القطّة التي أنقذت الكتب

mainThumb

30-06-2025 02:57 AM

الصدفة فقط جمعتني بهذه الرواية، أردت أن أشتري مجموعة كتب لابنة أختي، في زمن انصرف فيه الأطفال عن القراءة.. والكبار أيضا، فجذبني العنوان «القطة التي أنقذت الكتب»، ولكنني حين شرعت في تصفح هذه الرواية، لم أستطع الفرار من أسرها، وحين أنهيتها بحثت عن معلومات عنها في الإنترنت، فكانت صدمتي مضاعفة، فهذه الرواية التي حسبتها للأطفال، رغم عمر صدورها القصير (صدرت باليابانية 2017، بالإنكليزية 2021، وبالعربية 2024) باعت ملايين النسخ وترجمت إلى أربعين لغة، ولكن في الحين نفسه لم أجد عنها سوى مقال يتيم باللغة العربية. في الوقت الذي يمكن أن تصنف مع تلك الروايات المراوغة التي تبدو بسيطة لكنها عميقة، تحسب على الأطفال لكنها شديدة التأثير في الكبار، فتحجز لها مكانا مع «الأمير الصغير» و»عالم صوفي» و»شجرتي شجرة البرتقال الرائعة»، تلك الروائع الخالدة التي ما زالت تلهم قارئيها.
أول ما لفتني في الرواية، أن كاتبها ياباني، وكأن السيطرة على الفن الروائي أصبحت تناوبية، فبعد السيطرة الأوروبية الغربية جاء دور الأمريكيين ثم الأدب الروسي بعمالقته وبعدها سلّم الراية للرواية اللاتينية برموزها الكبار أمثال، ماركيز وبورخيس ويوسا، ليصل الدور إلى الأدب الآسيوي وما خبرُ الكورية الجنوبية هان كانغ الفائزة بجائزة نوبل للأدب السنة الماضية عنا ببعيد. والترجمات الحديثة للأدب الياباني إلى العربية على قلّتها عرّفتنا بروائيين كبار مثل كنزابورو أوي (نوبل 1994) وكازوو إيشيغورو (نوبل 2017) وصاحب «كافكا على الشاطئ» هاروكي موراكامي، والطريف أن هذا الطبيب الموهوب سوزوكي ناتشوكاوا كاتب «القطة التي أنقذت الكتب» استعمل اسما مستعارا قال عنه بأنه «جمع فيه أسماء من يحبهم من الأدباء والشخصيات الروائية «سو» بمعنى عشب من اسم رواية وسادة عشب، و»زوكي» من اسم ريونوزوكي أكوتاغاوا، و»ناتشو» من اسم سوسيكي ناتشوميه، و»كاوا» من اسم ياسوناري كاواباتا. كما جاء في طيّ غلاف الرواية الأخيرة.

أما الأمر الثاني الذي أسرني في الرواية، أنها ظاهريا تحكي عن الكتب، هذه الكائنات الجميلة التي صرنا نخشى جديا من انقراضها، في زمن فككت فيه وسائل التواصل الاجتماعي كل الروابط التقليدية، وأصبحت الحاكم بأمرها. فالرواية قصيد مديح طويل في الكتب، ولكنها تقرع جرس الإنذار كل حين، خوفا على الكتب وأحيانا خوفا منها. تبدو الرواية في ظاهرها بسيطة، فبطلها «رينتارو ناتسوكي» ليس أكثر من طالب ثانوي، قصير القامة يضع نظارات طبية سميكة، أبيض البشرة، صموت، لياقته البدنية ضعيفة، طالب ثانوي عادي لا يتفوق في مادة ما بشكل خاص، وليست له رياضة مفضلة»، كما جاء في وصفه، توفي جده وكان يعيش معه وحده، هذا الجد الذي كان يوما ما أستاذا جامعيا، لكنه افتتح مكتبة في طرف المدينة عبارة عن «ممر طويل ورفيع يمتد مستقيما من الباب حتى العمق، وعلى الجانبين أقيمت رفوف تطل عليه وهي مكتظة بالكتب من الأرض حتى السقف. وفوق الرأس علقت مصابيح قديمة الطراز» تخصصت هذه المكتبة في الكتب الكلاسيكية والنادرة، التي لم يُعَدْ طبعها، ولأن الشاب لا وصيّ عليه وهو في هذه السن الصغيرة، قررت عمته التي لم يرها في حياته أن تأخذه للعيش عندها بعد تصفية «مكتبة ناتسوكي»، إلى هنا تبدو القصة عادية تصور يوميات شاب انطوائي، لولا أن قطاً عتابياً (مخطط الظهر) ظهر لرينتارو في المكتبة وبدأت من لحظتها معه الواقعية السحرية على الطريقة اليابانية، فهذا القط الذي يدعى «تورا» يتكلم مثل البشر وقد طلب من الشاب وريث صاحب المكتبة أن يرافقه في مهمة لإنقاذ الكتب. وعلى امتداد مئتين وستين صفحة يترافق رينتارو مع القط الظريف حينا، والفظ حينا آخر، وتصحبهما صديقة رينتارو «سايو» لدخول أربع متاهات: واحدة لملاقاة سجان الكتب، وأخرى لرؤية ممزق الكتب، وثالثة لإقناع بائع الكتب، ورابعة لا أفسد على القارئ متعة اكتشافها.

بهذه الحبكة البسيطة وبأسلوب آسر مبني على عناصر سحرية، كجدار المكتبة الذي ينفتح على آفاق لا متناهية، أو الكتب التي تتحول إلى طيور، مع حضور لافت لولع الإنسان الياباني بالطبيعة، فهناك «أشجار وافرة تحت أشعة شمس باهرة ونوافير بيضاء ترتفع مياهها رقراقة نحو السماء هنا وهناك، إلى جانب النوافير تماثيل ملائكة، وثمة توازن جمالي رائع بين السور الشجري المُقلم بعناية، والأرضية المبلطة بأحجار ذات تصاميم هندسية بديعة»، في هذا الإطار الجمالي يمرر سوزوكي ناتشوكاوا رسائل عميقة ومتعددة يناقش فيها قضايا كبرى متعلقة بالكتاب، وبالقارئ وبفعل القراءة نفسه، ففي متاهة «سجان الكتب» يقدم لنا نموذج الشخص المتباهي بقراءة الكتب الكثيرة (في حالته قرأ 75622 كتابا) ولكنه يحبس الكتب التي قرأها في رفوف مقفلة بسلاسل، غير أنّ الشاب البسيط يخبره بالحقيقة التي فاتت جامع الكتب هذا بأن «هذه ليست رفوفا لوضع الكتب المهمة، بل مجرد واجهة عرض من أجل التفاخر بالكتب التي تقتنيها.. فالتحف الثمينة حاوية الكنوز، والأعمال الضخمة حاوية الملاحم العظيمة، إن لم تفتح وتقرأ فهي في النهاية قصاصات ورق لا أكثر» في إدانة ضمنية للمتفاخرين بمكتباتهم الكبيرة ذات المجلدات الفاخرة، التي هي في حقيقتها ليست سوى أقفاص تحبس طيور الأفكار. فالمكتبة الشخصية ليست مكتبة عامة نجد فيها مختلف الفنون والعلوم، بل المفترض أن تكون صورة عن صاحبها، تعكس اهتماماته وقراءاته ونعرفه من خلالها.
يناقش الروائي بطريقة غير مباشرة وعبر حوارات مكتوبة بحرفية في متاهة «ممزق الكتب» قضية أصبحت راهنة ورائجة جدّا الآن، وهي بدعة ملخصات الكتب، فممزق الكتب الذي يقص الكتاب ليبقي منه فكرة أساسية تختصره، لم يكن ضد الكتاب، بل كان محبا للقراءة أخطأ الوسيلة حين اعتقد أن قراءة الملخصات تجعلنا نقرأ عددا كبيرا من الكتب، ولكن الحقيقة يقررها الروائي على لسان أحد أبطاله حين يقول «من يقولون إنهم يحبون نيتشه في هذا العالم كثيرون، ولكن الذين يقولون ذلك وقد قرأوا أعماله حقا هم قليلون جدا. يقرأون فقط ملخصات لا تَذكُر إلا بعض الأقوال المأثورة، التي نزع منها الجوهر، ثم يتظاهرون بمعرفة نيتشه كأنهم يرتدون معطفا على أحدث واردات الموضة».

فالملخص مثل المقبلات يفتح شهيتك للكتاب ولا يغني عنه، وما شاع الآن من منصات تقدم عصارة الكتب مسموعة فكرة محمودة شرط أن لا تدفع القارئ للكسل فيكتفي بها، لأن قراءة الكتب بتوصيف الرواية تشبه تسلق الجبال حيث تتفتح آفاق القارئ، مثلما ينفتح المنظر أمامك فجأة بعد الانتهاء من صعود طريق جبلي طويل، لذلك يقدم لنا ناتشوكاوا هذه النصيحة الثمينة على لسان بطله «طالما ستصعد في النهاية اختر الجبال العالية لترى مناظر خلابة نادرة»، فحين نجد صعوبة في القراءة معنى ذلك أننا نتعلم شيئا جديدا «اللقاء بكتاب صعب حظ كبير».
متاهة أخرى عنونها الروائي بـ»بائع الكتب» وهو شخص يحب الكتب ويحب نشرها، لكنه يرى أن ذلك لا يتحقق إلا باتباع قاعدة واحدة تجعل رواج الكتب في غاية السهولة: «أن تبيع الكتب التي تباع» أي اتباعا لفكرة «الجمهور عاوز كده»، فناشر الكتب هذا يرى أن «المكتبات ليست مؤسسات خيرية، ولن تستمر طالما لا تباع الكتب، ولذا تختفي بالتدريج الكتب التي لا تباع.. وأي تحفة أدبية ستختفي ما لم تحقق مبيعات جيدة»، وهي فكرة صحيحة إذا كان الغرض من بيع الكتب الربح التجاري فقط، ولكن الكتاب سلعة نبيلة ونخبوية أحيانا كثيرة إذا طبقنا عليها قواعد العرض والطلب، نفقد كثيرا من الروائع، وتنقرض تحف أدبية وكلاسيكية فقط لأن القارئ الآن انصرف عنها. وهذا ما يربطنا بالمتاهة الرابعة التي تعني البطل الانطوائي رينتارو نفسه، إذ يدرك بعد مغامراته مع القط العتابي وصديقته أن انعزاله في مكتبة جده متخذا منها برجا عاجيا ليست الخيار الأمثل فـ»القراءة شيء جيد، لكن ينبغي أن تخرج وتسير على قدميك بعد القراءة»، ما يذكرنا بفكرة المثقف العضوي عند غرامشي، وقد أقر رينتارو ناتسوكي بطل الرواية بهذه البديهية حين قرر العودة إلى دراسته مع الإبقاء على مكتبة جده مفتوحة فقال: «الحقيقة هي أن الكتب أنقذتني مرات عديدة، أنا سلبي بطبيعتي أيأس بسرعة من كل شيء، بيد أن وقوف الكتب إلى جانبي في جميع الأوقات أوصلني إلى ما أنا عليه الآن». فلعل «القطة التي أنقذت الكتب» تنقذ بعض قرائها الشباب من سجن السوشيال ميديا وتعيدهم إلى صحبة هذا الكائن الجميل «الكتاب».

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد