الآن .. وَقَد فسد كلُّ شيء!

mainThumb

02-08-2023 03:42 PM


(1)
الجَميلات قصائِد بديعَة لشاعِر معدومِ النّظر، الأقلّ جمالًا قصائِد رديئَة لشاعرٍ مُبصر. القَصائِد تجلس على الطاوِلة، تعدِل حرفَ القاف في مقدّمة رأسها، تدخُل من هوّة الباب إلى "الأسودِ المفتوح من كتفيه"، تخرجُ من عينِ لاقِط الصّوت إلى إسفنجَة الجمهور. الجمهور "يمتصّ القصائِد" ولا يفهم شيئًا، الشّيء لعبة غسّان كنفاني مع الرّموز والقبّعات، الحقيقة الغائِبة عَن شقّة (ليلى الحايك). ليلى تسبّبت بصيتٍ سيّء للذئب، وجيّد لمجنونها، فكيفَ سنفكّ لغزها مِن انفجار السّيارة. الوَرقُ يحمل همّ الأشجار العارية، والكتّاب الرديئين واتّحادهم العجوز، ويبكي على قصّة لم تكتَمل، وعلى ذائِقة شعراء تشبه ذائقة "سلاحفَ ثرثارة".
(2)
منذُ أيّام أتذكّر "كارل الصّغير" في رواية السّويديّة أستريد ليندغرين. هو الآن في "تانجيالا"، الحياةُ المتخيّلة الأخرى، وتحديدًا في واد الكرز، يواجِه جيشَ "تنغل"، ويتسلّل إلى غرفةِ صغيرة تحتَ البيت ليكتب قصصًا لن يقرأها أحدٌ هنا، وأستعيدُ كلّ المنتحرين، رغم أنّه لم ينتحر.
(3)
لا أعرفُ سرّ تداخل الأشياء، ولا حتّى "الصّدف الموجّهة" بِعناية، اعتدتُ أن أدخل إلى الكآبة بكامِل أناقتي، وبكلّ قواي، أنْ أعطي كلّ شيء حقّه، أستسلم لما أفكّر فيه، أتركه يَعوي داخِلي، وأفكّر بالفلسفة الكلبيّة، وبالشّعراء الذين يعوي بداخلهم كلّ شيء، هذا سُعارٌ ينتقِلْ، سعارٌ غيرُ منتجٍ إطلاقًا.
(4)
لا أعرفُ كيفَ أرتِّبُ نفسي، وكيفَ أدرّبها على التِزام قواعِد الوُجود، ببساطة لا شيء يأتي كما نُريد، حتّى هُنا أحاول الإسهاب في شرح فكرة واحِدة، هذه الفكرة، لا أستطيع. الآنَ أتذكّر أنّي قرأتُ قديمًا عَن "رجلٍ أطلق النار على نفسه عِندما عاد من الحَرب؛ بعد أنْ أرسل رسالة لأمّه أنّه سيصطحب معه صديقه مبتور القَدم حتّى يتعافى، فرفضَتْ، وكانَ هو مبتور القدم". وأيًا كان ما فكّر به لكنّه مخطئ؛ إذ يختلف شعور الأم تجاهه، أنا لا أروي القصص بشكلٍ جيّد، وطريقتي في طرح النّكت تجعلها سمجة جدًا، فلا يضحك أحد، ولا أنا أيضًا، كلّ هذا الهراء لا معنى له، لماذا أنقلُهُ لكم كأنّه أدبٌ جيّد؟
(5)
قَبل عامين تقريبًا، كنتُ كتبتُ أنّ: الذاكرةَ مكانٌ سيءٌ لحفظِ الأشياء. يومَها لم أوضّح تمامًا ما الذي كنتُ أعنيه. متأخرًا عن توضيحِ هذا، متأخّرًا عن كُلّ شيء، تحدثُ أشيائي في غير مواعيدها، وأتبدّلُ من الدّاخل، هل في يومٍ ما سأقارِبُ بين أتبدَّلُ وأتحجَّرُ كمفردتينِ لمعنى واحِد؟ نحنُ من نُكسبُ المفرداتِ معانيها بكل الأحوال، بنفسِ الطّريقة التي نكسِبُ فيها الأحداثَ صفة ديمومة الوقوع حينَ نضعُها، دون إرادتنا في الذّاكرة، ونكسبُ فيها التّفاصيل ديمومة المقاربة والتّشابُه والتّكرار من طرفٍ واحد، وحينَ نرفعُ سقفَ أحلامِنا سماءً. لذا؛ هي مكانٌ سيءٌ لحفظ الأشياء لأنّها تبقى هُناكَ، فيها، أبدًا، ما يحدثُ فقط هو أنّ بعضها مع الوقت يفقدُ قدرتَهُ على التأثير، لكن وحتّى يفقدَ قدرتَه هذه، ستبقى الأشياء والشّوارع والأماكن والكلمات والرّوائح والأصوات تعيدُ توليدَ الماضي بما لا يتركُ مساحةً لحياة مُسالمة داخلِ الرّاهن. لا أقول الحاضِر، فأنّا لا أرى أنّ هناك منطقة زمنيّة اسمُها الحاضِر؛ أنا أكتب هذه الجملة الآن، والآن أصبحت ماضيًا، وأنت ستقرأُها في المستقبل!، فكأنّ مساحة الحاضِر هي أجزاء متناهية الصِّغَر من الثّانية. لذا؛ أميلُ إلى الرّاهن كوصفٍ لمستَمِرّ الحدوث من الماضي القَريب إلى المستقبل القريب، والرّاهنُ اسمُ فاعِلٍ مِن رَهَن؛ نحنُ نرهِنُ/ ننذر أعمارَنا لِلّحظة، ومنها راهَنَ؛ نحنُ نراهِن/ نُقامِر بأنفُسنا في مسرحيّة الوقت.

(6)
إنّ الاغتراب، وتداخُل الأمور اليوميّة في الحياة والسّياسة والوطنيّة والدين والآلهة تجعلنا نهذي لا نَكتب، وبدون قصد نصبح سورياليين جدًا، وغيرَ مفهومين، وإنّ الواقع الذي يرتدي عباءة الفنتازيا يجعلنا في تخبّطٍ بين الحقيقيّ والمزيّف، المتخيّل وما حَصل.
(7)
أتجنّب الحديث في السّياسة. لم يعد يهمّني كلّ ما يجري لأجل تقريب فكرة المُصالحة من النّظريّ المثاليّ إلى المُمكن المستحيل، وحتّى فَصل غزّة والتّهدئة والإجراءات العقابيّة والدين متعدّد الوجوه، وكُل ما يتعلّق باستحالة تقبّل الآخر، واتّهامات الكُفر، وتراشق التّخوين، وصفقة القرن، و(A1)، والكونفدراليّة، والقدس الكُبرى، ويمين يمين اليمين المتطرّف في حكومة الاحتلال. لا أريد أن أفكّر في كلّ هذا؛ لأنّني أعرف تمامًا أنّنا انزلقنا إلى أبعد مما كنّا نتخيّل حين نزلنا السّلم إلى "الممرِّ المؤقّت". أتجنّب أيضًا الحديث عن المُجتمع، والجِن، والطّب الشّرعيّ، والثّقافة، ونظام التّعليم، وتغيير الحُكومات، والتّعفُّر بتراب الوطن، وشركات الاتّصالات، لا أريد التّفكير بأيّ شيء، فقط أفكّر: ماذا سنَكتُبُ عنّا لَنا بعدَ السّقوط الأخير.. وكيفَ ستعيدُ الأجيال كِتابة هذا الفَصل اللّزج من الذاكِرة؟
(8)
لماذا غسّان كنفاني الآن؟، هل تفتقده المرحلة إلى هذا الحَد؟، هل مسرحيّته "الشّيء" كُتِبَتْ لأجلِ هذا الوقت تحديدًا، وهل روايته المبتورة تنتظر أحدًا ما، لا أعرفُ أيّ شيء سوى أنّني فقدت قدرةً مُخيفة لا أعلم ما هي، وأصبحَ "خلقي" ضيقًا جدًا.
(9)
يُبارك الجميعُ جهودَ الجميع، وعلى عكّازتين من أكاذيبَ مُريحة تمشي البلادُ الغضّة نحو مجهولِها الطّاعن والصّعب. لم تعد الحقائق، حتّى الصّغيرة منها، ذاتَ أهميّة، ومع الوقتِ أصبَحت توتةً منسيّةً في ليوان البيتِ الأوّل المهجور. نبيعُ الوهم ثمّ نشتريه، ونصدّق ما كَذَبْنا بأنفسنا. الحقائق مؤلمة، لا "القومُ هم القوم ولا السّر هو السّر ولا العلن"، ولا الهتافُ للوطن.. كلّ يوم نعود لحيِّنا الصّغير "أكثر إحباطًا وحزنًا". نلعن نشتم نهشّم. المشّهد مريع.. من الدّاخل والخارج، الكلّ يصفّق للعكازتين والقدمان قادرتان. يبارك الجميعُ للجميعِ، ويشتمُ الجميعُ الجميعَ، ولا.. لا أحد.. انتبهَ للأوراق الصّغيرة التي نبتت لشجرة التّوت ذلكَ المساء.
(10)
الآن.. وقد فسَدَ كلّ شيء، يتمّ اغتيالنا معنويًا، شعبٌ من الجثث يحرث الشّوارع، تسقُط يده فيأخذ يدَ أخيه مكانها يا محمود درويش، هذا الحُطام/ القاع لا سبيلَ إلى النّجاة منه، كلّ شيء جاهِز للتّعفن، ليس هذا إحباطًا بل ذروته، ليسَ هذا مقالًا.. بل صُراخًا مخنوقًا، ليسَ موتًا هذا.. بل سلسلةٌ انفرطت من التّعارك مع الوقت الجامد، وهذه الأرقامُ بينَ الفقرات جثث تتكوّمُ في ذاكرتي، أدفنها معًا هُنا؛ لعلّي أنجو من "لعنة التّاريخ"،...

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد