ليس ماذا يفعل الإعلام بنا

mainThumb

23-10-2025 05:15 PM

بل كيف يعمل في المجتمع. نظرية هالوران التي هزت عالم الإعلام
هل تساءلت يومًا لماذا تُعرض بعض الأخبار بشكل معين بينما تُغفل أخرى؟ ولماذا يركز الإعلام على أحداث محددة ويهمل أخرى رغم أهميتها؟ قبل أكثر من نصف قرن، طرح الباحث البريطاني جيمس هالوران(JAMES HALLORAN ) سؤالًا مختلفًا تمامًا: ليس "ماذا يفعل الإعلام بنا؟"، بل "كيف يعمل الإعلام داخل المجتمع؟". هالوران، الذي أسس مركز بحوث الاتصال الجماهيري بجامعة ليستر عام 1966، رأى أن فهم الإعلام لا يكتمل إلا بفهم علاقته بالسلطة والمال والأيديولوجيا. لم يكن هدفه مجرد دراسة التأثير أو نسب المشاهدة، بل تحليل البنية الاجتماعية للإعلام ودوره في تشكيل الوعي والمجتمع.
البحوث الإعلامية التقليدية، خصوصًا في الولايات المتحدة، ركزت على "ماذا يفعل الإعلام بالناس"، بمعنى اعتبار الجمهور مجرد متلقٍ سلبي. أما المدرسة البريطانية، وهالوران على وجه الخصوص، فقد حولت التركيز إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتحرك ضمنها الإعلام، معتبرة أن الرسائل الإعلامية ليست محايدة بل مشبعة بالقيم والمصالح. هذا التحول جاء نتيجة سياق فكري واجتماعي متميز في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تصاعدت الحركات العمالية والطلابية وبرزت تيارات فكرية مثل الماركسية الجديدة ومدرسة فرانكفورت.
مركز بحوث الاتصال الجماهيري بجامعة ليستر لم يكن مجرد مؤسسة أكاديمية، بل مختبرًا فكريًا لبناء وعي نقدي بدور الإعلام في المجتمع. إسهامات هالوران والمركز شملت كشف العلاقة العضوية بين الإعلام والسلطة السياسية والاقتصادية، ورفض فكرة الحياد العلمي المزعوم، مؤكدًا أن كل خطاب إعلامي يحمل مصالح وقيم. كما دعا إلى أخلاقيات المسؤولية الاجتماعية للإعلام باعتباره مرفقًا عامًا يخدم المصلحة العامة ويعزز المشاركة الديمقراطية، مؤكدًا أن الباحث الإعلامي ليس مجرد مراقب، بل فاعل نقدي في المجتمع.
هالوران جمع بين فكر ماركس، الذي يرى أن الإعلام أداة لإعادة إنتاج علاقات القوة، وفكر غرامشي حول الهيمنة التي تُمارَس عبر الموافقة والخطاب، ومدرسة فرانكفورت التي تنتقد تحويل الإنسان إلى مستهلك ضمن صناعة الثقافة. يمكن تلخيص تحليله النقدي في أربع نقاط رئيسية: الإعلام فضاء اجتماعي يعكس الصراعات ويعيد إنتاجها؛ الرسائل الإعلامية لا تُفهم بمعزل عن الملكية والتمويل والضغوط السياسية؛ وظيفة الإعلام هي تمكين المواطن وتنويره، وليس مجرد تلبية رغباته الاستهلاكية؛ وأخيرًا، الإعلام لا يكتفي بعكس الواقع، بل يساهم في صناعته.
تستمر أفكار هالوران في زمن المنصات الرقمية الكبرى مثل Google وMeta وApple وAmazon وMicrosoft، التي تتحكم في البيانات والخوارزميات، أي في "العقل الجمعي الرقمي". اليوم، لا تُفرض الهيمنة من فوق فقط، بل عبر خوارزميات تغذي الانقسام وتنتج قبائل رقمية مغلقة، كما يظهر في ظواهر الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية، حيث تتحول المعلومات إلى أدوات للهيمنة الرمزية والاقتصادية، استمرارًا للمنطق الذي حذر منه هالوران.
عند تحليل التغطية الغربية للحراك العربي، نجد أن من يمتلك شبكات مثل CNN وBBC يحدد مضمون الأخبار وفق مصالحه، حيث ركز الإعلام على مفردات مثل "فوضى" و"تطرف" بينما غُيبت كلمات مثل "عدالة اجتماعية" أو "مقاومة فساد". بدلاً من الفهم العميق للحراك، أعيد إنتاج الصور النمطية التي تكرس الهيمنة السياسية والثقافية.
في العالم العربي، يطرح هذا الوضع تحديات كبيرة. كيف يمكن تطبيق النموذج النقدي لهالوران في بيئات يسيطر عليها رأس المال أو الدولة؟ هل منصات التواصل الاجتماعي فضاءات لتحرر المواطن أم أدوات للرقابة والمراقبة؟ وكيف يمكن تحليل برامج تلفزيونية أو تأثير فيسبوك على إعادة إنتاج علاقات القوة؟ يتطلب الأمر تجديدًا في الفكر النقدي العربي، مستلهمًا روح هالوران دون الاقتصار على النماذج الغربية، مع التركيز على فهم الإعلام كساحة صراع لا مجرد ناقل للرسائل.
المدرسة البريطانية لم تقدّم نظرية فحسب، بل موقفًا أخلاقيًا من الإعلام. في زمن "ما بعد الحقيقة" والذكاء الاصطناعي، تصبح وصية هالوران بالمساءلة النقدية أكثر إلحاحًا. إذا كان الإعلام ساحة صراع، فما دورنا نحن؟ مجرد مراقبين، أم مشاركين في إعادة التوازن لصالح صوت المواطن والحقيقة؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد