جنين: الكلامُ فائضٌ عن الحاجة!

mainThumb

03-07-2023 11:02 AM

منذُ مجازر جنين 2002، يرى مراقبونَ أنّ هذا العدوانَ هو الأكثرُ عنفًا على مدينة جنين هذه اللّيلة. يبدو أنّ سيناريو اجتياح الاحتلال للضّفة الغربيّة أو بعضِ مُدُنها أصبحَ قريبًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. تقفُ البنادق الوحيدة والقليلة وجهًا لوجه مع آلة العدوانِ، محمّلة بكلّ ما أورثتها مرحلةُ التّرهل من هشاشةٍ وخذلان. هل تحتاجُ أن تثبتَ أنّ المقاومة جدوى مستمرّة؟. لا إطلاقًا، كما "لا يحتاجُ دمٌ بهذا الوضوحِ إلى معجمٍ طبقيٍّ لكي نفهمه"، وكما لا يحتاجُ الإيمان بفلسطين الكاملة إلى إثبات، وكما لا يحتاجُ الفلسطينيّ إطلاقًا إلى المجتمع الدّوليّ، ونداءات الأمم المتّحدة، وبيانات الشّجب، وكُتلة الوهم المتكدّسة في حلقه. يحاصِرُ الاحتلال جنين، وكلّما حاصرها أكثر فزّ رجالُها.
اليوم، وغدّا وحتّى الأبد، ستعجزُ كلّ آلات الاحتلال عن تحليل وتوقّع واستيعابِ هذه الحالة المقاوِمة التي نجت من التّدجين المرتّب والطويل، والتي أفاقت من ورطة "الممرّ المؤقّت"، والتي تواجه واحدةً ووحيدة، ومحاصَرة ومُحاصِرة، ليسَ الاحتلال فحسب، بل تواجه أيضًا ما فرضه التّخاذل الطويل من تطبُّعٍ مع العدو. اليوم وغدًا وللأبد.
مرّة أخرى، مرّة دائمة. أُحِسّ بشدّة أنّ الكَلام فائضٌ عن الحاجة. الآن ودائمًا أقف عاجزًا أمام "بلاغة الفِعل" مقابل أصواتنا الباهتة، وكتاباتِنا السّخيفة، وخُطَبِنا المجوّفة. فليغفِرَ الشهداءُ لنا، ونحنُ نغرقُ في يوميِّنا، وليغفروا أشياءنا النّاقصة.. وتلعثُمَنا قُدّام أنفُسِنا.. كأنّ "شيئًا فينا يموت"، وننتبِهُ شاكِّين بفلسطينيّتنا حتّى، فنخجَل.. ونخترعُ طرقًا خاصّة للحداد، طرقٌ عاجِزة.. كأن نحفَظَ أسماءَهم لننقِذهم من ركضِ الأرقام.. كأنْ نشاهد جنازاتِهم وهي صاعدة إلى السّماء.. طرقٌ عاجِزة.. ونشكُّ أكثَرَ إنْ كُنا فعلًا نرفعُ العتب عن أنفُسنا أمامَ أنفُسِنا، ونشكُّ أنّا تحجّرنا.. وأنّهم كانوا ومازالوا من طينٍ طريٍّ فلسطينيّ له رائحةٌ وأثَرَ... لم تُحجِّره المرحلة.. لم توسِّخه المرحلة. أشاهدُ من بعيد الجسارة التي أنسانا تناسُل الهزيمة كيفَ يكونُ شكلها. بصمتٍ، بصمت.. أفضلَ من الثّرثرة والشّعارات بقليل، أواجه أعيُنَ "أمّهات الشّهداء" في الصُّوَر. يا الله كيفَ اختلطت معاني الحياة والموت، الجرأة والتّراجع، النّصر والهزيمة، البكاء والضّحك، الوطنيّة والتّكسّب. كيفَ يمكننا يا الله أن ننظر في وجوه الشّهداء، وفي وجوه ذويهم. كيفَ يُمكننا أن لا نخجَل.. أن لا نستدعي الخُذلان كمكوّن أساسيّ في بناء معنى المرحلة. مختنِقة هي الكلمات، وبلا معنى وبلا فائدة.. مختنِقة.. أمام فعل الشّهادة القدسيّ والمقدّس، أمامَ جلالة صوت الشّهيد وصوت سلاحِه وعمره الذي أفناه لفلسطين الواحدة والكامِلة. مختنِقة حتّى أنّها لو أرادت تعريفَ فلسطين لاستَعانت بصورةٍ شهيدٍ، أو صوره أمّه: "أنقذوها من الألقاب والكلام".. الكلامُ فائضٌ الآن، هذا وغيرُه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد