الاغتراب الاجتماعي في عصر وسائل التواصل

mainThumb

06-09-2025 11:21 PM

في عام 1999 أنجزتُ رسالة الماجستير الخاصة بي حول موضوع الاغتراب الاجتماعي، وذلك قبل أن تعيد وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل تفاصيل الحياة اليومية. كان الاغتراب آنذاك مفهومًا يُناقش في إطار علم الاجتماع والفلسفة: حالة متعددة الأبعاد تشمل الشعور بالعجز، وفقدان المعنى، وانهيار المعايير، والعزلة الاجتماعية، والاغتراب عن الذات. اليوم، اكتسب هذا المنظور أهمية جديدة، إذ إن بنية المنصات الرقمية وإيقاعات الاتصال الفوري والمنطق التجاري الذي يحكم الانتباه، قد أعادوا رسم المشهد الاجتماعي بطريقة تتيح التواصل ولكنها، في الوقت نفسه، تولّد أشكالًا جديدة من الاغتراب. وبصفتي متابعًا لهذه القضية منذ مدة، وعاملًا مع طلبة في المستويين الجامعي والدراسات العليا، أعتقد أن المجتمع الأردني بحاجة إلى مواجهة هذه المظاهر بعين النقد والبناء.
الاغتراب الاجتماعي في الدراسات المعاصرة ليس شعورًا واحدًا بل مجموعة مترابطة من التجارب: إحساس بالعجز عن التأثير في الأنظمة التي تتحكم بالحياة، شعور بأن الخطاب العام أصبح مجزأً أو بلا معنى، ضعف المعايير الاجتماعية أو انهيارها، وحدة شخصية على الرغم من وجود شبكة واسعة من العلاقات الافتراضية، وأخيرًا التباين بين صورة الذات على الإنترنت وذاتها الحقيقية بما يولد الإحساس بالزيف والبعد عن الأصالة. كل هذه الأبعاد يمكن ملاحظتها في الحياة اليومية حيث يشكّل الشباب الفئة الأكثر حضورًا على المنصات الرقمية.
من أبرز المظاهر المفارقة للوحدة في ظل الاتصال الرقمي. كثير من الشباب الأردني يمتلكون عشرات وربما مئات "المعارف" عبر الإنترنت، لكنهم في المقابل يشعرون بضعف الروابط العميقة وتراجع الإحساس بالانتماء لمحيطهم الاجتماعي. فالتفاعلات السريعة والسطحية غالبًا ما تحل محل العلاقات المباشرة والداعمة. الطالب قد يحصل على مئات "الإعجابات" والتعليقات، لكنه يبقى وحيدًا في مواجهة ضغوط الدراسة أو القلق النفسي. الجامعات الأردنية بدأت ترصد هذه الظاهرة بشكل متزايد، حيث تتنامى مؤشرات التوتر والعزلة لدى الطلبة.
شكل آخر يتمثل في "العجز الخوارزمي". فالمستخدمون سرعان ما يلاحظون أن ظهور منشوراتهم أو اختفاءها يخضع لقواعد خفية تحددها الشركات، مما يولّد شعورًا بأن الصوت الفردي مرهون بمنظومات خاصة لا تخضع للرقابة المجتمعية أو النقاش العام. وفي بيئة اجتماعية مترابطة، يصبح هذا الإحساس باللايقين مصدر قلق وانسحاب من المشاركة.
أما ضغط "الأداء والتمثيل"، فهو مظهر ثالث. فالمنصات تحوّلت إلى ساحات لعرض الصور والإنجازات وأنماط الحياة بشكل متواصل. صحيح أن هذه الظاهرة تتيح فرصًا للبعض (مثل رواد الأعمال الأردنيين الذين يستفيدون من المنصات لإطلاق مشاريع صغيرة)، إلا أن الضغط المستمر لتقديم "نسخة مثالية" من الذات يولّد فجوة بين الحياة الفعلية والصورة الرقمية، وهو ما يؤدي إلى فقدان الأصالة والشعور بالاغتراب.
كما أن تدفق المعلومات المستمر يخلق حالة من "فقدان المعنى". انتشار الشائعات أو الأخبار المتناقضة بسرعة يربك الأفراد ويضعف الثقة بالمصادر. في الأردن، على سبيل المثال، لاحظ الأطباء والمربون كيف أن الشائعات الطبية أو الاجتماعية تنتشر بسرعة وتثير القلق قبل أن تتدخل المؤسسات لتوضيح الحقائق. هنا لا يقف الأمر عند حدود المعلومة الخاطئة، بل يتجاوز إلى فقدان الثقة بالنظام الاتصالي كله.
تداعيات هذه الأشكال متعددة. الاغتراب يرتبط بانخفاض المشاركة المدنية، وتراجع الثقة بالمؤسسات، وزيادة المخاطر النفسية مثل القلق والاكتئاب. كما يتجلى في سلوكيات سلبية على الإنترنت: التنمّر، خطاب الكراهية، أو الاغتيال المعنوي. وهي ممارسات لا تؤذي الأفراد فقط، بل تهدد جودة الحوار العام وتزيد من صعوبة مواجهة التحديات المجتمعية المشتركة.
لكن الاستجابة ممكنة عبر عدة مستويات. البداية تكون من التربية الرقمية والإعلامية كجزء من التربية المدنية. تعليم الشباب كيفية التحقق من المصادر، وفحص الصور والمقاطع، والتفكير النقدي قبل المشاركة، هو مهارة اجتماعية وأخلاقية بقدر ما هو مهارة تقنية. ويمكن إدماج هذا التعليم ضمن المناهج المدرسية والجامعية مع أمثلة من الواقع المحلي.
كذلك، يجب التركيز على البعد الأخلاقي، أي إدراك أثر الكلمة الإلكترونية على الآخرين. يمكن للمدارس والجامعات أن تُدخل نقاشات وأنشطة تطبيقية تبرز كيف أن إشاعة واحدة قد تدمر سمعة أسرة، أو أن تعليقًا جارحًا قد يؤثر في حياة إنسان بأكملها. وهنا يأتي دور الأسرة أيضًا في دعم الشباب وتوجيههم لاستخدام متزن للمنصات.
المؤسسات التعليمية في الأردن، خصوصًا الجامعات، يمكن أن تكون مراكز متقدمة في هذا المجال، عبر تنظيم ورشات عمل عامة، وإنشاء نوادٍ طلابية متخصصة في التربية الإعلامية والصحة الرقمية، فضلًا عن تشجيع الأبحاث الميدانية حول ظاهرة الاغتراب الاجتماعي في البيئة المحلية.
إضافة إلى ذلك، التعاون بين الهيئات الصحية والتعليمية والجمعيات المدنية ووسائل الإعلام ضروري لبناء شبكات استجابة سريعة للشائعات والمعلومات المغلوطة، خاصة في أوقات الأزمات. وكلما كان الصوت الرسمي أو المجتمعي أكثر وضوحًا وموثوقية، تراجعت بيئة الشائعة والاغتراب.
من ناحية أخرى، يمكن أن تسهم تصميمات المنصات نفسها في تقليل الاغتراب من خلال إضافة أدوات للتحقق أو تشجيع المستخدمين على التفكير قبل النشر. القرارات التقنية ليست محايدة، بل تشكّل جزءًا من التجربة الاجتماعية للمستخدم.
في النهاية، لا تكمن المشكلة في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في كيفية إدارتها اجتماعيًا وثقافيًا. وسائل التواصل تضخّم التوجهات الإنسانية الإيجابية والسلبية على حد سواء، لذا فإن الحلول ينبغي أن تكون اجتماعية: تعليم، قيم، مؤسسات داعمة، وخيال مدني قادر على إعادة توجيه استخدام هذه الوسائل بما يخدم الإنسان.
وعلى الرغم من التحديات، هناك مؤشرات مشجعة في الأردن والمجتمع العربي عمومًا. فالكثير من الشباب يستخدمون وسائل التواصل لبناء مشاريع صغيرة، أو لتنظيم مبادرات خيرية، أو لتطوير فرص تعليمية جديدة. هذه إشارات إلى أن المنصات يمكن أن تكون مصدر قوة وتمكين إذا أحسنّا استخدامها.
الخلاصة أن الاغتراب الاجتماعي عبر وسائل التواصل ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة خيارات بشرية: فردية، مؤسسية، وتقنية. وإذا ما التزمنا كأسر ومؤسسات تعليمية ومجتمعية في الأردن بتعزيز التربية الإعلامية الرقمية، وترسيخ قيم التواصل المسؤول، وتشجيع الأبحاث العلمية حول هذه الظاهرة، يمكننا أن نحوّل هذه المساحات الرقمية من مصدر اغتراب إلى مجال للانتماء والمشاركة الحقيقية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد