هشاشة الحال وإغراء المال في «غابة» سمير يوسف

هشاشة الحال وإغراء المال في «غابة» سمير يوسف

27-12-2025 11:10 AM

في قرية فرنسية تدعى «ميتسا»، تقع على سفح جبل، تدور حرب خفية، وهي حرب تهم كل إنسان بغض النظر عن موقعه أو معتقده، بل هي حرب تختصر تحولات الزمن المعاصر، حيث تقع فيها مواجهة بين الحفاظ على البيئة، أو الانسلاخ منها تحت مسمى التطور التكنولوجي.
يتقابل في القرية فريقان: الأول يشكل الأقلية ويعيش في هشاشة نظير الأحوال الاقتصادية المتعثرة، بينما الفريق الثاني تمتلئ جيوبه بشيكات، ويريد شراء كل ما يعثر عليه في طريقه، وهو يشكل الغالبية. تندلع بينهما حرب بين الحفاظ على الذاكرة أو محوها، بين من يود الحفاظ على تاريخ الأجداد ومن يحلم بدفن ذكراهم والانجراف إلى مستقبل ليس يعلم إلى أي مكان سوف يودي به. هكذا يمكن أن نختصر «غابة» لسمير يوسف (نوفل/ هاشيت أنطوان 2025)، وهي نوفيلا تقع في 152 صفحة، ورغم قصرها فقد جاءت مكثفة في أحداثها وتطوراتها. ففي هذه النوفيلا تصير البيئة نقطة فصل بين الطرفين المتخاصمين، هي السبب في صراعهما وهي الحكم من أجل أن يعثروا على منطقة وسطى ويتفاهم كل واحد مع الآخر. هل يجب الحفاظ عليها من أجل ماضيها؟ أم ننقض عليها من أجل فتح باب يحيل إلى مستقبل وإلى استفادة من عائداتها؟

والصراع لا يتعلق بخيرات تسكن تحت الأرض، من بترول أو غاز أو معادن ثمينة، بل صراع من أجل حيز جغرافي، من أجل غابة تعاقبت عليها أجيال، لكن المال يود شطبها من الخريطة، يرغب البعض في تحويلها إلى ما يشبه سيليكون فالي. كما إن هذه النوفيلا تتراوح بين كتابة صحافية، تنأى عن الزخرفة اللغوية وتقلب عن مصادر في توثيق الحدث، من غير انحياز إلى رأي ضد الآخر، وكتابة متخيلة نكاد لا نفرق فيها بين الحقيقة والوهم، تبتكر عوالم وأزمنة وتغامر إلى دواخل الشخصيات بما تختزنه من إمتاع وحفر لغوي. فالكاتب يغامر في هذه «الغابة»، التي يمكن أن نعثر على مثيل لها في أكثر من مكان، ممسكا بالقارئ من يده من غير أن يدرك أنه يدخل ما يُشبه حقل ألغام، لأن كل حدث يحيل إلى حدث آخر، والتشويق لا ينقطع منذ الصفحات الأولى، ورغم أن حيز المكان في النوفيلا ضيق، لا يتعدى قرية، فإن النظرة إليها تتسع وتصير القرية معادل مدينة. كما إن المؤلف لا يتخذ موقفا ولا ينحاز إلى فريق ضد الآخر في خضم الصراع، بل يحافظ على صفته كصحافي، ويروي الأحداث بعين الشاهد، بما يحقق له موقعا محايدا. وهو الغريب عن المكان الذي وصل إليه، لكنه يصر على أن يعرف ما جرى فيه، وينقل إلى القارئ ما يعرف وما لا يعرف. كما إنه لا يستعين ببطل واحد في السرد كما هو متعارف عليه، بل تكاد شخصيات كثيرة تلعب دور البطل، كل واحد منها على حدة، ولكن من بين جوقة الشخصيات يطفو صوت توماس. وهو رئيس البلدية، الذي يقاوم مشروع محو الغابة وتحويلها إلى مشروع تكنولوجي جديد، ومنذ مطلع النوفيلا نتعرف عليه ونتعرف على فعلته، من غير أن يحرق المؤلف كل الأوراق، بل إن فعلة توماس تمهد إلى طرح سؤال: لماذا فعل ما فعل؟

تجار الذاكرة
من الوهلة الأولى من النوفيلا، يفضح سمير يوسف المستور، ويكتب عن توماس الذي يتسلل من بيته، تحت عاصفة ثلجية، ينطلق بسيارته وهو محمل بغالونات من البنزين، ينوي القيام بالفعلة التي خطرت على باله وخطط لها، ويشعل نارا في مبان العمال من أجل أن يقطع الطريق على المشروع التكنولوجي، ثم يعود إلى بيته كأن شيئا لم يحصل. هل ما قام به جرما أم دفاعا عن البيئة؟ ألم يفكر توماس في مصلحته جراء فعلته وتناسى مصالح الآخرين؟ بدءا من هذه اللحظة يشرع القارئ في سباق مع توالي الفصول من أجل فهم الأسباب التي دفعت توماس إلى اقتراف فعلته. وهذا الأخير سوف يجري اتهامه بالتطرف البيئي، وهو مصطلح حديث، طرأ إزاء معارك الدفاع عن البيئة في السنين الأخيرة، بل إن سكان القرية يراودهم شك في أحقية الرجل بأن يكون رئيسا للبلدية، ويظنون أنه يتعسف في استخدام السلطة بغرض تعطيل مشروع يرجى منه الخير الوفير لهم. فقد باعوا مساكنهم تحت إغراء المال، وفي ظل هشاشة الحال التي يعيشون فيها، لكن توماس امتنع عن أن يسير في طريقهم مما يعطل المشروع أو يؤجله، ويؤجل استفادتهم من العائدات، وبالتالي ينقلبون عليه. ولأن توماس قام بفعلته من باب الحفاظ على الغابة، وكذلك الحفاظ على ذاكرة الأجداد الذين عاشوا فيها، يجد نفسه غير قادر على تبرير منطقه أمام جشع الآخرين، ثم تتوالى الفصول في سرد ما حصل في قرية ميتسا، ثم يتراءى شيئا فشيئا أن القرية تموج في بحر من التناقضات. فمن شخصيات النوفيلا من ترافع عن قيم مثلى، ثم تغرق في الرشاوى والفساد. يدافعون في النهار عن المبادئ وعن الأخلاق، وعندما يسود الظلام يخلون إلى مناقضة أنفسهم، ولم ينج توماس من هذه التناقضات، حيث يظهر بشخصيتين، نصف يقاوم من أجل البيئة ونصف آخر يمعن في انهيار القيم.

ويبدو في «غابة» أن المرأة هي الحلقة الأضعف في الصراعات التي تدور فيها، تذهب ضحية منطق ذكوري، تتحكم فيه سلطة المال ومنطق الملاك الجدد للمكان. وإن كانت هذه القرية قد كسبت تعاطفا إزاء قضيتها في مقاومة محو غابتها، فقد كان تعاطفا صوريا، لأن الأوضاع لم تتغير صوب الأحسن. لأن الساكنة يهمهم قبض المكاسب لا الحفاظ على المكان. كما إنها نوفيلا لم تخلُ من روح ساخرة في التخفيف من العتمة التي تزحف على فصولها. في كشف تناقض سلوكيات الشخصيات، وفي تبيان جشعها. إنها نوفيلا تبتغي أنسنة البيئة، وأن تجعل منها محورا في السرد لا هامشا، تهتم بالمكان بقدر اهتمامها بالإنسان، يمكن أن نطلق عليها نصا إيكولوجيا، يذكرنا في رواية «جر محراثك على عظام الموتى» لأولغا توكارتشوك، حيث الحفاظ على البيئة يتحول إلى محرك صراعات ويصير حبلا يسير عليه السرد.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد