شورت وفانيلا وكاب

mainThumb

15-07-2025 02:28 PM

في عام 2001، حين كنت في بداية مراهقتي، اشترى لي والدي جهاز كمبيوتر كبيرًا نسبيًا. احتفى به الأهل والأقرباء والجيران على حدّ سواء، وأصبحوا يتوافدون إلى بيتنا للاطلاع على هذه التكنولوجيا الحديثة التي تخطف الأنفاس. كان خالي يجلس في غرفتي أمام ذلك الحاسوب، يقلب في برنامج الرسّام، ويقضي نصف وقته في اختيار لونٍ يرسم به كائنًا هجينًا أشبه ببطة، ثم يكتب اسمه أسفل الرسمة على غرار الفنان العالمي مودلياني.
لكن المفاجأة الكبرى كانت حين أهداني مجموعة من «السيديهات» أي الأسطوانات الصغيرة التي تضم منوعات من الأغاني والأفلام والبرامج الترفيهية. وفي ظهيرة حانية، جلبَ لي أسطوانة تحمل اسم فيلم «شورت وفانيلا وكاب» للفنان المصري أحمد السقا، إلى جانب نجوم آخرين. كان هذا الفيلم اكتشافي الأول لهذا الممثل الأسمر، الذي ظهر في شخصية الشاب «الجدع» صاحب المبدأ وخصال الفرسان الأوائل؛ إذ بدا في اللقطة الأولى ممتطيًا حصانًا أبيض، مرتديًا عمامة وملابس فضفاضة، ليقول لنا في ذلك المشهد الافتتاحي: أنا البطل والمنقذ، الوسيم الذي لا يبالي بوسامته، الوفيّ وصعب المنال، صاحب الحس الكوميدي والغزل الذي يذيب القلوب.

وهكذا بدأت حكايتي مع هذا الممثل الذي تربع على عرش قلبي في صيف 2001. بدأت أختار بعض اللقطات التي يظهر فيها، فأجمّدها على شاشة الحاسوب وأتأملها دون كلل، حتى نسجتُ قصة حب خيالية، كأنه بطل من أبطال روايات جين أوستن التقليديين. وجدت نفسي أحشر اسمه في أي حديث عابر مع أهلي، وأستخدم إفيهاته الكوميدية، وأقلّد ضحكته، حتى شعر الجميع في المنزل أن أمرًا ما يوشك أن يحدث! ولو كنت أعلم أن أبي لن ينفيني إلى السنغال لو علّقت صورته في غرفتي، لفعلت ذلك دون تردّد!
وذات يوم، دخل والدي غرفتي بينما كنت أذرف الدموع أمام صورته المجمّدة على الشاشة، فسألني بقلق عن السبب. كذبت وقلت إن المشهد مؤثر جدًا. طلب مني أن أشغّل له المقطع، ليكتشف أنه مجرد مشهد عادي بينه وبين صديقه، يتبادلان نكتة بسيطة تحت شمس شرم الشيخ الحارّة! أدرك أبي حينها أن بكائي له أسباب أخرى، على الأرجح عاطفية، فأمر بنقل جهاز الكمبيوتر إلى مكتبه، بعيدًا عن المنزل، وحرمني من هذه المعجزة التكنولوجية لما يقارب ستة أشهر، حتى نسيت أحمد السقا منذ ذلك الحين.
أتذكّر هذه التفاصيل جيّدًا وأنا أتابع «رغمًا عني» الضجّة الكبيرة التي طالت هذا الفنان مؤخرًا. وبغضّ النظر عن التفاصيل الصغيرة، هالني عدد المحللين النفسيين، ومحلّلي لغة الجسد، وعلماء «كشف النوايا» الذين يفسّرون كل إيماءة أو فعل عابر تبدر منه. أذهلني هذا الادّعاء الجماعي للفضيلة، والدفاع عن «الحق» الذي يخترعه كل فرد وفق قدرته على التحليل والتأويل والإفتاء معًا. حتى شعرتُ أن الناس صاروا يعيشون ما أحب أن أسميه بـ «هستيريا الفضائل»؛ فحين يندفع الإنسان لتمزيق الآخر وممارسة أقسى أنواع الفوقية الأخلاقية عليه؛ يكون منفصلًا تمامًا عن ذاته. يكتب بلا ذاكرة، كأنه كائن منفلت من ماضيه، يسدّد اللكمات الأخلاقية إلى النجوم وهو في حالة شعورية أقرب إلى نشوة «الأفوريا»، إذ يقترب لحظتها من كمالٍ أخلاقي زائف وأنا متوهّمة بأنها منزهة عن الأخطاء.

ولا يقترب المرء من هذا الوهم إلا حين يشعر أنه يفوق أخلاقيًا أولئك الذين تعلّق صورهم في أماكن مرتفعة؛ أصحاب «الذوات المتمنّعة» بحسب تعبير ميلان كونديرا، الذي يرى أن الاقتراب من المشاهير يشبه فكرة الاصطفاء اللاهوتي: كالحب تمامًا، هدية غالبًا ما تكون غير مستحقّة. وبحسب تأويلي لنصوصه؛ فإن من يقترب من النجم ويمسّ حياته بأي شكل، يحوّل أناه من ذاتٍ يومية عادية إلى مطيّة أسطورية، تحفّها هالة أخلاقية فائقة. لذلك، نرى هذا الكمّ الهائل من الناس يحاكمون المشاهير أحيانًا دون أدلة واضحة، محاكمةً جماعية هستيرية لا تخضع لقانون أو لعقوبة متناسبة مع الذنب، بل لقسوة منفلتة بلا معايير أو حدود. في السابق، كانت حياة الفنانين الخاصة تُعرض جزئيًا في مجلات ترفيهية أسبوعية أو شهرية، أو في برامج تلفزيونية تلاحق أخبار النجوم؛ فتدور حولها الأحاديث في غرفة المعيشة ثم تنتهي مع انقطاع البث. أما الآن فاختلف الأمر كليًا؛ فثمة فرق كبير بين عرض جزء من الحياة الخاصة للفنان وبين استباحة حياته بالكامل، عبر مساحة تأويلية مفرطة يشارك فيها كل شخص يملك حسابًا على شبكات التواصل.
أقرأ التعليقات التي تختصر هذا الفنان كله في قصة مبهمة من حياته، وكأنه لم يتسلل يومًا إلى ذاكرتنا بفنّه، ولم يمنحنا ما أمتع ووثّق حقبةً دافئة كالحقبة التسعينية، وكأنه بلا جمهور ولا تاريخ ولا ذات تشعر أو تتألم. وينسحب هذا أيضًا على من أُقحم اسمه/اسمها في تلك القصة؛ فقد طالت المحاكمة الجميع بقسوة كفيلة بقتل الروح، من مجتمعاتٍ تشهد يوميًا سرقات كبرى لأوطانها وتراثها ومستقبل أبنائها دفعةً واحدة.

أتذكّر أبي وهو يعلّمني كيف أضبط مشاعري تجاه شخصية متخيّلة لم تتدخل في حياتي ولم تؤذِني يومًا، سوى أنها شغلت مراهقتي بقصة عابرة، هي «عاطفة الصيف» كما هو متعارف عليه في الأدب العالمي، وحمتني من التورط في قصة واقعية كان يمكن أن تجعل ذاكرتي معتمة بدلًا من أن تظل ساخرةً وخفيفة في تلك المرحلة العمرية. لذلك، أنا مدينة لأحمد السقا؛ لأنه حرس مراهقتي من التورّط في قصة حقيقية كان يمكنها أن تفسد حياة مراهقةٍ تحلم ببطلٍ في صيف بغداد التسعيني.
لقد صار من الضروري أن يتكتّم النجوم الكبار على حياتهم الخاصة، فالأمر لم يعد يرتبط بمجلة «الموعد» أو «الشبكة» كما في السابق، بل صار ضرورةً لحمايتهم من اختصار حياتهم الكاملة في هفوةٍ أو زلّةٍ عابرة، تكاد لا تخلو منها حياة الجماهير أنفسهم. ومن الأفضل أن يمنع الفنان حياته من الظهور «بشورت وفانيلا وكاب»، حفاظًا على حشمة تاريخ الفن الحقيقي.
قال ماركيز مرة: «كل إنسان يعيش ثلاث حيوات: حياةً عامة، وحياةً خاصة، وحياةً سرّية يكافح من أجل نسيانها، وهو الشيء الوحيد الذي استطاع فعله ليبقى حيًّا: ألّا يسمح لنفسه بعذاب تلك الذكرى. لقد محاها من عقله، رغم أنها من حينٍ لآخر، وفي السنوات المتبقية له، كانت تعود إلى الحياة فجأةً، دون إنذارٍ أو سبب، كألمٍ مفاجئٍ من ندبةٍ قديمة».



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد