عندما تصبح الأوهام التوراتية استراتيجية عسكرية

mainThumb

21-08-2025 12:55 PM

في لحظة نادرة من الصراحة، كشف بنيامين نتنياهو عن الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني عندما أعلن مؤخراً أنه يشعر برسالة تاريخية وروحانية ويؤيد رؤية إسرائيل الكبرى. هذا التصريح، الذي أثار غضب أكثر من ثلاثين دولة عربية وإسلامية، ليس مجرد انزلاق لفظي أو تصريح عابر، بل اعتراف صريح بما كان يعتبر حتى وقت قريب نظرية مؤامرة من قبل المدافعين عن إسرائيل. إن ما نشهده اليوم هو تحول خطير في الخطاب الإسرائيلي الرسمي، حيث انتقلت الأهداف التوسعية من دهاليز التخطيط السري إلى منصات الإعلان العلني. والأخطر من ذلك أن هذا الإعلان يأتي في سياق حرب إبادة مستمرة على غزة راح ضحيتها أكثر من 60 ألف فلسطيني، مما يعطي لهذه التصريحات بعدا عمليا ومأساويا يتجاوز مجرد الكلام.
من الحلم الديني إلى المخطط السياسي
لا يمكن فهم خطورة تصريحات نتنياهو دون الرجوع إلى الجذور الأيديولوجية لمفهوم إسرائيل الكبرى. هذا المفهوم، الذي يستند إلى تفسيرات متطرفة للنصوص التوراتية، يتضمن رؤية توسعية تمتد من النيل إلى الفرات، وتشمل أجزاء من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وحتى السعودية. ما كان يطرح في الماضي كحلم ديني بعيد المنال، تحول تدريجيا إلى مخطط سياسي وعسكري محكم. فمنذ النكبة عام 1948، اتبعت الحركة الصهيونية استراتيجية التوسع التدريجي، مستغلة كل أزمة إقليمية أو دولية لتحقيق مكاسب جديدة على الأرض. حرب 1967 أدت إلى احتلال الضفة الغربية والجولان وسيناء، وكل توتر لاحق جلب معه توسعا استيطانيا جديدا.
لكن ما يميز المرحلة الحالية هو الجرأة في الإعلان الصريح عن هذه الأهداف. عندما رفع نتنياهو خريطة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023 تظهر الشرق الأوسط الجديد دون فلسطين، لم يكن ذلك مجرد خطأ دبلوماسي، بل رسالة واضحة للعالم مفادها أن إسرائيل لم تعد تهتم بإخفاء نواياها التوسعية. هذا التحول من السرية إلى العلنية يعكس ثقة متزايدة لدى القيادة الإسرائيلية في قدرتها على تحقيق أهدافها دون مواجهة عواقب جدية من المجتمع الدولي. وهذه الثقة مبررة إلى حد كبير، فالدعم الأمريكي اللامشروط والصمت الأوروبي المدوي والانقسامات العربية كلها عوامل ساهمت في تشجيع هذا الغرور الإسرائيلي.
الخريطة كسلاح: جغرافيا الهيمنة الجديدة
عندما نحلل استخدام نتنياهو للخرائط في خطاباته الأخيرة، نجد أنفسنا أمام تكتيك مدروس يهدف إلى تطبيع فكرة التوسع في الوعي الدولي. فالخريطة ليست مجرد أداة جغرافية، بل سلاح سياسي قوي يشكل الإدراك ويؤثر على الرأي العام. في أكتوبر 2024، كشف تقرير من صحيفة ديلي نيوز إيجيبت أن نتنياهو قد أحيا رسميا مخطط إسرائيل الكبرى، مستغلا حالة الحرب في غزة لتمرير رؤيته التوسعية. هذا المخطط لا يقتصر على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل يتضمن أطماعا واضحة في أراض من دول عربية مجاورة. الخطورة الحقيقية تكمن في أن هذه الخرائط لم تعد مجرد أحلام أو أوهام، بل باتت تترجم إلى سياسات ميدانية ملموسة. فالتوسع الاستيطاني المحموم في الضفة الغربية، والتهجير القسري في غزة، والاعتداءات المتكررة على الجنوب اللبناني، والقصف المستمر لسوريا، كلها تصرفات تتماشى مع رؤية إسرائيل الكبرى.
لقد أصبحت الخريطة أداة لتطبيع الاستيلاء على الأراضي وشرعنة الاحتلال. ومن خلال عرض هذه الخرائط في المحافل الدولية، تحاول إسرائيل إجبار العالم على قبول هذا الواقع الجديد كأمر حتمي لا يمكن تغييره.
حرب الإبادة كمقدمة للتوسع
لا يمكن فصل تصريحات نتنياهو عن إسرائيل الكبرى عن السياق الراهن للحرب المدمرة على غزة. فهذه الحرب، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 60 ألف فلسطيني وتدمير القطاع بالكامل، ليست مجرد رد فعل على أحداث السابع من أكتوبر، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل خريطة المنطقة. تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن إسرائيل ألقت على غزة ما يعادل قنبلتين نوويتين من المتفجرات، وهو ما يفوق بمراحل ما يتطلبه أي هدف عسكري مبرر. هذا الدمار المنهجي يهدف إلى جعل القطاع غير قابل للحياة، مما يضطر سكانه إما للنزوح أو القبول بوضع تبعية كامل.
استراتيجية التجويع والحصار التي تطبقها إسرائيل، والتي وصفتها لجنة أممية بأنها تتسق مع جريمة الإبادة الجماعية، تخدم هدفا مزدوجا، القضاء على المقاومة الفلسطينية من جهة، وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين من جهة أخرى. هذا النهج ليس جديدا في الممارسة الصهيونية، فقد استخدم في النكبة عام 1948 وفي حرب 1967. ولكن ما يميز المرحلة الحالية هو الطابع الوحشي والعلني لهذه الممارسات، والاعتراف الضمني بأنها جزء من مشروع أكبر لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
إن الحرب على غزة، في هذا السياق، تصبح تجربة لما قد تواجهه شعوب المنطقة إذا وقفت في طريق المشروع التوسعي الصهيوني. وهذا ما يفسر الصمت المريب لبعض الأنظمة العربية، التي تدرك جيدا أن القبول بإسرائيل الكبرى قد يعني التخلي عن أجزاء من أراضيها مقابل ضمانات بقاء النظام.
الرد العربي الإسلامي: بين الاستنكار والعجز
لم تمر تصريحات نتنياهو دون رد فعل عربي وإسلامي واضح، حيث أدانت أكثر من ثلاثين دولة هذه التصريحات واعتبرتها انتهاكا صارخا لسيادة الدول العربية ومحاولة لتقويض الأمن والاستقرار في المنطقة. الجامعة العربية وصفت هذه الأقوال بأنها تعكس نوايا توسعية وعدوانية لا يمكن قبولها أو التساهل معها.
هذا الرد الموحد، رغم أهميته على المستوى السياسي والدبلوماسي، يكشف في الوقت نفسه عن عمق الأزمة التي تواجه الأمة العربية والإسلامية. فالاستنكار والإدانة، مهما كانا قويين في اللفظ، يبقيان عاجزين عن وقف المشروع التوسعي الصهيوني في غياب إرادة حقيقية لاتخاذ خطوات عملية. ما نشهده هو تناقض صارخ بين قوة الموقف السياسي المعلن وضعف الاستجابة العملية على الأرض. فبينما تتسارع وتيرة التطبيع مع إسرائيل في إطار ما يسمى اتفاقيات إبراهيم، وتتزايد التجارة والتعاون الأمني مع الكيان الصهيوني، تبقى البيانات والإدانات مجرد كلمات جوفاء لا تؤثر على الواقع.
الخطورة الحقيقية تكمن في أن هذا العجز العربي قد يفسر من قبل إسرائيل كضوء أخضر للمضي قدما في مخططاتها. فالتاريخ يعلمنا أن الكيان الصهيوني لا يتراجع إلا أمام القوة الحقيقية، وأن البيانات والمواقف الدبلوماسية لا تكفي لردعه عن تحقيق أهدافه التوسعية. إن المطلوب ليس مزيدا من البيانات والاستنكار، بل استراتيجية شاملة تتضمن مقاطعة اقتصادية حقيقية، ودعما عمليا للمقاومة الفلسطينية، وتحرك دبلوماسي جدي لعزل إسرائيل دوليا. بدون ذلك، ستبقى حلم إسرائيل الكبرى يقترب خطوة بعد أخرى من التحقق، وستجد الأمة نفسها أمام واقع جديد فرضته بالقوة العسكرية والإرهاب المنهجي.
الوقت ينفد، والخيارات تتضاءل، والحاجة لموقف عربي وإسلامي موحد وحازم لم تعد مجرد ضرورة سياسية، بل مسألة بقاء حضاري. فإما أن نتحرك الآن بجدية لوقف هذا المشروع التدميري، وإما أن نستعد لمواجهة عواقب وخيمة ستطال المنطقة بأسرها لعقود قادمة.
تصريحات نتنياهو عن إسرائيل الكبرى ليست تهديدا للمستقبل، بل واقع يبنى اليوم بالدم والحديد. والسؤال الوحيد المتبقي هو: هل ستجد الأمة في نفسها القوة والإرادة لمواجهة هذا التحدي الوجودي، أم ستكتفي بالبيانات والندوات بينما تتآكل خريطة المنطقة أمام أعينها؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد