إنّنا لا «نرقُص بينَ شهيدين»

mainThumb
أحذية أطفال في ساحة بأمستردام السبت خلال تحرك رمزي تضامنًا مع الأطفال الفلسطينيين الشهداء بقطاع غزة (إ.ب.أ)

13-01-2024 11:44 PM

 

يقولُ صديقي قبَل عِدة أيام: كُلّنا «صهاينة» بدرجةٍ ما حينَ وافقنا/ نوافِقُ، على "حلِّ الدّولتين"، وعلى الانتِقاص شبرًا من فلسطين التّاريخيّة، رغمَ كُلّ ما قُدِّم ويقدّم من مُبررات واقعية أو مرحليّة. ذكّرني هذا بما كَتَبه الأسير الفلسطينيّ «إبراهيم مرعي/ حامد» في افتتاحيّة العدد 136 من مجلّة الدراسات الفلسطينيّة (خريف 2023)، مُقتبِسًا من المفكر الفلسطينيّ «حنّا ميخائيل» قولَه: يبدو أنّ "المقصودَ بالمرحلية لم يكن تحريرَ فلسطين على مراحل، وإنما الاعتراف بـ "إسرائيل"على مراحل". وأوضحَ الأسيرُ، الذي يقضي حكمًا مؤبدًا بالسّجن في سجون الاحتلال 54 مرةً، «إبراهيم مرعي»، (والكلامُ له الآن) أنّ "مسار التغيير في الفكر السياسي الفلسطيني، سيُكْتَشَفُ أنّه لم يكن في الواقع غير محاولة اختراع المصطلحات والمسمّيات والمقولات من أجل التكيّف والتماثل مع ما يسمّى "الشرعية الدولية"؛ التي كان أحد شروط اعتناقها ليس فقط خلع الشرعية النضالية التحررية السابقة، بل أن يحلّ محلّها شرعية استعمار فلسطين والاعتراف بـ "إسرائيل" كـ "حقيقة سياسية مطلقة"!... وبالتالي، فإنّ هذه الثوابت الفلسطينية المستحدَثة إنما تنطلِقُ من ثابت ثوابت "الشرعية الدولية" الظالمة". (انتهى الاقتباس) لأجلِ هذا يبدو اليوم شِعار «من البحرِ إلى النّهر» خطرًا، ويُمكن أن يُحاكَمَ قائله في أوروبا مثلًا؛ لأنّه يقوِّض قرارات الشّرعيّة الدوليّ غير الشّرعية، بنفسِ القَدْر الذي يقوضُ فيه كلّ المواقف الفلسطينيّة والعربيّة، التي ما زالت تستمتعُ بتقديمِ كذبةِ "حل الدّولتين" الميِّت.
يدخل العدوان على غزّةَ الفلسطينيّة يومه المئة، تاركًا العالَم في ثلاثِ حالاتٍ لا رابعَ لها؛ إمّا موافقٌ ومُشاركٌ في "الإبادة الجماعيّة"، أو عاجِز ويحاوِلُ بما استطاعَ و(تتكسَّر الأشياءُ وتفقدُ معانيها في جوفِهِ)، وإمّا مُغيَّبٌ يفكِّرُ في إنقاذ "السّلاحف البحريّة".

بلينكن في «رام الله».. وهي في كأس آسيا
نامَت نواطيرُ «رام الله». وَحدَهُم العُزَّلُ الصّغارُ على أطرافِها مازالوا يحاوِلون إنقاذَ المدينة، من مأزِقِ اسمها الصّعب في كُتُب اللّغة، وكانوا قرَّرُوا قبْلًا أنّها إنْ كانَت إرادةَ اللهِ فعلًا فإنّه رامها أكثَرَ وضوحًا واتّزانًا وثباتًا، وأنّه إذا رامَ مدينةً قدَّسَها، وقدَّس الدفاع عنها. وهي.. تذكِّرُ اليومَ بِضِدِّ ما عنونَ به (شاعرٌ فلسطينيّ) مجموعَته الشّعريّة: «الموتى لا ينتحِرون».
لا شيء يمكن أن يصفَ فداحة الذينَ يستمرّون بتقديم الأشياء التي ولدت ميْتةً ومهزومةً، و(الهزيمة في هذا السّياق فقط رديفُ الموت)، على أنّها حيّة.. تسعى. مع أنّ المطلوبَ بسيطٌ جدًا نظريًا، وهو إعلانُ «الفشل». وهو إعلانٌ لا يحتاجُ شجاعةَ عنترة، إذْ لا يخفى على أحد أنّ مشروعَ «التّسوية» فشِل فشلًا ذريعًا في تحقيقِ أيّ نتائج وطنيّة، أو حتّى في تقليل الخسائر.
يدخُلُ بلينكن إلى «رام الله»، ويخرُجُ منها مؤكِّدًا، في هذا الوقتِ الذي تستمرُّ فيه الإبادة الجماعيّة في غزّة، والإبادة المُنتقاة بحقِّ البقايا غير الفاسِدة في الضّفة يوميًا، أنه تحدّث عن "إصلاحاتٍ إداريّة في السّلطة الفلسطينيّة"، فيما يسألُني نادِل المقهى: «كيفَ يمكن أن يُشارك (الفِدائيّ) في كأس آسيا في هذه الظّروف»، أعجز عن الإجابة، كما كنتُ سابقًا.. وكما كانَ يمكنُني أن أقول إنّنا نستمرُّ ونحاوِل بكلِّ ما أوتينا، وإنّ وجودنا نفسه حالة «مقاومة». لكنّني أجِدُ اليومَ أنّ كلَّ ذلك هو استمرارٌ بمحاولة النفث في الجثّة الميتة، وتقديم الفَشل والحالة غير الطبيعيّة على أنّها الحالة المِثاليّة، وتعزيز الفصل المُطلق والانفِصام في الوضع الفلسطينيّ. ولكيْ لا نظلَّ نستدعي أنّنا "نرقُصُ بينَ شهيدين"، من الجيّد التفكيرِ بأنّها (جملةٌ شعريّةٌ) نَسَخَتْها: "لا تُصدِّق زغاريدهُنَّ"، وأنّها لا تؤخذ على حرفيّتها بكل الأحوال.

"لأنّ الجنوبَ بلادي"
تقفُ دولة الاحتلال أمامَ محكمة «العدل» الدوليّة. يسألُني الأصدقاءُ عن رأيي، أو عن عدم «حماسَتي» الزائدة للأمر، فأجيبُ أنّي لستُ خبيرًا في القانونِ الدّولي، لكنّني أكثرُ خبرة في كيفَ يُنتَهَكُ القانونُ الدوليّ باسمِ القانونِ الدّوليّ، وكيفَ كلمةُ «العدل» تصبِح بلا قيمة، مثلها مثل الحقيقة والمنطق والحقّ والمساواة وحقوق الإنسان، حينَ نُسلِّمُ نهايةً أنّ مَنْ يمتلكُ القوّة يمتلكُ هذه المفردات، «يمتلِكُ لينتهِك». لكنّه أمرٌ جيّد.. جيِّد بكل الأحوال، أن تقفَ دولة الاحتلال أمام محكمة لاهاي، وجيّد أنّ جنوبَ إفريقيا الشّقيقة جدًا، والتي ناضَلت ضدَّ الفصل العُنصري، لم تتخلَّ عن شعبٍ ما زالَ يعيشُ كلّ أنواعِ الفصل العنصريّ والإبادة. جيّد ولا نريدُ أن نسألَ أين الدّول «العربيّة والإسلاميّة»، تمامًا كما لا نُريد أن نسأل عن «الحروب السِّريّة للسلطة الفلسطينيّة»، التي تُروِّجُ أنّها كانت "أوعزت" سِرًا لجنوب إفريقيا بهذا التّحرك. و"شرُّ البليّة.. ما يُضحِك". شكرًا لجنوب إفريقيا، ولليمنِ.. جنوب الجزيرة، ولغزّة.. جنوب فلسطين، ولجنوبِ لبنانَ أيضًا.. "شرَّقتُ غرّبتُ لكنَّ الجنوبَ كانَ قصيًا عصيًا..؛ لأنّ الجنوبَ بلادي" (درويش).

«دا أنا قَفَلت المعبَر على شانَك»!
أفرزت الأحداثُ الأخيرة، مجموعةً من مشاهِد العِزّة والكرامة، مقابل مجموعةٍ كبيرة، ولا يُمكنُ حصرُها، من مشاهِد الذُّل والمَهانة، ولعلّ أكثرها حِدّة، مشهدُ المهانةِ المصريّ (الرسميُّ لا الشّعبيّ)، إذْ إنّ مصرَ التي أكّدت أنّها لا تملكُ سيادةً على معبرها الذي لا يوجدُ عليه أيُّ جنديّ صهيونيّ، وأنّ قرار إخراجِ الجرحى من قطاعِ غزّة ليسَ قراها، صَفَعها محامي دولة الاحتلال أمام محكمة لاهاي كريستوفر ستاكر، الذي قال، الجمعة، إنّ "الوصول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح تسيطر عليه مصر، وليس على (إسرائيل) أي التزام في ذلك بموجب القانون الدولي"، ليصدُقَ فيها المثل القديمُ: «رمتْني بدائِها وانسلّت»، ولتصبِحَ (وسأستعيرُ كنايةً شعبيّة مغربيّة) أكبَرَ "شمس العشيّة" في تاريخها الحديث، ولو كانَ هناكَ مساحة متبقية من الحُريّة.. لأصبحَ هذا الحدث أشهر من «إفّيهات» عادل إمام. ولا أخفيكُم أنّ مشهَدَ الأطفال الفلسطينيين الواقفينَ قُربَ الحُدود الفلسطينيّة المصريّة، ويصرُخونَ (بعفويّة الأطفال): «مشان الله.. يا مصري يلَّا»، مشهدٌ مؤلم، يُضاف إلى هذا الألم غير المحدود، والجنون.. الذي وصلت إليه الفُرجة الدّولية على دمِنا، دم الشّعب الفلسطينيّ.

«والحربُ ليسَت مهنتي»
لسنا نطالبُ أحدًا بخوضِ حربٍ "نيابةً عنّا"، ولكنّ للتاريخِ دورته. وفي ظلّ هذه الحالة العصيّة على التوصيف من الفُرجة والقبول بالمهانة، وقتلِ الإخوة بالموافقة، فإنّ مصيرنا (كفلسطينيين وعرب أيضًا) لن يقلّ مستقبلًا عن مصير الهنود الحمر، ولن يزيد عَن مصير التّغلبيين حين قالوا: "إنّها مسألة خيولٍ فقط، وقد كانت صفقة لأجل الماء.. وما حاجتنا إلى الخيول".

 

* كاتب فلسطينيّ



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد