المستنير وقصص أخرى

mainThumb

15-07-2025 02:40 PM

المستنير

كنت محظوظا لأني نشأت في هذا الحي، وترعرعت فيه، فقد خلق في نفسي، القدرة لأن أعيش في كل وطن، وفي كل بيئة، وفي كل ظرف من الظروف، بعد أن ملكني الوسيلة لأن أفهم الأشياء، فهماً صحيحاً، لقد أخضعتني هذه الناحية، لأن أتذوق ألوان المعرفة، على اختلافها، وفي الحق، أنها لم تكتفي بأن تسلحني بالعلم، والمعرفة، بل اهتمت اهتماماً لا حد له، بأن أتخرج من متعرجات ساحاتها الشاسعة، وأنا متخصصاً في ضرب من ضروب التنوير، كفل لي أن أؤثر في حياة الناس العامة، وفي حياتهم العقلية، على وجه الخصوص، لقد خلقت فيّ هذه الجهة، الحماسة المتقدة، التي كنت أحسها طوال مراحل حياتي، والتي دفعتني لنيل المعالي، المعالي التي حرصت عليها، وحفلت بها، وخضعت لها، غرستها في دواخلي، أزقة تلك المنطقة وبيوتها المتداعية، التي أتاحت لي أن أتحضر، وأنتج، وأتفوق، وأن أستسيغ، وأهضم، كل ما ألقاه أمامي من صفقات، وتحصيل، وثقافة، وأن تمضي سيرتي، مشابهة لسير الكثير من الناس، على مر العقود، وتطاول الزمن، الناس الذين أحاطت بهم عناية تلك الدائرة، وشملتهم شمولا، ما زالت الصورة الحقيقة يا ولدي، المتجذرة في أفهامهم، أن المخدرات المحلية الصنع،التي كانت تكتظ بها رفوف مكتبتي، قد أغنتهم عن شوائب الرافد المستورد، العالي التكلفة وأعانتهم على فهم الحياة وتدبيرها.

الرفيقة انشراح

ما زال الاتصال قوياً بينها، وبين
ماضيها التليد، في تلك البقعة، وما زالت تنظر في هذا كله، وتسعى لأن تستأثر بهذا الماضي، دون الحاضر، ودون المستقبل، لأنها تجد في استقصاء ماضيها راحة، ولذة، ومتاعا، أما حاضرها، فقد ذهب بكثير من فرحها، ومرحها، واعتدادها بنفسها، لقد بلورت في تلك المدينة الوارفة الظلال، خدمات، سلكت إليها طرقاً مختلفة، ملتوية، كانت موضة في أوانها، تلك الخدمات، التي تعتقد جازمة، أنها حمت شباب المدينة، من الجنوح، و الظلامية، والتطرف، خدمات تصطدم في مجملها، مع الجدار الديني، والقيمي، لمجتمعها، إلا أنها كانت تدفع الكآبة، والحزن، والملال، عن محيطها، وتضفي عليه الجذل، والبشاشة، والارتياح، لقد كانت حقاً، عطوفة على شباب تلك المدينة، رحيمة بهم، حادبة عليهم، لقد وطدت مكانتها، وإرثها، بعد صراع مرير، وشرس، مع العاهرات الأجنبيات، فالخطب سيكون فادحاً، إذا لم تنحرف عن أسلوبهن، لقد التمست طرقاً، ومناهجاَ مختلفة، سعت فيها أن تلبي حاجات الشباب، بوسائل بعيدة عن التشابه، والتنميط، لقد جاءت خدماتها، التي شكلت انزياحاً عن الرتابة، التي تخضع لها مثل هذه الألوان من الخدمات، التي تخدش الأخلاق في جوهرها، فقد حررتها من الجمود، وحققت لها هذا الشيء الغريب، الذي جعل جحافل الشباب، يتهافتون على ملهاها الليلي، وشققها الكثيرة المتناثرة، لقد استطاعت انشراح، أن تستوعب نزعات الشباب، وتلم بخلفياته، وأن تظهر تأثرها، وتقديرها، للاتجاهات اليسارية التي ينتمى لها، رغم أنها حُرمت التعليم، ولم تؤتى منه قليلاً، أو كثيرا، لقد أدركت الرفيقة انشراح، أن الفلسفات الإلحادية، التي هي السبب، في تبعثر فكر الشباب، وشتاته، وتيهه، تحقق الصلة بينها وبينهم، وكانت حاجتها تزداد إلى هذه الفلسفات، ازدياداً مطرداَ، بمقدار ما يصيب حياتها، من خصب ونماء، وظلت انشراح، تنفق من حبها الزائف لتلك الفلسفات، حتى تصدر المشهد جماعة، نجحت أن تستحوذ على أعنة الحكم في وطنها، جماعة أخفق فلاسفة الغرب ومفكروه، أن ينالوا منهم كدر الحب، ولا أصفاه، فهذه الجماعة التكفيرية المتشددة، كانت تجد نعيم نفسها، ورضاء قلبها، وغذاء عقلها، في دروس شيخها الأرعن، الذي منع حق المعارضة، والاعتراض، على حكمه، وأحكامه.
الرفيقة انشراح، بلغت مأمنها في قطر مجاور لبلدها، ورغم أن هذا البلد، لا يطرد من أغواره مفاسد الرذيلة، إلا أن التعاسة، والحزن، لا تستطيع أن تجد عنهما محيدا.

استجواب وكيلة وزارة

وضعها النفسي المتأزم، يوضح أن هناك التباساً واضحاً، بين المعنى الذي أنكرته في أول هذا التحقيق، وبين سردية عجزها، التي تقلل من إستحالة قدرتها على تغيير دفة حياتها، لأن الإكئتاب استطاع أن يتغلغل في أعماق نفسها، وأخرى ليست أقل من هذه خطورة، وهي أنها تعيش نظريات الصراع، التي تعتقد فيها أنها ناجحة، ومميزة، وأن حياتها التي عاشتها بالمشقة، والكد، والعناء، حفية بأن تقرأ بين أوساط النخب الفكرية، وهي حين تدعي أنها مختلفة، وأن قصتها ملهمة، تستحق أن يلتفت إليها الأدباء، فهي محقة، ولم يتجافى زعمها مع الواقع، ولكن قصتها هذه، نحتاج انطلاقاً من تفاصيلها، وأحداثها، أن نعيد النظر، في قيمتها الأخلاقية من حين إلى آخر، لقد أقرت وكيلة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، في أول استجوابنا لها، بأن الطغيان الذي مارسته تجاه سائقها، وخادمتها، مرده تمردهم الدائم على أوامرها، فالسائق، والخادمة، لا يقدران أن حياتها محفوفة بالمخاطر، وأن هناك عدة جهات، تستهدف المنزلة الرفيعة التي وصلت إليها، فالثقافة الطاغية، المتجذرة في منطقتنا العربية، تذهب إلى أن المرأة يجب أن تكون خيال مآته للرجل، لا صنو له، مجرد ظل، أو كتلة جسدية، يستصحبها الفحل معه في حله وترحاله، ولا يفكر فيها، إلاّ إذا دفعته غرائزه المتأصله فيه إلى ذلك، سائقي هذا لم يظهر الميل إلى التأقلم، والتكيف، مع المستجدات التي طرأت على حياتي، كما أنه مثل خادمتي، في التعنت والعناد، فكلاهما، لم يظهران لي التقدير والاحترام، خاصة عندما تتوافد الحشود إلى بيتي، وقد يطغى أحدهما على الآخر، فيعلن لي في وضوح، أن طاعتي ليست ملزمة، أو واجبة، فالطاعة تحتاج أكثر ما تحتاج إليه، أن تقام على معايير وأسس أخلاقية، وهم يتهمون أخلاقي بالتقهقر، والتراجع، خاصة بعد أن أدمنت الخمر، ولعب القمار، والخمر والميسر، اللتان يريدان أن يتخذاهما مثلاً وأنموذجا، ويطمعا أن تسير "النيابة" في إثرهما، دعتني لاجتراحهما العادات، والطقوس، التي تقدم عليها الطبقات الارستقراطية، في احتفالاتها، وتجمعاتها، إن أسباب هذه الأزمة وتداعياتها، ليس هو حقيقة هذا التراجع المزعوم، في مُثلي وقيمي، فلا السائق، ولا الخادمة، كانوا كثيرو الاعتداد بمناقبي الأصلية، ولكن سبب انتشار هذا الخلاف الواسع، هو أن الخادمة لم تتقبل فكرة أن أشاطر سائقي فراشه، ليس الأفق الاجتماعي للأخلاق، هو الذي دفع خادمتي أن تعتدي عليّ في ضراوة، ووحشية، ولكنها الغيرة، التي استشرت في دواخلها، واطلاقي الرصاص عليها في ساقها، كان مبرراً، لأنها هجمت عليّ، وكادت أن تودي شراستها بحياتي ، أما تصويب مسدسي تجاه سائقي، واصابته في كتفه، فلأن ذلك نابعاً من احساسي وشعوري، بأنه لم يبذل من جهد بعد مقدمها، مثل ما بذل من نشاط، قبل أن تقتحم علينا غرفته الخاصة، لقد كان ساكناَ بلا حراك، وهو يراها جاثمة على صدري، آخذة بخناقي، لم يسعى أن ينقذني من براثنها، أو يفض هذا الشجار، الذي أظن أنه كان يسعده، كان سائقي ينظر إلينا، وكأنه لا يرى أو يحس، كان تفاعله ضعيفاً فاتراً، لم تصلني منه غير أصداء، لم تغني عني شيئا، هذا السائق الحقير، لا يستحق أن أنفق عليه الجهد، والوقت، والمال، ولا أن أخسر وظيفتي المرموقة بسببه، وظيفتي هي التي جعلتني أحظى باحترام كبير، تغاضى فيه الناس عن أصلي، وطبقتي، ووضعي الاجتماعي، إن من أهم مقتضيات الحياة، التي تود أن تعيشها المرأة الناجحة، هي أن تؤثر العافية، وتنحي الرجل تماماً عن حياتها.

العناء الثقيل

اختلى بها، حينما كان زوجها غائباً في مهمة تقتضيها وظيفته، وأنجبت هي، في نفس اليوم، الذي أنجبت فيه زوجة جارها، جارها القسيم الوسيم، الذي كانت تناضل من أجل أن تجعل الظروف أكثر تلاؤماً وتوافقاً، حتى يقضي الليل بمعيتها، هي الآن، لا تقدرعلى تصوير عواطفها، وأهوائها، وخواطرها، وهي ترى هذا الهم، الذي لا تستطيع أن تتحمله، أو تنهض بأثقاله، فخيانتها التي يفهمها الناس، في غير مشقة ولا عسر، أفشل حججها، وتضليلها الأعظم، الذي سعت أن تقنع به زوجها البائس، الشبه العظيم، الذي يرقأ إلى درجة التطابق بين البنتين، وزوجها الذي كان يتغاضى عن فداحة الأمر، بالتغافل، والتناسي، والتقوقع المؤقت، والانغماس في أي شيء يلهيه، ويريحه من هذا العناء الثقيل، لم يكن بوسعه، أن يتغلب على حسرته، وشقائه، وألمه، حينما وجد أن الاعتقاد الوحيد، والقناعة الحتمية، والتصور الراسخ الدائم، أن الشبه ينتهي بالناس دائماً، إلى نفس النتيجة، التي لا يستطيع هو أن يدحضها، وحتى يدرأ عن نفسه، غياهبها المظلمة، التي لا يستطيع تبديدها، لأجل ذلك أقدم على قتل زوجته، بعد أربعة سنوات من المعاناة، وأزهق روح جاره.

الحشيش والعبادة

مجدي الأنوك، الذي تنمو الطحالب في مستنقعات فكره، قرر أن يكف عن هذه الكثرة الضخمة من المعاصي، التي كان يقترفها، دون حياء أو خجل، وانكب على العبادة، التي بات يدقق فيها، ويقدرها حق قدرها، ولكن فلسفته، رغم كل هذا التبتل والخشوع، طوعت له أن يمضي في تدخين الحشيش، وكانت اللذة التي لا تعدلها لذة، أن يتوهط أرسخ ركن من أركان المسجد، ويشعل لفافة ذلك الخليط اللذيذ، التي يتصاعد دخانها الباهت، ليملأ ردهات المسجد، قبل أن يستحث الناس على هجر الأسرة، وتأدية تلك الشعيرة، التي عدد من يلموا بها، محدد ومحدود، ففريضة الفجر، هناك قلة من الناس تحرص عليها، حرص الشحيح على ماله، لقد لاحظ أصحاب الغلبة والظفر، وأكثر الأرواح إرهافاً، وأشدها صفاء، أن إمامهم الراتب، الذي يعشقون تلاوته، ويكلفون بها، يستأذنهم في أدب جم، أن يصلي بهم، وأن يشنف آذانهم، بخطبة نارية، لا يستطيع دفعها عن نفسه، هذا شيء، شيء آخر، استرعى انتباه أهل الفجر، أن إمامهم، باتت السور الصغار، هي مصدر افتنانه، وهذا مخالف لنهجه، فالواقع المتعارف عليه، أنه يقرأ دائماً ما تيسر من البقرة، وآل عمران، والنساء، وغيرها من السور الطويلة الممتدة، في صلاة الفجر والعشاء، كما أنه غدا يجد جذبا وسحراً، بعد أن تنقضي الصلاة، بالحديث الدائم، عن تلك الموضوعات، التي يفهمها العلماء فهماً صحيحا، فلا يتكلمون عنها إلا لماما، و في خطب يسيرة مختصرة، أضحى الإمام لا هاجس له، إلا أن يظهر الحكومة بأمقت مظهر، والأجهزة الأمنية التي تعرف الإمام جيداُ، وتدرك مدى حرصه، وزهده، في الخوض في مثل هذه الموضوعات، راقبت المسجد جيداً، فأدركت أن إنضاب نبع القوة وأصلها عند الإمام، يستلزم إبعاد مجدي "المسطول" عن المسجد.

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد