حسناء الريلز المنسية

mainThumb

01-07-2025 01:52 AM

قبل قليل، ظهر لي فيديو عابر لفتاة عربية خارقة الجمال، تتحدث بأنوثة خالصة دون أي تزييف أو ارتباك عن السر وراء درجة اللون البرونزي الاستثنائي والخاص لبشرتها المشرقة. بدأت بشرح الخطوات التي اكتشفتها بنفسها بعد رحلة من التجارب المتعددة والمرهقة حول كيفية اكتساب هذا اللون المدهش للبشرة، من خلال روتين الذهاب إلى البحر في أوقات محددة وتناول عصائر معينة في أوقات أخرى. أخذت تتحدث بشكل تفصيلي وبمتعة شديدة عن هذه الحيلة التجميلية، وكأنها مع كل جملة تستعيد ذاكرة طقوس الحمام الشمسي الممتع من خلال الإفراط في وصف المشاهد ببطء لذيذ وتأثيث الصورة المتخيلة بفرش اللوازم المصاحبة لرحلة «التان» القصيرة. ومثلما تفتتن الجدات بلحظات انتزاع حبات الرمان لأحفادهن، أخذت هذه الحسناء تطنب في تصوير كل منتج يحتاجه «كائن التان التائه» بطريقة تجعل المتلقي يتخيل الألوان الصيفية لهذه المنتجات التي تتسم بالترطيب وفتح المسامات وتبريد الجلد وتطييبه بعطور صيفية فواحة تختلط فيها رائحة الصابون المنعش الممزوج بنفحة من الخزامى وبودرة الأطفال. بينما يذهب خيال المتلقي إلى مشهد البحر الواسع وهو يصطدم بالرمال الهانئة، تجلس هذه الفاتنة تتأمل الوجود وهي تتفحص المفرش المخملي الذي تبسطه على الرمال وترص فوقه المنتجات الخاصة بالتسمير؛ بين قارورة زيت جوز الهند بلونها الأصفر وزجاجة «سبلاش» أو مرشوش الفانيلا بلونها الأزرق الفاتح، وعلب الكريمات المنكهة بالفراولة والمشمش، وزيوت التسمير ذات رائحة الفواكه الاستوائية بألوان صريحة تتدرج من البرتقالي إلى الأحمر. وتضع إلى جانب المفرش كتاباً عن التنمية البشرية، غالبًا يحمل عنوان «دع القلق وابدأ بالإنستغرام»، وهكذا تختتم المشهد بقبعة القش الشمسية التي يدفعها الهواء العذب ببطء بعيدًا عن لوازم التان التي تحبس الأنفاس.
هذا الشعور الذي يبعثه كل ما ذُكر في الفيديو، بالإضافة إلى جمال الفتاة الخلاب، أدى إلى مشاهدات مليونية بالطبع، وتعليقات لا حصر لها من المديح والاستنكار. وقد شعرت أن من يستنكر هذا الأمر يُعاني مثلي من انهماك غير مجدٍ في الشأن العام، ويعتقد بأنه كائن «عميق» لمجرد أنه ينصرف في اهتماماته إلى أعمال العقل والشؤون الكبيرة، على الرغم من أن الفن هو النموذج الوحيد الذي يشرح أغلب أعمال العقل. إلا أنهم لا يمكنهم أن يجدوا في هذه الظاهرة «فنًّا»، لمجرد أنها حُرمت من فرصة التنظير لها، بالإضافة إلى وجودها في فضاء اختلطت فيه المفاهيم، كما هي الاختصاصات والمواهب والإبداعات والهوايات. وفي هذا الاكتظاظ الخانق، يكون من الصعب جدًا التقاط التماعة حقيقية لجوهرة بين ملايين القطع المزيفة، حيث تسطع سطوع الكريستال في مزرعة من الإكسسوارات الفائضة عن الحاجة.

فكرتُ في هذه الفتاة التي من الواضح أنها تمتلك مزية الحكّاءة، ولربما لو تدربت جيدًا على اللغة وقرأت الأدب بشكل جدي ولمدة معقولة من الزمن، لأصبحت روائية أو كاتبة روايات قصيرة جنس «النوڤيلا» من طراز خاص؛ لأنها تمتلك دون أن تدري الشفرة السرية لجعل قصة ما تبدو مشوقة، وهي التراتبية في ترتيب الأحداث حسب أولوية حاجة الحبكة لذلك، بالإضافة إلى استخدامها تراكيب لغوية خاصة بها كهويّة فردية تتميز بها، تجعل الحدث في تداخل ساحر مع اللغة المستخدمة، إذ لا تتعالى اللغة على الحدث ولا تسقط في تواضع زائف.

غير أن أكثر ما أثار إعجابي هو قدرتها على خلق عالم كامل خاص بها، مع كامل طقسيته داخل وضع سياسي ومعيشي ملتهب؛ إذ أسست شعائر كاملة وأدبيات للتشمس، وكأن هناك جمعية كبيرة ومجتمعًا واسعًا يهتم بهذا الأمر الذي يبدو مترفًا إلى الحد الذي يثير الضحك أثناء اشتعال سمائنا بصواريخ ثقيلة وجدالات تعيد رسم شكل الخرائط في الشرق الأوسط من جديد.
تذكرت نفسي حين قررت في مراهقتي الهروب من الحرب إلى القراءة، فأختار رواية لا تظهر فيها علامة واحدة على صراع الدول؛ وكنت في زماني قد اخترتُ «صباح الخير أيها الحزن» لفرانسواز ساغان، والتي يتورط القارئ من خلالها في رحلة صيفية سريعة للبطلة ووالدها والعشيقة التي تتفنن الساردة في تدمير حياتها. لكن الرواية في أجوائها العامة كانت تجري على الريفييرا الفرنسية (الجنوب)، وتدور حول الفتاة المراهقة التي تمضي عطلة الصيف مع والدها ريمون وصديقته إلزا في فيلا قرب البحر. كان المناخ الأساسي في الرواية صيفيًا بامتياز، تُؤثَّث الأحداث بتأثير الشمس والسباحة ونزهات القوارب، وهذا ما يرمز للحرية واللهو وكذلك الفراغ الذي يخلق عند سيسيل «البطلة» تلك الاضطرابات النفسية والأفكار العبثية التي تنتهي بمأساة.

تخيلتُ هذه الفتاة الحسناء لو كانت ساغان الجديدة؛ فهي استطاعت أن تؤدي ذات الدور الذي قامت به فرنسواز ساغان مع مراهِقة في عام 2003، بغض النظر عن التفاصيل الأخرى لكن عبر فيديو قصير محشور في ازدحام مروري تكتظ به تطبيقات شبكة التواصل الاجتماعي. سيندثر الأخير تمامًا في الجريان اللاهث للتايم لاين السريع، بينما تبقى رائعة «صباح الخير أيها الحزن» خالدة في التاريخ إلى الأبد؛ ذلك لأن تلك الحسناء لن يأتي من يدلها على مكامن قوتها التي لن تحصد لها بالضرورة المشاهدات المليونية السريعة، ما يجعلها ربما تفقد اهتمامها الكامل بموهبتها في الكتابة. ولذلك، كان الأدب بوابة الخلود الحقيقية التي لن يصل إليها المرء إلا من خلال تحقق شرط البطء والموهبة والتحلي بالصبر الطويل على حدٍّ سواء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد