عن الكلام

mainThumb

20-07-2025 01:04 AM

تتعدّد التّسميات لفعلٍ أو شيء واحد. وقد يحدُثُ أن "يخترع" اسمٌ بُغية تمييز جزء غير مجزّأ أصلاً، فيصبح تقسيم الشّعر إلى أنواع وأقسام غير شعريّة بالأساس، أو ليس لها ما يميّزها عموماً عن الشّعر برمّته، كأن نقول: شعر "الكلمة المنطوقة"، في ترجمة لـ"Spoken word"، مع أنّ كلّ كلمةٍ لا تكونُ كلمةً، برأيي، إلّا إذا كانت منطوقة، فالكلامُ هو النّطق؛ قال الجوهري في الصحاح: "كالَمَه أي ناطَقَه"، أي أنّ الكلامَ لا يكونُ كلاماً إلّا إذا تكلّم به متكلّم. والكلامُ من الكَلِمة، أو الكِلْمة وجمعها كِلَم في لهجة تميم، على ما أورد لسان العرب.
واللهُ، رغم أنّنا نجهل ماهيّته وبالتالي نجهلُ طريقة كلامه أو جلوسه، كلّم موسى؛ "وكلّم الله موسى تكليماً"، وفي ما يروى أنّ صحابةً سألوا النّبي كيفَ كلّم الله موسى؟ فقال: "مشافهةً". والله "لا يكلّمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم"، فهو يقرن بين الكلام والنّظر بوصفها أفعالاً "فيزيائيّة"، وقد وردت "كلمة ومشتقاتها" في القرآن في خمسةٍ وسبعين موضعاً (بمعنى النّطق المفهوم لا الجرح)، والقرآن كلام الله، وهُم "يحرّفون الكلِم عن مواضعه"، أي يفسّرون الكلام كما شاؤوا، وآدم "وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"، وقال النبي سليمان "وعلِّمنا منطق الطير" ولم يقل كلام الطّير، للإشارة إلى نوع محدد من التعبير قد لا يكون باللسان وإنما بالإشارة أو الأصوات أو ما يدور في خلدها، أمّا حينَ أخرج الله دابّة للناس فقال "دابةً تُكلِّمهم"، أي تتحدث إليهم بكلام يفهمونه، رغم أنّ بعض الفرق تقول: "تَكلِمُهم" أي تجرح بعضاً منهم بوصف الجرح علامةً.
إذن؛ فالله يتكلّم ويقول، والقولُ جزءٌ من الكلام، غير أنّه أقصر "ولا تقل لهما أفٍ"، أمّا الكلام فهو سياق أطول: قال ابن جنّي "الكلام لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة... القول الذي قد يكون أصواتاً غير مفيدة"، فالكلام ما كان مُكْتَفِياً بنفسه، والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجُزْء من الجملة؛ قال سيبويه: "إنما تُحكى فيما كان كلاماً لا قولاً" أي أنّ استخدام الحرف إنما يأتي مع الكلام بوصفه طويلاً لا القول، وأقسام الكلام عند السهيليّ "خبر واستخبارٌ وطلب"، أمّا أقسام الجملة فهي؛ الاسم والفعل والحرف.
لذا؛ فحديث النفس مثلاً لا يسمى في اللغة كلاماً، والقول الذي يسمعه صاحبه دون غيره، يعني ما يجريه على نفسه، لا يسمى كلاماً؛ ويحدّد ابن جني المقصود بصاحب الكلام أو المتكلم فيقول: "ألا ترى أنّ المتكلم منّا إنما يستحق هذه الصفة بكونه متكلماً لا غير لا لأنه أحدثه في آله نطقه، وإن كان لا يكون متكلماً حتّى يحرك به آلات نطقه". وبالتالي فإنّ الكلام لا يكونُ كلاماً إلّا إذا نُطق. والنطق أسبق من التّدوين، فاللغة منطوقة في الأصل ثمّ دوِّنت، وبالتالي فالكلام أسبق من الكتابة، وقد نسأل ماذا نسمّي المكتوب؟ وشخصياً أميل لتسميته نصاً، وهو جمل إسمية وفعليّة، أمّا الكلام فهو مرور هذه الجملة بآلتي النطق وهما اللسان والحلق، والله ميّز بين المكتوب والكلام، فمن أحد معاني الكتابة التّدوين "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة".
وللحقّ فإنّ دي سوسير يرى أنّ الكلام هو الاستخدام الفرديّ للغة منطوقاً ومكتوباً، والكلام موضع خلافٍ كبير لدى المعتزلة مثلاً، وفي هذا يطول الحديث، يقول الجوهري: "الكلمة هي القصيدة بطولها" أيضاً، والأصلُ في الشّعر أنّه منطوق، وكان "يُكتب" في الذهن ثمّ يُنطق، قبل أن تكون الكتابة، وحينَ كُتِبَ وعُلِّق سمي معلّقةً، وحينَ دُوِّنَ سمّي ديواناً. أكتب كلّ هذا على سبيل التفكير فحسب، ورغبةً في تقليل التجزيء والحصر للممارسة الشعرية، فربما يكفي التقسيم والتقسّم والتّشظي الذي تعيش فيه الدول والمجتمعات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد