سلام أوكرانيا المعلق على جنزير دبابة

سلام أوكرانيا المعلق على جنزير دبابة

27-12-2025 11:08 AM

في نادي dshell pay الأرستقراطى خارج مدينة ميامي الأمريكية، وهو ناد خاص مملوك جزئيا للمبعوث الأمريكي المقاول ستيف ويتكوف، وبعيدا عن أماكن الاجتماعات الرسمية، تجري مفاوضات خطط السلام في أوكرانيا، ويمثل روسيا فيها كيريل ديمترييف مسؤول الاستثمار الخارجي الروسي، فيما يمثل أوكرانيا كبير مفاوضيها رستم أميروف، وهو مسلم من تتار القرم، جرى ترحيله مع عائلته من سمرقند في أوزبكستان في أربعينيات القرن العشرين، إلى أن صار وجها بارزا في السياسة الأوكرانية، وتولى لوقت منصب وزير الدفاع الأوكراني، وقد شارك في أغلب المفاوضات مع الروس منذ بدء الحرب الجارية في 24 فبراير 2022، ولعب دورا جوهريا في مفاوضات إسطنبول الأولى، عقب بدء الحرب، ثم لاحقا في مفاوضات اتفاق الحبوب، التي تدخل الغرب الأوروبي ـ الأمريكي لإفشالها في ما بعد.
ورغم أن المفاوضات الأمريكية تجري إلى اليوم بصورة منفردة مع ممثل روسيا وأوكرانيا، ولم تتطور بعد إلى مفاوضات ثلاثية مباشرة، يطمع الرئيس الأوكراني زيلينسكي في الانتقال إليها سريعا، ويتحدث عن تطورات إيجابية، إلا أن الروس بالمقابل، لا يبدون في عجلة من أمر التفاوض، ويفضلون التفاهم مع الأمريكيين أولا، والسعى إلى خض ورج مواقف الأوروبيين الداعمين أكثر للرئيس الأوكرانى، وكسب الوقت اللازم لإكمال حملة الشتاء الروسية العسكرية الجديدة، وفرض وقائع على الأرض، ترغم الأوروبيين والأوكران على إعلان استسلام نهائي.
وبعيدا عن مباريات إحصاء النقاط في خطط السلام الأوكراني، وسواء كانت خطة ترامب الأولى المؤلفة من 28 نقطة، أو ما جرى ترويجه عن خفضها إلى 20 نقطة باجتهادات الأوروبيين، وامتعاضهم من انفراد الأمريكيين بالتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن النقاط الأهم في جولات التفاوض كلها، تدور حول مصير الأراضي الأوكرانية، التي سيطر عليها الروس، وحول الضمانات الأمنية المقررة لأوكرانيا بعد تخليها رسميا عن حلم الانضمام لحلف شمال الأطلنطى الناتو، ثم حول مصير زيلينسكي وجيشه بعد الحرب، وفيما يصر الروس على اعتراف رسمي وواقعي بانضمام الأراضي الأوكرانية المعنية إلى سيادة روسيا، وبالذات انضمام المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوغانتسك وزابوريجيا وخيرسون)، إضافة لشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، والمناطق الخمس تشكل نحو ربع إجمالي مساحة أوكرانيا، البالغة أكثر قليلا من 600 ألف كيلومتر مربع، وخطة ترامب الأولى ذات الثمانية والعشرين نقطة، التي أعدها ويتكوف وجاريد كوشنير مع المبعوث الروسي ديمترييف، تسلم للروس بكل مطالبهم في الأراضي الأوكرانية، وتعترف واقعيا وقانونيا بضمها إلى روسيا، وبالذات في مقاطعتي الدونباس (دونيتسك ولوغانتسك)، وهي أغنى مناطق أوكرانيا على الإطلاق، وقد تضمنها قرار مجلس الدوما الروسي الصادر أواخر سبتمبر 2022، الذي قضى بضم الدونباس بمقاطعتيه إلى كامل الحدود الإدارية، في حين لم ينص القرار على ضم خيرسون وزابوريجيا إلى نهاية الحدود الإدارية، وترك تحديد خط الحدود إلى الوقائع العسكرية على الأرض، وبعد مرور نحو أربع سنوات على بدء الحرب، يبدو خط الحدود الجديد مرسوما عند شاطئ نهر دنيبرو الذي يشق أوكرانيا طوليا بين شرق روسي وغرب يظل أوكرانياً إلى حين.
وكما في الحسم الأمريكي لمسألة الأراضي، والانحياز الكامل لرغبات وأمنيات روسيا، بدا أن مبعوث ترامب مع خطته، يوالي انحيازه لأهداف روسيا في المسائل الجوهرية الأخرى، فهو ضد انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، لا في الحال ولا في الاستقبال، ومع خفض عديد الجيش الأوكراني إلى 600 ألف جندي، ومع إجراء انتخابات رئاسية تزيح زيلينسكي نفسه عن المشهد، فقد نصت الخطة الأمريكية على إجراء انتخابات أوكرانية رئاسية في غضون مئة يوم، بعد وقف النار، وقد انتهت مدة زيلينسكي الرئاسية قبل أكثر من عام، وقد تكون للسياسة الأمريكية دواعيها الذاتية لحصار زيلينسكي والخلاص منه، إما لعدم تجاوبه الكامل، وربما نقص انصياعه لرغبات ترامب المالية، وإما لنزيف السلاح والمال الأمريكي في أوكرانيا، والفساد المتفشي والمستشري في الداخل الأوكراني، الذي أفضى لسرقات مهولة من الأسلحة والأموال، وقد بلغ الدعم الأمريكي والأوروبي المتنوع لأوكرانيا نحو تريليون دولار إلى اليوم، ويريد ترامب استرداد أموال واشنطن عبر الاستيلاء الكلي على مناجم المعادن الثمينة الغنية في أوكرانيا، فوق رغبته في إزاحة عقبة أوكرانيا والذهاب رأسا إلى استثمارات كبيرة مع روسيا، وإلغاء العقوبات المفروضة عليها، وفوق التسليم الأمريكي بانعدام مقدرة الغرب على قلب الموازين في الميدان الأوكراني، أما الروس فيواصلون سرديتهم الأولى، سواء حول خطايا العهد السوفييتي في نقل أراضي ومناطق روسية إلى داخل حدود أوكرانيا، إضافة لتصميم صانع القرار الروسي على وصم السلطة الأوكرانية بالنازية، وضرورة نزع الطابع النازي للجيش في أوكرانيا، واجتثاث مواريث ستيبان بانديرا قائد حركة القوميين الأوكران، الذي كان متهما بالتعاون مع النازي في الحرب الكبرى ضد روسيا، وقامت المخابرات السوفييتية كي.جي. بي بتصفيته في مخبئه بمدينة ميونيخ الألمانية عام 1959.
وتبدو أوروبا تائهة ضائعة في الوضع الراهن، فهي تتخوف من نتائج النصر الروسي في أوكرانيا، وتضيق فرصها في التحرك والتفاوض بعيدا عن واشنطن، فالاتحاد الأوروبي مقولة اقتصادية بالأساس، لكن تنوع مراكز القرار فيه يحرمه من فرصة حقيقية لبلورة مسار سياسي وعسكري مستقل، وتبدو خطط الأوروبيين غاية في الارتباك، فالإرهاق الاقتصادي والمالي الناتج عن حرب أوكرانيا لا يستبقي موارد كافية لتسليح مستقل، وإغراء ترامب بالدفع نقدا مقابل الأسلحة الأمريكية الذاهبة للميدان الأوكراني، لا يبدو مشبعا لتغول الشهية الأمريكية، خصوصا مع ظهور الرغبة الأمريكية العارمة في التخلي عن أوروبا، واعتبار استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة لروسيا كصديق ضمني وليس تهديدا، مقابل اعتبار أوروبا خطرا، وربما عدوا ضمنيا، والانتقاد الحاد المغلظ للسياسات الأوروبية، والقول إنها تسير في طريق الانتحار ومحو حضارة الغرب، وكل ذلك مما يزيد أوروبا ارتباكا، فهي لا تملك رفاهية الاستقلال الأمني عن واشنطن، ولم تفلح زيادات موازنات السلاح الأوروبية، ولا تلبية أوروبا لشروط واشنطن الجائرة في المعاملات التجارية، ولا الخضوع لطلبات ترامب في زيادة مستوردات البترول والغاز الأمريكي الأغلى أضعافا عن نظيره الروسي، وهكذا تضيع أوروبا في دوامات الحيرة، فلا هي قادرة على الابتعاد الكلي عن واشنطن، ولا بوسعها تقديم بديل مقنع لدعم أوكرانيا في حرب تبدو منتهية لصالح الروس، ومن ثم بدت أوروبا وكأنها تقدم رجلا وتؤخر أخرى في المفاوضات الجارية.
وقد حاول الأوروبيون تصليب موقف زيلينسكي، في جولات بحث خطط السلام الأمريكية، وركزوا على قصص تقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا بعد الحرب، وتحدثوا عن تصورات لإرسال اختياري لقوات أوروبية إلى ما يتبقى من الأراضي الأوكرانية، وبذلوا ضغوطا لفظية على واشنطن للمشاركة في تقديم الضمانات الأمنية، لكن أمريكا لا تبدو مستعدة لاستجابة مؤثرة، وتراعي اعتبارات رفض الروس الكلي لوجود أي قوات أوروبية أو أمريكية على الأراضي الأوكرانية، ما يدفع الأوروبيين إلى ما يشبه اليأس، رغم أنهم يحاولون فتح طريقهم الخاص إلى حوار مع بوتين، على طريقة إعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عن استعداده مجددا للقاء مع الرئيس الروسي، وهو ما رحبت به موسكو في إغراء سياسي ظاهر، خصوصا أن اجتماعات قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة، فشلت في تقرير سرقة الأصول الروسية المجمدة في بروكسل عاصمة الاتحاد، وتقديمها كما ادعوا لإعادة إعمار أوكرانيا، واعتمد القادة الأوروبيون قرارا بديلا، تعهدوا فيه بتقديم قروض جديدة لأوكرانيا بقيمة 90 مليار يورو، مع خلاف على طريقة استرداد القروض، بعد رفض اقتراح استعادتها من الأصول الروسية المجمدة البالغة نحو 300 مليار دولار، وهو ما ردت عليه روسيا مرارا، وأكدت عزمها على الرد بإجراء في الاتجاه العكسي، ومصادرة الأصول الأوروبية داخل روسيا.
والأهم مما يجري في كواليس التفاوض، أن الوقائع العسكرية على الأرض تمضي باطراد لصالح روسيا، التي لم تعد تكتفي بالسيطرة على القرم والمقاطعات الأربع في غالبها، بل تزيد مساحات سيطرتها المستجدة في مقاطعات سومي ودنيبروبتروفسك وميكولاييف وخاركيف، وقد استعادت القوات الروسية مؤخرا سيطرتها على مدينة كوبيانسك في مقاطعة خاركيف، وتقدمت لسيطرة تامة مفاجئة على سيفرسك في غرب مقاطعة دونيتسك، وانفتح الطريق أمامها للسيطرة لاحقا على مدينتي كراماتورسك وسلافيانسك، بعد التقدم المستمر داخل بوكروفسك وميرنوغراد، ما يعني ببساطة، أن التفاوض حول سلام أوكرانيا سيظل معلقا لوقت إضافي، فلا أحد يكسب على موائد التفاوض بأبعد مما تصل إليه الأقدام وجنازير الدبابات فوق الأرض.

كاتب مصري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد