رباط الأبوة الفاسد

mainThumb

29-08-2022 06:23 AM

المراهق البريء الذي يعاني من الصداع النصفي، وتبدو عليه أعراض فوبيا اجتياز امتحانات البكالوريا يدخل والديه في دوامة من القلق، إذ يعتقدان أن مرضا خطيرا ما أصابه، ينتقلان به من طبيب إلى آخر بحثا عن سبب أوجاعه، وفي آخر المطاف وبعد صور وفحوصات طبية يوجه إلى طبيب أعصاب، وهذا الأخير يصف له دواء «خفيفا» لتجاوز الحالة الاكتئابية التي يعاني منها.
لكن المشكلة لا تكمن هنا، إذ يبدو أن المراهق مقبل على عملية في منتهى الخطورة. وكما في أغلب القصص التي ترويها عائلات مشابهة، يستيقظ الوالدان ذات يوم ويجدان رسالة تركها الشاب يخبرهما فيها أنه غادر إلى سوريا ملتحقا بجماعة قتالية.
كل الأسئلة التي تخطر على البال منذ تلك اللحظة يطرحها مخرج الفيلم التونسي «ابني العزيز» محمد بن عطية، ويناقشها بالهدوء الذي نحن فعلا بحاجة إليه.
يثير الفيلم قضية أهمية فهم أبنائنا وفهم الطريقة التي يفكرون بها، إذ يبدو أن الفجوة كبيرة بين الأهل والأبناء، مهما ظنوا أنهم قريبون منهم. الغريب أني قبل أن أتابع الفيلم على منصة نتفليكس جذبني ريبورتاج عن القطط بعنوان «عقل القطة من الداخل» حيث اجتمع دكاترة ومختصون وسيكولوجيون لشرح ما تفكر فيه القطط حين تصبح فردا من العائلة.
يقدم لنا هؤلاء نصائح جمة للتعامل مع القطط بالطريقة الصحيحة، حتى نكسب محبتها وندربها على السلوك الصحيح، لكنني طيلة هذا الفيلم الوثائقي كنت أتساءل عن حجم الفجوة بيننا كمجتمع وبين الغرب، الذي يتعمق في فهم ما تخفيه عقول البشر والحيوانات، ومع هذا فنحن جميعا نعاني من الآفات نفسها على هذا الكوكب.
لم أفجأ أن أكبر بلد تعيش فيه القطط هو اليابان، إنها معلومة لطيفة تسعد عشاق القطط، خاصة أنها تحظى بحياة محترمة هناك، المفاجئ فعلا هو ارتفاع نسبة المنتحرين إلى سبعين حالة يوميا في هذا البلد الذي تعيش فيه القطط السعيدة! فالإنسان ليس سعيدا في هذا البلد المتطور تكنولوجيا، الذي نصفه في الغالب بـ»كوكب اليابان» خاصة الطلبة، ولا أدري إلى أي مدى صدقت الدراسات المنشورة في مواقع عربية موضحة الفجوة بين الأبناء والآباء بسبب نمط الحياة السريع هناك، التي في الغالب هي السبب الرئيسي الذي يجعل المقبل على الانتحار يذهب إليه وحيدا بعد تحول الحياة إلى سباق لا ينتهي بين البشر.
في أوروبا التي أعادت بناء نفسها بعد الحرب العالمية الثانية بصيغة مختلفة لتحقق نوعا من الرفاهية لشعوبها، صعقت حين التحق عشرات الشبان والشابات المرفهين، بمنظمات إرهابية للقتال في صفوفها، تاركين خلفهم أولياء أخرستهم المفاجأة، كون أطفالهم المدللين اتقنوا إخفاء تحضيراتهم للسفر، وبعد سفرهم بدأت تتوضح أجزاء من شخصياتهم ما كانت لتنكشف لهم لولا هذه الصدمة. وهذا بالضبط ما يقودنا إليه محمد بن عطية من خلال المناقشات العميقة بين الأب (الممثل محمد ظريف) والأم (الممثلة منى ماجري) رغم أنها مناقشات مقتضبة، يلعب فيها الصمت ولغة الملامح دورين مهمين لقول ما يصعب على اللغة ترجمته. وإن كنت رأيت بعض الثغرات في السيناريو، وهي تجعل المشاهد يضيع أحيانا في فهم ما حدث، إلا أن الفكرة عموما وصلت.
بحثا عن ابنه يبيع الأب سيارته ويطير إلى إسطنبول ومنها إلى سوريا، في مغامرة غير واضحة الملامح، وهناك يلتقي ابنه في متاهة من البيوت المهدمة والمدمرة بسبب القصف. وكأنه في حلم يركض خلف ابنه، ثم يعانقه، وفيما يحاول أن يعيده معه يرفض الشاب، حتى أنه يحاول أن يجره بالقوة فيقول له بصريح العبارة: «لن أعود معك، سأبقى هنا، ولن أكون مثلك».
إذا ما جمعنا الجمل القليلة المشفرة في السيناريو سنفهم أن «الربيع العربي» الذي بدأ أولا من تونس، لم يكن سوى محاولة مراهقة لمخالفة النظام السائد في البيت، والذي كان له إيقاع روتيني أشبه بإيقاع اللاشيء. لقد أراد هذا المراهق أن يحمل قضية عظيمة مثل الجهاد في سبيل الله، والانتصار لدولة تحكم بشرعه العادل، عكس والده العامل البسيط الذي لا يكفيه مرتبه ومرتب زوجته ليعيشا حياة كريمة. الغائب الأكبر في الفيلم وهو مقصود بالتأكيد، هو الابن الذي كان محور أحاديث الوالدين، لكنه ظل يعيش في عالم مواز لعالمهما، وفيما كانا يفكران طيلة الوقت في وضعه الصحي، كان يمثل أمامهما دور المريض لاستعطافهما، يكتشف الوالد أن ابنه كذب عليه حتى في زيارة طبيب الأعصاب، إذ أخبره هذا الأخير أن ابنه لم يكن لديه اكتئاب.
في سوريا وبعد عودة الأب خالي الوفاض، يتزوج المراهق مراهقة مثله وينجبان طفلا، ويرسل فيديو لوالديه. وفيما هما يعيشان صدمة حياتهما ويكتشفان ابنا آخر غير الذي عرفاه تسعة عشر عاما. نفهم جيدا ما يجعل مراهقا يلتحق بجماعات متطرفة من بلد لبلد، فهناك في إمكانه أن يتزوج ويمارس الجنس الممنوع عليه، سيلبي رغباته الغرائزية كلها، ينجب أطفالا، ويطلق النار على الأعداء، ويصبح بطلا، وإن مات فهو شهيد، وهذه أكبر مكافأة ينالها حين يصعد إلى السماء، فيجد عددا غير نهائي من الحوريات في استقباله.
إن مقارنة بسيطة بين هذا العالم الذي حقق فيه المراهق كل ما يرغب فيه، وعالمه الذي كان يعيش فيه، حيث العلاقة الجنسية ممنوعة عليه حتى ينهي مشواره الدراسي الطويل ويكوّن نفسه، ويجد بيتا، ويكرر حياة والده البائسة بحذافيرها، بل يعيشها كعبء على عاتقه، كل هذا يجعلنا نفهم جيدا الطريق المختصرة التي سلكتها «ثورة استعجالية» لتحقيق أهداف كبيرة دون التحضر لها جيدا.
ينتهي الفيلم نهاية موجعة، بعد أن انهار عالم الوالدين معا، ففي لحظة وداع الأب لزوجته في محطة القطار لتزور عماتها وبعض أفراد عائلتها، تبكي بحرقة لا تعني لأي متطرف شيئا، وتسأل زوجها: «هل رأيته فعلا في سوريا، مثلما تراني الآن؟ هل سألك عني؟» لكن الرجل لا يجد ما يقول، فالمراهق لم يسأل عن أمه، كل ما كان يهمه هو أن يذهب في طريق مختلفة لا تتقاطع أبدا مع حياة والديه.
يمضي القطار في مشهد يختصر «قطار الحياة» الذي لا يأبه لأحزاننا، ليليه مشهد أخير إذ يجلس هذا الوالد المفجوع مع زملائه في العمل، وأغلبهم شبان في عمر ابنه، يتقاسمون الرغيف معا، ويضحكون، يتأملهم بمحبة كبيرة. عرف هذا الممثل البارع أن يعكسها على ملامح وجهه، ويبتسم دون أي مرارة، وكأنه وجد ما يواسيه في وجوه الشبان المحيطين به.
يبهرنا الأداء لممثلين بارعين، حتى أننا في لحظات نشعر أن كل ما يحدث في الفيلم حقيقي، وليس أكثر من برنامج من برامج الواقع، ولعلنا مهما قرأنا لغة الفيلم بإسقاطاتنا وخلفياتنا العاطفية والثقافية، فإننا نبقى في حيرة أمام غموض الحياة، وكيف أن الأمومة جارحة والأبوة فخ، وهما وإن كانا التزاما جميلا نظريا، فإنهما مغامرة نحو المجهول. لعل جان بول سارتر أكثر صدقا حين قال: «لا يوجد آباء صادقون، هذه هي القاعدة، دعونا لا نلوم الرجال، لكن رباط الأبوة فاسد». وهو الرباط الذي أرادنا محمد بن عطية أن نراه في نظام لم يكن يهمه سوى أن يتقاسم ابناءه الرغيف على طاولة بائسة!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد