دكة في الغابة وأغنية في عدن

mainThumb

18-11-2025 10:03 AM

في صيف 2004 وصلنا أنا وعائلتي الى مدينة عدن جنوب اليمن. كان ذلك الانتقال يشبه انقلاباً خفياً في حياتي، رغم انني لم اكن اعرف يومها ان المدن تستطيع ان تغيّر ارواحنا ببطء، كما تغيّر الرياح اتجاهها دون ان نشعر. استأجر والدي لنا بيتاً صغيراً جداً، يقع في نهاية جادة بعيدة، كأنها لا تكترث بما يحصل في العالم كله. كانت الجادة تبدو وكأنها طرف مهمل من الخريطة، لا يزوره احد، ولا تلمسه ضوضاء المدن الكبيرة. في ذلك البيت الضيق كانت الايام تمر بطيئة، تجرّ خلفها ظلالاً خاملة، ووقتاً مترهلاً لا يندفع الى الامام. ومع حلول الظلام كانت الجدران تضيق علي، كأنها تنكمش تدريجياً، وانا التي تعودت منذ طفولتي على بيوت بغداد الفارهة نسبياً، وعلى المساحات الواسعة التي لا تتكسر فيها انفاسي عند المشي.
بعد اشهر من عمل والدي في الجامعة انتقلنا الى منزل آخر بمساحة بدت معقولة. يومها شعرت كما لو انني انتقلت الى قصر منيف، رغم انه منزل عادي جداً. لكن تلك المسافة المريحة بين الاريكة في غرفة الجلوس والتلفاز المعلق امامها كانت كافية لتوقظ داخلي احساساً غريباً بالترف. في تلك الليلة، تسللت على رؤوس اصابعي من السلالم نحو غرفة الجلوس. جلست على الاريكة، تناولت الريمونت كونترول وبدأت اقلب المحطات. فجأة ظهرت اغنية فضل شاكر “لو على قلبي”. توقفت. حدقت في الشاشة منتشية، ثم نظرت حولي، كأن المسافة الفارغة التي امامي مدى شاسع بلا نهايات. مساحة صغيرة، لكنها بدت لي مثل فضاء مترامي وغير مأهول، فضاء يخصني انا وحدي. في تلك اللحظة شعرت بشيء يشبه الحرية، يشبه القدرة على التنفس بعمق، يشبه ان تستعيدي شيئاً من ذاتك كنت تظنين انه فُقد الى الابد.
منذ ذلك اليوم، صارت هذه الاغنية، وبسبب تلك اللحظة تحديداً، مفتاحاً سرياً افتحه كلما ضاقت الظروف بي. كنت اعود اليها وكأنها طقس داخلي، تختبر به روحي مساحة جديدة للتنفس. اغنية واحدة، قصيرة وعابرة، لكنها اصبحت بمثابة الامكان الضروري لتوسيع الافاق في داخلي، ولمنحي مديات جديدة تساعدني على التفكير السليم تحت اقسى الضغوط.
وفي مكان آخر وزمن آخر، كان الفيلسوف الالماني مارتن هيدغر، المنحدر من بلدة صغيرة تدعى مسكيرخ في اعالي الدانوب من سوابيا، يعيش ارتباطاً مماثلاً بمسقط رأسه، لكنه ارتباط يسكنه على هيئة ولاء شعوري عميق لصور عالمه القديم. هيدغر، الذي طالما بدا فيلسوفاً صعباً ومغلقاً، كان في جوهره انساناً تشكله تفاصيل صغيرة لا يلحظها احد. ففي احدى المرات، عندما كان في مراهقته يساعد والده في ورشة صناعة البراميل، انتهى من عمله ثم وجد دكة خشبية غير مصقولة عند مطلع درب يمتد الى اعماق الغابة. جلس عليها ليحل واجباته المدرسية، دون ان يدرك ان تلك الجلسة العابرة ستتحول يوماً ما الى نقطة مركزية في حياته الفكرية.
مرت السنوات، واكتشف هيدغر ان وجود اي دكة مشابهة لتلك التي جلس عليها في طفولته كانت تساعده على التفكير في اصعب النصوص الفلسفية. صار يلجأ اليها كلما تعثر في مهمة معرفية. كان يشعر ان وجوده على دكة خشبية في غابة يمنحه صفاء لا يقدر عليه في المدن او داخل مكاتبه الاكاديمية. وبعد انعطافاته الفكرية الكبيرة في ثلاثينات القرن الماضي، عكف داخل كوخ في توتناوبرغ، وهناك وجد دكة اخرى قريبة، كانت مكسوة بالثلج معظم السنة. وكان يجلس عليها باستمرار، يكتب ويتأمل، حتى نهاية حياته. لم تكن الدكة شيئاً عظيماً، مجرد قطعة خشب مهملة في الغابة، لكنها كانت بالنسبة له المكان الذي تستقيم فيه افكاره، كما لو ان الغابة كلها تنحني كي تمنحه صمتها ليكتب.
في حياة كل انسان ذاكرة متقدة ومفعمة بالحياة، لكنها غالباً ما تولد من حادثة بسيطة، عابرة، لا تكاد تُلحظ. قد تكون اغنية صدفة تسمعينها في مساء يمني هادئ، او دكة منسية في غابة المانية، او حتى رائحة خبز اول الفجر، او ضوء خافت يتسلل من نافذة صغيرة. اللحظات التي تبدو غير مهمة هي في الحقيقة الركائز الخفية التي نتكئ عليها لاحقاً، وربما من دون ان نعرف. قد لا نلتفت اليها حين تحدث، لكنها تتحول لاحقاً الى خلاص حتمي تحت ظروف قاسية.
الحلول الكبرى لا تأتي دائماً من القرارات الكبيرة ولا من التحولات الجذرية. احياناً تكمن في ادق تفاصيل حياتنا: اغنية، قصيدة، كرسي خشبي، منظر عابر، صوت بعيد، او حتى شعور مقتضب ينبت في لحظة غير محسوبة. نحن، في نهاية الامر، مجموعة من تلك اللحظات الفريدة التي ترميها الحياة امامنا. نلتقط بعضها ونهمل بعضها، لكن التي نتعلق بها تتحول الى اصول داخلية نبني عليها صمودنا كله. حتى لو كانت مجرد اغنية قديمة تصدح في صالة بيت في اليمن، او مصطبة منسية عند حافة غابة في مسكيرخ.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد