لَقَد أصابَهُ العطب

mainThumb

23-08-2023 08:22 PM

صَباحًا، كانَ الذين لم يقولوا كلّ شيءٍ، ولم يعترفوا أو يعتذروا في (وقتِ ما قبلَ باقة الورد) بقليلٍ، يتسلّلون بهدوءٍ لا يُشبِهُ ما يخنقهم من كلامٍ وذكريات، يتسوّرون جدران مقبرة القرية خلسةً؛ بعيدًا عن عيون رجال الأمن، ويهرعون بطيشِ النّقصان الذي لم تتفهمه الشّرائع كلّها؛ ليغسِلوا شواهِدَ القبور، وليضمّوا الصّمتَ الذي ينزُّ منها كالعرَقِ البارد، وليتحدّثوا بالصّوت لو أسعَفَهُم الفمُ، وبغيره لو ارتجّ منهم الذّقن والشّفتان، ويعودونَ مثخنين، الواحِد بِسَريَّةِ جُنْدٍ عائِدةٍ من حربٍ خاسِرةٍ مع عدوٍ غير مرئيٍّ يَشُقّ القلوب، ويهرسُ سلاحَ التّصبُّر.. ثمّ يُسلِمُ الجسدَ/ الجثّةَ لدويّ انفجاراتٍ بعيدةٍ كانت أحلامًا وذكرياتٍ وأشياءَ ناقصة.

والوحيدون، في الغرباتِ الأخرى هنا، بلا مقابرَ أيضًا، لكنّني كنتُ أشَدَّ فطنةً مِن الوقوعِ في فخٍ كهذا، فحملتُ حين خرجتُ مقبرتي، بمدافِنها وصوتِ قرقعةِ عظامِها، مكوِّنًا أصيلًا لجسدٍ نالت منهُ حروبٌ إضافيّةٌ فصار الزائِرَ والمَزُور، الميِّت و"الخارجَ من القيامة" لزيارة موتى آخرين، ولِحُسْنِ حظِّهِ أو سُوئِهِ فقد اندلَقَتْ هذه المقبرة على أشيائِه الأخرى، كأنّها مَحْبَرَةٌ، في انزياحٍ لغويٍّ لحرف القاف؛ فلم يُكن بحاجةٍ لِتَسوّر جدارٍ، ولا محاذرة رَجُلِ أمن، ولم يُحْضِرْ وردًا يُنافي مبدأ الذّبول فيه، فكانَ أن جلسَ واضعًا رأسَهُ بين رُكبتيه، وكانت المفاجأة أنّ اندلاق المقبرة جعلَ الأصواتَ تنجرفُ عبر نهرٍ قديمٍ في مخيّلته إلى البعيد جدًا، وكان رغم رأسه الملتصق بركبتيه يجدُ صعوبةً في تمييزِ تلك الأصواتِ البعيدة، وبالضّرورة فقد كانت الملامِحُ أشدّ اختفاءً واختلاطًا وبُعدًا. وللحقّ فإنّ هذا جعلَ الزّيارات أشدّ صعوبةً وقسوةً، ورغم أنّ المصائب الكبيرة تُخفي التفاصيلَ وتجعلها غير ذات أهميّة؛ فلو استُشْهِدَ جدّك في إحدى معارك تسليم البلاد مثلًا هل ستهتمّ للون عيني الجنديّ الذي قتله؟، الفاجعة كالزّلزال.. تأخذُ الشّقوق الصّغيرة إلى بطن الشّق الأوسع.. تذوبُ فيه ثمّ تطفو أنت، لكنّ هذا لم يمنع تساؤلَ الجغرافيا من أنْ يملك خاطِرَه شيئًا من الوقت، أو يتسلّل إلى شرايينه.

يظلّ، دائمًا، يهجِسُ بذكر الموتِ طقسًا وحيدًا يُذَكِّرُهُ أنه لم يعد صالحًا لشيءٍ أبدًا، وأنّ المقبرة التي اندلقت بدأت تتسرب من مسامِّهِ بُقَعًا جلديّةً داكِنةً، وغبشًا في العينين، وكيفَ أنّه لم يعد ضِمْنَ نطاقِ الزّمن المحسوس غالبًا، لقد أصابه العطب كأيّ ساعة حائط أو طريقٍ عموميٍّ أو ذاكرة هاتِف، واتّجه نحوَ اندثارِ الكلام والرّغبة. وحينَ أدركَ تمامَ الإدراك عبثيّةَ كلّ ما يُحاول، وعبثيّة الصّعقات الطّبيّة الصّديقة في إنقاذِه من الهاوية استراحَ إلى نفسِه كما هي، كما لو أنّها لم تعد تَعْنِيه أو تخصُّهُ.

هو ذا يصدَأ كما يَصدأ الحديد، غيرَ أنّه لم يكن يومًا حديدًا، الهشاشةُ صفةٌ ملازِمةٌ لسيقان سنابل القمح، قد يُمدَحُ شموخهنّ أحيانًا، حين تبيع ملأى السّنابل بساتينَ صدورهنّ للغرباء، هو ساقُ السّنبلة، بهشاشتها وشموخها، وامتلائِها الخاصّ، لكنّه يَصدأ، يتحامَل على ساقِهِ الوحيدة. هو ساقُ السّنبلة بكلّ ما فيها من نهاية مطافٍ وشيكةٍ، ساقُ السّنبلة التي غادرت البيدر وحدها، هي الآن تفكّ مكابح التّشبُّث والمحاولة، وتتركَ للتّيار (تسيير) المتبقّي منها بإرادتها المطلقة.. الأولى والآخِرة، وإنْ كانَ جسده/جسدها/ساقها كبشَ فداء النّهايات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد