غزة: الكلمةُ شاهدة .. الكلمةُ تعرفُ طريقها

mainThumb

18-11-2023 06:05 PM

 

«لي أنْ أكتب كلمةً. كلمةً واحدة لأشهد على هذا العذاب الفلسطيني، كلمةً لأكون حيث يجب أن أكون». محمد بنّيس

أقرأ هذا الأسبوع كتابَ "فلسطين ذاكرةُ المقاومات" للشاعر والكاتب المغربي محمد بنّيس، كتابٌ جمع فيه مقالاتهِ التي كتبها عن القضية الفلسطينية طِوال حياته الأدبية، وعن أصدقاءه من المثقفين الفلسطينيين الذين التقى بهم أو استضافهم عنده، إلى جانب اقتباساتٍ و أشعار و نصوص لكُتّاب وشُعراء وباحثين من مختَلَف الجنسيات، مثل: محمود درويش، مريد البرغوثي، إلياس خوري، سحر خليفة، عبد الله العروي، جيل دولوز، عبد الكبير الخطيبي.. وآخرون.
وصلتُ للفصل الرابع من الكتاب، والذي عَنْونه بنّيس "من هنا غزة". يفتتحه بنصٍ لنعوم شومسكي بعنوان "كابوس غزة" يليه قصيدة لمحمد بنيس بعنوان "أرض بدماء كثيرة" ثم نصٌّ لمحمود درويش وردت فيه جملة:«فلا تعرف في أية غزة أنت. و تقول: أتيتُ ولكني لم أصل. و جئتُ و لكنني لم أعد». ثم يليه مقالاتٌ كتبها بنيس خلال الحروب السابقة التي مرّت على غزة. أقرأها و أفكّر أنّه لولا التاريخ الذي ذُيّل في نهاية كل نصّ لأقسمتُ أنها كُتبت بعد أكتوبر من هذا العام.
فيقفز السؤال مُباشرةً، كم من جيلٍ فلسطيني عليه أي يُشاهد لحظاتِ الموتُ نفسها؟ هو دمهم نفسه الذي لم يتوقف جريانه، سواءً شاهدناه نحن، البعيدونَ مسافةً القريبون قلبًا ووِجدانًا، سواءً التقطتهُ كاميرات تصوير الصحفيين الشجعان أم لم تلتقطه، سواء انقطعت الاتصالات أو لم تنقطع، هو نفس الدم الذي يجري رغم تعدُّد أسمائه. السؤال إذن، إلى متى؟، إلى متى سنُباركُ صمت حكوماتنا و نُنضال بأضعف الإيمان؟
متى "نتخلى عن الاعتقاد بأنّ هذا الغرب سيتجرأ على تكذيبِ الرّواية الإسرائيلية و نتخلّى عن التذرُع بأنه سيبني تخلّيه على تسلسلٌ منطقي، فبيننا وبين المنطق كل من التاريخ و الأسطورة" ؟ أعيد صياغة هذا السؤال الذي كتبهُ محمد بنيس في 2012، ويُؤلمني أنه لا يزال صالحًا حتّى بعد عشرِ سنوات وأكثر من كِتابته. فها نحن اليوم نُشاهدُ على شاشاتنا الإبادة نفسَها، والدماء نفسها، والجنون نفسه، والخبث نفسه، وها نحن مرّة أخرى ننتظر من الغربِ عطفه وإنسانيته ونتصرّف كالمتفاجئين من ازدواجيّة مواقفه!
«كلما تأملتُ وجدتُ نفسي تقول لنفسي بأن علينا أن نتبعد عن كل الأوهام التي تجعلنا نأمل شيئًا من هذا الغرب المتهاوي، صَدق السّابقون علينا في هذا الحكم، و هو نفسه السائد بين جميع الفلسطينيين. لا اختيار لنا غير أن نقول أنهم صدقوا. نُصرة الشعب الفلسطيني تحتاج إلينا نحن أولًا. أبناء غزة يأملون في هذا القليل الذي نقدمهم لهم، إنهم مُحاصرون بالجوع و المرض و مطوقون بسرب الطائرات و بالبوارج الحربية».
أ ترى؟ إنه المشهد نفسه يتكرّر، إلى متى إذن سنظل نُكرر الخُلاصاتِ نفسها، ومتى ستصبح الخُلاصاتُ هذه أفعالًا على أرض الواقع نتسلّحُ بها ضد العدو الذي كلما ازدادت حكوماتنا تواطؤًا معه زاد هو تَعنُّتًا و خُبثًا؟. هذا هو السؤال الذي علِق بذهني من قراءة الكِتاب. لا أريد أن نبقى نجترُّ الكلام ذاته كلّ مرة، أن نتعود على تكرار المشاهد، أن نُطبّع مع الدماء وأنْ نتجنّب النظر إلى الصور ونكمل scrolling على صفحاتنا نشاهد الـmeme التالي كأنّ الأمرَ لا يعنينا، كأن المأساة ستتوقف إنْ نحنُ لم نُشاهدها.

أخبرَني أخي ذو الثامنة عشر أنه لم يعد يُطيق الدخول لتطبيق الانستجرام حتى لا يُشاهد صور الأشلاء وجثامين الشهداء، لم أستغرب، فبعد أكثر من أربعين يومًا من الإبادة التي يتعرض لها الشعب الأبيّ، ومع تكرار المجازر وارتفاع "أعداد" الشهداء سيملّ المُشاهد في لحظةٍ ما وسيودّ تغيير المحطة والانصرافِ لليوميّ! أ ليس كذلك؟أخبرتُ أخي أنْ لا يتجاهل أي خبر، أنْ يرى كل الصور وأن ينقُرَ على كل الفيديوهات، أن يحفظ كلّ مشهدٍ وأن يحفره في ذاكرته، وأن يحرص على ألّا ينساه، أنْ يترك للغضبِ أن يتشكّل كما يجب فـ«غضبُنا معدات بقائِنا». و أن يحمد الله أنه يملك نعمة الضمير الذي يشكّل غضبه، وأن يكون حريصًا على أن يصبّه في المكان والوقت المناسِبَيْن. أما أنا فأصبّ غضبي هنا وأقنعُ نفسي أنّ "الكتابة مُقاومة" وعزائي في ذلك ما قاله الكاتب المغربي محمد شكري (الذي مرّت ذكرى رحيله العشرين قبل ثلاثةِ أيام):«قل كلمتك قبل أن تموت فإنها حتمًا ستعرف طريقها».
إنها حربُ روايةِ أصحاب الحق بالحُجّة التاريخية والبرهان الماديّ، ورواية العدو الكاذبة التي لغمها بتحايلات خبيثةٍ وتدنيس للحقائق وتدمير كلّ الدلائل التي تقف ضدّه.. لكن، عبثًا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد