم الانتصار لثورة في سورية مثلاً؟ وما حدود موقف هذا الفرد؟ هل هي موافقة الوالدين وولي الأمر، أم قوانين وأنظمة الدولة التي ينتمي إليها؟
في ما يتعلق بشرط موافقة الوالدين وولي الأمر تبرز ملاحظة لافتة. في حرب أفغانستان كانت هناك موافقة ولي الأمر، وعلى الأقل موافقة بعض الوالدين، ومع ذلك لم تختلف النتيجة. ترتب على تلك المشاركة إرهاب كان ولا يزال معنا، ما يعني أن المشكلة ليست مرتبطة فقط بموافقة الوالدين وولي الأمر. المشكلة في مكان آخر. خطاب ديني يتجاوز بحدوده وتطلعاته سياسات الدولة وقدراتها، وأحياناً يتناقض معها. هل مصطلح ولي الأمر بدلالته الآن هو نفسه الذي كان عليه في زمن المأمون وأبو جعفر المنصور ومعاوية بن أبي سفيان، أم أن ولاية الأمر أخذت تنصرف بدلالتها إلى مفهوم الدولة بمؤسساتها وتعقيداتها في هذا العصر؟ لماذا الإصرار على مصطلح ولاية الأمر، في حين أن هذا الأمر أصبح علاقة مركبة بين المجتمع والدولة، ولم يعد مجرد تجسيد في مؤسسة أو فرد؟ تشير هذه الأسئلة إلى أنه لم يعد من الممكن حصر معاني كل المصطلحات الشرعية بدلالاتها الدينية، وتجاهل مضامينها وتبعاتها السياسية والاجتماعية في كل مرحلة.
لا بد من الاعتراف بأنه عندما يتكرر الجدل بسخونة لافتة حول موضوع خطر مثل الجهاد، يتداخل فيه الديني مع السياسي، في لحظة تاريخية مفصلية، وفي مجتمع محافظ دينياً. فهذا علامة على حيوية ثقافية. لكن عندما يبقى هذا الجدل في غالبه وعلى مدى عقود، داخل دائرة الخطاب الديني، فهذا علامة أخرى لا تنسجم تماماً مع تلك. لماذا؟ لأنه ينم عن تناقض بين الطرح في الفضاء العام، والطرح في الفضاء الخاص، والقضية المطروحة قضية عامة.
ثانياً، أن الحيوية الظاهرة تُبطن شيئاً من الوجل والتردد، وربما عدم الثقة وعدم الوضوح. وأن هذا الوجل والتردد يفرض حصر القضية بحجمها وخطورتها، في إطار خطاب، انفعالي، إقصائي، منفصل عن العصر، ويتناقض رأساً مع الهدف المعلن لطرح القضية من أصلها، ما يحصر خيارات المجتمع داخل الخطاب التقليدي نفسه، ويعيده إلى المربع الأول: ما هو الجهاد؟ هل ذهاب الشبان السعوديين للقتال في الخارج جهاد دفع، أم جهاد طلب؟ ما شروط كل منهما؟ هل يجوز الجهاد من دون موافقة الوالدين، وموافقة ولي الأمر؟ كأنك تناقش الموضوع في إحدى حواضر الأمويين أو العباسيين، وليس في حواضر السعودية في اللحظة الراهنة.
ينطوي ذلك كله على ملاحظة يجب أن تأخذ حقها من الاهتمام، وهي أن العلاقة بين الديني والسياسي في الحال السعودية لم تواكب في تطورها التغيرات التي أصابت المجتمع والمنطقة، بما يجعلها قادرة على الجمع بين الهوية الإسلامية للدولة والمجتمع، والانسجام في الوقت نفسه مع الانتماء الوطني، ومع حقيقة أن السعودية دولة وطنية، وأن طبيعتها دولة مدنية. وهذا لن يتحقق إلا على أساس من نصوص دستورية تعيد صياغة هذه العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتأخذ صفة التعاقد والتكامل بينهما. الدولة الوطنية في حاجة إلى خطاب وطني، ما يتطلب مرجعية دستورية، تعكس خصوصيتها وتستجيب لظروفها وطموحاتها. أما حين تبقى هذه المرجعية متناثرة بين نصوص فقهية يعود أحدثها إلى القرن الثامن الهجري (14 م)، وأقدمها إلى القرن الثاني الهجري (8 م)، فلا بد أن تتناثر تبعاً لذلك هوية الانتماء الوطني لهذه الدولة في القرن الخامس عشر الهجري (21 م).
* كاتب وأكاديمي سعودي
الحياة اللندنية
منتدى التواصل يستضيف رئيس مجلس مفوضي هيئة الاتصالات
موعد الانتهاء من عطاء إنشاء محطة تحويل جرش
النائب الرياطي يشنّ هجوما على المكتب الدائم ورئيس المجلس
الفريق الوزاري يعقد اجتماعا في عجلون وجرش
مندوبا عن ولي العهد .. الخصاونة يفتتح مؤتمر الحوار الشبابي الثاني
انهيار سهم ستاربكس وماكدونالدز .. رسم بياني
واشنطن بوست:مدير CIA في قطر لمنع انهيار المفاوضات بين إسرائيل وحماس
خطة لترحيل سكان من غزة لأمريكا و3 دول ترفض مقترحا مصريا
انطلاق المؤتمر التربوي الدولي الخامس عشر في اليرموك
حملة لتحفيز الطلبة للالتحاق بالتخصصات المهنية
القبض على مطرب مهرجانات تسبب بقتل شخص
الاحتلال يلقي منشورات لإخلاء رفح .. صورة
نشوى مصطفى: عملت قبل التمثيل ببيع الملابس
مطلوبون لدفع مستحقات مالية .. أسماء
متى ينتهي عدم الاستقرار الجوي الذي يؤثر على المملكة
قرار المحكمة بحق شخص زوّر أوراق نقل ملكية أرض
المستفيدون من صندوق الاسكان العسكري لشهر 5 .. أسماء
هل منع الأردن دخول سيارات الكهرباء ذات البطاريات الصلبة
استمرار جدل انخفاض أسعار المركبات الكهربائية .. توضيحات
تحديد أسعار الدجاج في المملكة .. تفاصيل
إرادة ملكية بحصول شخصيات على ميدالية اليوبيل الفضي
اكتشاف موقع أثري جديد في جرش .. تفاصيل
الصناعة والتجارة تحدد سقوفًا سعرية للدجاج ابتداءً من الجمعة
جنود إسرائيليون يرتدون فساتين نساء غزة .. صورة
حالة الطقس من الخميس إلى الأحد .. تفاصيل