من يانون إلى أرض الصومال: اغتيال وطن

من يانون إلى أرض الصومال: اغتيال وطن

31-12-2025 12:54 AM

في الطريق إلى يانون، لا تحتاج إلى كثير من الخرائط لتدرك أنك تدخل جغرافيا الألم الفلسطيني. قرية صغيرة تتكئ على سفوح نابلس الشرقية، لا يزيد عدد بيوتها عن عشرات، لكنها تحمل من التاريخ ما لا تحمله مدن كاملة، يانون ليست مجرد اسم على لافتة صدئة، بل ذاكرة حية لعناد الفلسطيني، وشاهد جديد على مشروع قديم يتجدد بأدوات أكثر وقاحة: تفريغ الأرض من أهلها، ثم تسويق المنافي باعتبارها «حلولاً إنسانية».
خلال الأسابيع الماضية، تعرض سكان يانون لسلسلة اعتداءات ممنهجة من المستوطنين بحماية جيش الاحتلال: حرق، تهديد بالسلاح، تكسير ممتلكات، تحطيم المدرسة الوديعة التي كانت جزءاً أصيلاً من مدارس التحدي، إضافة إلى منعٍ للرعاة من الوصول إلى مراعيهم.
لم تكن هذه الاعتداءات عابرة ولا منفصلة، بل جاءت ضمن استراتيجية خبيثة عنوانها الواضح: إما الرحيل أو الموت البطيء، وحين ضاقت الأرض بأهلها، اضطر معظم السكان هذا الأسبوع إلى مغادرة القرية مؤقتاً بحثاً عن الأمان، ليُسجَّل فصل جديد في كتاب النكبة المستمرة. لكن الأخطر من تفريغ يانون، هو ما يتزامن معه من تسويق فجّ لفكرة المنافي. فالإعلام العبري وبعض الدوائر السياسية الإسرائيلية لم تعد تكتفي بتبرير الجرائم، بل باتت تناقش علناً «أين يمكن للفلسطينيين أن يذهبوا؟». غزة، التي تحولت إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، تُطرح اليوم كمنصة انطلاق لمنافي جديدة: تارة إلى سيناء، وتارةً إلى قبرص، وأحياناً إلى ما هو أبعد من الجغرافيا المنطقية، مثل «أرض الصومال»، أو دول افريقية تعاني أصلاً من أزماتها العميقة. هنا لا نتحدث عن هجرة طوعية، ولا عن لجوء فرضته كوارث طبيعية، بل عن «هندسة اقتلاع» مكتملة الأركان: قصف وتجويع، ثم تدمير للبنية الاجتماعية، ثم فتح نوافذ وهمية للخلاص خارج الوطن، وكأن الاحتلال يقول للفلسطيني: سأجعل حياتك جحيماً، ثم أقدم لك المنفى باعتباره نعمة.

يانـون، بهذا المعنى، ليست حالة محلية، هي مختبر مصغر لسياسة كبرى، ما جرى فيها يُراد له أن يتكرر في مسافر يطا، وفي الأغوار، وفي أحياء القدس، وفي مخيمات غزة المنهكة وفي مخيمات الوطن الجريحة. الفارق الوحيد هو في التوقيت والأسلوب، أما الهدف فواحد: تفريغ المكان من الإنسان.
وحين يُطرح اسم «أرض الصومال» كوجهة محتملة للفلسطينيين، فإننا أمام ذروة العبث السياسي، كيف لشعب يطالب بحقه في أرضه التاريخية أن يُقايَض بأرض أخرى؟ وهل يُعقل أن يُحل ظلم تاريخي بظلم جديد، وأن تُعالج جريمة اقتلاع بجريمة نفي جماعي؟ هذا الخطاب ليس جديداً على المشروع الصهيوني. منذ 1948، جُرّب كل شيء: التهجير إلى الأردن، إلى لبنان، إلى غزة نفسها، ثم إبقاؤهم في مخيمات كقنابل مؤجلة. الجديد اليوم هو الجرأة في الإعلان، والوقاحة في التسويق، وكأن العالم بات متعباً من الفلسطيني، إلى درجة أنه مستعد لقبول أي «حل» يزيل القضية من شاشات الأخبار. غير أن يانون تقول شيئاً آخر. تقول إن القرى الصغيرة هي بوصلة الحقيقة. حين تُفرَّغ يانون، لا يُهجَّر عشرات الأشخاص فقط، بل يُختبر صمت العالم، وحين يُفتح الحديث عن منافي لغزة وأهلها، فإن السؤال ليس: إلى أين سيذهب الفلسطيني؟ بل: إلى أي حد سيذهب العالم في تواطئه؟ الاحتلال لا يريد تهجير الفلسطينيين جسدياً فحسب، بل يريد نفيهم من الوعي، من الخريطة، من السردية. يريد أن يتحول الفلسطيني من صاحب حق إلى «مشكلة إنسانية» تحتاج إلى توزيع جغرافي. لكن ما بين يانون وغزة، وما بين نابلس وسواحل الصومال المزعومة، تقف حقيقة واحدة صلبة: هذه الأرض ليست فندقاً يمكن مغادرته عند تردي الخدمة، بل وطن تشّكل بالدم والذاكرة والقبور والأغاني الشعبية. قد تُفرَّغ القرى بالقوة، وقد تُدمر البيوت، لكن تسويق المنافي واغتيال الأوطان لن ينجح في كسر المعادلة الأساسية الراسخة: الفلسطيني لا يبحث عن منفى جديد، بل عن عودة كاملة إلى ما سُرق منه، من يانون الصغيرة حتى آخر حجر في غزة الجريحة. فهل يستفيق العالم بعد نومه الذي طال وردعه المرير من قبل صهاينة العالم؟ ننتظر ونرى.
كاتب فلسطيني
s.saidam@gmail.com

ملاحظة: كتب هذا المقال بمساهمة تقنيات الذكاء الاصطناعي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد