رسائل عبر السماء
في زقاق قديم من أزقة نابولي، وتحديداً عند الزاوية الهادئة التي تتعانق فيها رائحة الخبز الطازج مع أصوات المارة، يقع مطعم صغير لا يلفت الأنظار كثيراً، لكن قلبه كان أوسع من المدى. اسمه «لاتافرنا دي سانتا كيارا»، ولافتته الخشبية المتدلية على باب من الطين والجير، تلمع في الشمس، كما لو أنها تعرف سرّاً لا يعرفه أحد. كانت نيفس، صاحبة المطعم، امرأة ذات ملامح جنوبية، شعرها يحمل شيئاً من تموج البحر، وعيناها لا تخفيان طيبة تسكن الأعماق. تدير مطعمها كما تدير امرأة بيتها حين تكون الأرواح أهم من الأطباق. لا تسأل كثيراً من أين يأتي الزبون، ولا تهمها اللغة التي يتحدثها، بقدر ما كانت تنصت لما تقوله النظرات قبل الكلمات. ذات يوم ربيعي، دخل المطعم وفد يرتدي الأناقة المصطنعة، وجلسوا بثقة من يعرف أن له مكاناً حيثما حلّ. تصفّحت نيفس قائمة الحجز، ثم لمحت بجانب الاسم ملاحظة صغيرة: «إسرائيليون». شعرت بشيء يختنق في صدرها. ليس لأنهم يهود، فالإيمان لا يزعجها. إنما لأنها، منذ أسابيع، لا تنام إلا على صور الأطفال الذين يخرجون من تحت الردم من بيوت لم تعد بيوتاً، والذين يسيرون حفاة على شظايا الغارات، وينامون في حضن المجهول. غزة كانت جرحاً مفتوحاً على شاشة هاتفها، وكانت تشعر أن دموع الأمهات هناك تبلل وسادتها كل ليلة.
وقفت بثبات أمام الطاولة، وقالت لهم: «لا يمكنني أن أقدّم لكم الطعام. ليس اليوم. ليس الآن. ليس ودم الأطفال في غزة لم يجف بعد». رحل الوفد غاضباً، وترك خلفه صمتاً مشوباً بالذهول. لم يكن القرار سهلاً، لكنها شعرت أن الصمت، في أحيان كثيرة، خيانة. وأن الخبز يفقد طعمه إذا ما قدّم على مائدة تغض الطرف عن القتل.
ما لبث أن وصل الخبر إلى غزة، حيث لا تصل الكهرباء للبيوت إلا نادراً، وتحمّل مقاطع الفيديو بشق الأنفس، وحيث السعادة لا تأتي من وفرة، بل من نبضة تضامن عابرة. وهناك، في حيّ مدمَّر لم يعد فيه شيء على حاله، اجتمع مجموعة من الأطفال أمام جدار نصفه ساقط، والنصف الآخر مغطى برسوم باهتة من زمن ما قبل الحرب. رفعوا يافطات صغيرة كُتب عليها: «من غزة إلى نيفس… شكراً».. وقفوا صفاً واحداً، على وجوههم ملامح تشبه الضحك وشيء من الوجع، وقالوا: «كل الدعم والتضامن من غزة إلى السيدة العظيمة نيفس».
وصل الفيديو إلى نيفس. كانت في مطبخها، حين جاء أحد العاملين يحمل لها هاتفاً يفتح نافذة صغيرة على غزة. شاهدت الأطفال الواقفين قرب الجدار، قرأت العبارات المكتوبة بأيد صغيرة، ثم ابتسمت، واغرورقت عيناها بالدموع. بعد لحظات، وقفت أمام الكاميرا إلى جانب أحد ممثلي «التجمع الفلسطيني في إيطاليا»، الذي بادر بإيصال الصوت والصورة من الضفة الأخرى من البحر. كانت ترتدي الحب، وكان صوتها يخرج مرتجفاً من عمق القلب، وقالت: «مرحباً يا أطفال لا أعرف أسماءكم، ما أجملكم في الفيديو! قلتم إنني ملكة، لكن الحقيقة أنتم من يشكلون قدوة لنا. أنتم أطفال أقوياء جداً، وأنا واثقة أن بعضكم يساعد بعضاً. كونوا دائماً سنداً لبعض».
كانت كلماتها بسيطة، لكنها خرجت من قلب يعرف معنى أن يشعر الإنسان بالعجز، ويصر رغم ذلك على الوقوف في صف العدل. لم تتحدث كسياسية، ولم تدّعِ بطولة، تحدثت كما تتحدث أم لطفل لا تعرفه لكنها تشعر به كأنه ابنها. قالت: «هنا في إيطاليا، يفكر الكثير من الناس فيكم. الجميع يتحدث عن أطفال غزة، الجميع يهتم بكم. أعلم أنكم شعب قوي، لأن لديّ أصدقاء من هناك. لهذا أقول لكم: كونوا دائماً أقوياء. وسنفعل ما نستطيع لأجلكم» .
ثم أضافت جملة لم تكن عادية. جملة بسيطة تشبه القصائد حين تكتب بعفوية: «نرسل إليكم كثيراً من الحب، وحتى لو لم نتمكن من إيصاله إليكم حقيقة، فآمل أن يصلكم عبر السماء». تلك الجملة وحدها كانت رسالة. لم تكن بحاجة إلى توقيع. وصلت كما تصل الأمنيات في الليل، خفيفة، دافئة، محمولة على نسيم الرحمة. وصلت كما تصل أرواح الشهداء إلى السماء، محملة بالحقيقة.
ما حدث بعد ذلك لم يكن مهماً كثيراً. لا التصريحات، ولا المواقف المتضاربة، ولا ما قالته القنوات. المهم أن جسر حبّ قد شيّد بين نابولي وغزة، لا على خرائط السياسة، بل في قلوب أناس لا يعرفون بعضهم، لكنهم يتشاركون القيم ذاتها: الكرامة، الطهارة، وحق الطفولة في الحياة. نيفس لم تطرد زبائنها من باب الكراهية. هي فقط لم تشأ أن تقترف خيانة ضد ضميرها. كانت تؤمن أن كل شيء له توقيت. واليوم الذي يسفك فيه دم الأطفال، لا يجوز فيه أن يقدّم لهم النبيذ والطعام وكأن شيئاً لم يكن.
أما الأطفال الذين أرسلوا رسالتهم، فلم يكونوا يبحثون عن طعام، ولا عن نجدة. كانوا يريدون فقط أن يقولوا: «نحن نراكم. هل تروننا؟» ونيفس، بكل ما فيها من إنسانية، رأتهم. والسماء حملت الرسالة.
الرسالة الأخيرة
لم يكن يحمل بندقية، ولم تكن له خوذة، ولا درع من فولاذ. كان يحمل كاميرا، وأمامه دفتر ملاحظات صغير بلون الحبر اليابس. حسن أصليح، ابن غزة الذي عرفها جيداً من زواياها المنسية، كان شاهداً يكتب بالضوء والدم، ويوثق ما أراد العالم أن يتجاهله. وكان يعرف تماماً أن الصورة التي يلتقطها اليوم قد تكون آخر ما يراه.
لم يمت حسن في الميدان، ولا على درج بيت منهار، ولا في زقاق تحت القصف. استشهد وهو راقد على سرير، في قسم الحروق بمستشفى ناصر في خان يونس. قتل وهو في ملاذ ظنه كثيرون آمناً. لم يكن واعياً حين سقط الصاروخ. لم ير الشظايا تقتحم جدران المستشفى، ولا سمع الانفجار وهو يسرق أنفاس مرضى وجنود إنسانيين في معطف أبيض. غاب حسن في هدأة ألم طويل، واستيقظ الموت ليأخذه.
منذ شهر تقريباً، استهدفت خيمة للصحافيين في باحة المستشفى ذاته، وكان حسن هناك. نجا من الموت بأعجوبة، لكنه خرج بجسد محترق وبعض الأمل بأن يعود ليروي. حملوه إلى قسم الحروق، وهناك بقي، مصاباً، ممدداً، لا يحمل سوى صبره وما تبقى من صوته.
في المستشفى، ظن الأطباء أن الوقت سيكف عن الغدر، أن النار ستتراجع، وأن المريض سيكون مجرد مريض لا هدفاً. لكن الاحتلال لا يفرق بين من يحمل كاميرا ومن يحمل مغذياً طبياً. في اليوم نفسه، قصفت الطائرات قسم الحروق، فدمر بالكامل، وسقط شهداء وجرحى كانوا لا يحملون سوى أجسادهم المثقلة بالعجز.
استشهد حسن، لكن العدسة التي حملها لم تغلق. ظلت مفتوحة في ذاكرة من عرفوه، من تابعوا تغطياته، من شاهدوها في ليل غزة الطويل يركض بين الركام حاملاً الحقيقة على ظهره، كما يحمل النداء الأخير. هو لم يكن محايداً بين الضحية والجلاد، ولم يكن سائحاً في الدم. كان ابن الأرض، ومرآتها، ومراسلها الصادق في زمن التزييف.
كان حسن واحداً من أولئك الذين لم يكتفوا بالأنين، فكتبوه. لم يكتف بالصلاة، فحوّلها إلى صرخة. لم يكن يقف أمام الكاميرا فحسب، بل خلفها، جنباً إلى جنب مع الأرواح الهاربة من الحريق. غطّى مجازر الجنوب، رافق الأطفال المذعورين، نقل وجوههم التي لا مكان لها في نشرات العالم الرسمي، وجعل منها عناوين.
برحيله، ارتفع عدد شهداء الإعلام في غزة إلى 215. رقم يبدو بارداً إن نطق، لكن خلفه وجوه وأسماء وابتسامات، ودفاتر ممتلئة بملاحظات لم تكتمل. حسن لم يكن رقماً. كان صوتاً. كان ضوءاً وسط العتمة. وكان شاهداً على جريمة لم تترك شيئاً إلا واستهدفته: البيوت، المشافي، المدارس، الصحف، وأخيراً الصحافيين.
استشهاد حسن ليس حادثاً فردياً، ولا خطأ في التقدير العسكري. هو صفحة أخرى في كتاب مفتوح اسمه غزة. كتاب كلماته ليست بالحبر، بل بالدم، وفواصله ليست بالنقاط، بل بالأشلاء. ومن صفحته الأخيرة، كانت تطل عينا حسن، متعبتين، محترقتين، لكن ثابتتان.
ربما لم يودّع أحداً. لم يسجّل وصيّة. لم يكتب تدوينته الأخيرة. لكنه ترك ما يكفي لنعرف من كان، وما أراد. ترك صوراً لا تموت، ومقاطع تصرخ في وجه الصمت. ترك درساً في الشجاعة، في الشهادة، في أن تكون حياً حتى وأنت تحترق. ترك وعداً أن الصورة لا تهزم.
والكاميرا، وإن سقطت على صدره، فقد التقطت في لحظتها الأخيرة صورة لم يرد لها أن تنسى. صورة الحقيقة، حين تخرج من قلب النار.
كاتبة لبنانية
سانشيز: إسرائيل دولة إبادة جماعية وتل أبيب ترد بالتوبيخ
المملكة على موعد مع كتلة هوائية حارة
الاحتلال يوافق على استئناف نقل المساعدات إلى غزة
ترامب لن يتوجه إلى تركيا للمشاركة فى المحادثات الروسية الأوكرانية
طواقم المستشفى الميداني الأردني غزة/82 تصل أرض المهمة
الخارجية: جميع الأردنيين في ليبيا بخير
ملاحقات قانونية تطال من لم يُصرِّح بأموال جمعية الإخوان المنحلة
تشابي ألونسو يأمل امتصاص الغضب
تركيا الجديدة والنظام العربي الجديد
طلبت الطلاق بعدما أخبرها تشات جي بي تي ان زوجها يخونها
إنجاز كبير .. بلدية أردنية بلا مديونية
هام بخصوص تأجيل السلف والقروض لمنتسبي الجيش
متى تنتهي الموجة الحارة وتبدأ الأجواء اللطيفة
تحذيرات من موجة حر غير معتادة .. آخر مستجدات الطقس
تراجع كبير بمبيعات السيارات الكهربائية محلياً .. لماذا
الأردنيون على موعد مع انخفاض ملموس في درجات الحرارة
اعتماد رخص القيادة الأردنية والإماراتية قيد البحث
الهيئة الخيرية الهاشمية ترفض أكاذيب موقع إلكتروني بلندن .. تفاصيل
مهم للأردنيين بشأن أسعار الأضاحي هذا العام
حب ميرا وأحمد يُشعل سوريا .. خطف أم هروب
بعد الأردنية .. الهاشمية تتقدم محلياً وعربياً .. تفاصيل
مطلب نيابي بتأجيل أقساط القروض لشهر أيار 2025 .. وثيقة
خبر سار لمتقاعدي الضمان الاجتماعي