هوميروس في قراءة خضراء

mainThumb

06-10-2025 12:21 AM

قد لا يمرّ عام (أم هو شهر؟) إلا ويصدر كتاب نوعي عالي التميّز، مفاجئ المنهج والنظرة والمقاربة؛ يعيد استكشاف جوانب جديدة، عديدة أيضاً، في «الإلياذة»، ملحمة هوميروس الخالدة التي يُرجّح تأليفها في القرن الثامن قبل الميلاد، وتقع حسب الأصل في 24 كتاباً و15.693 بيت شعر.
وكما هو معروف، تروي «الإلياذة» وقائع حصار طروادة، ثمّ سقوط المدينة في أيدي الإغريق بفعل الحيلة والخديعة والغدر، وليس البطولة في القتال، أو الدهاء في التخطيط العسكري. هذه هي الحكاية التي جعلت قصيدة هوميروس بمثابة النصّ غير الديني الأكثر سرداً وتناقلاً، وإلهاماً واستلهاماً، على مدى التاريخ. ولقد توفّرت في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية، أسباب متباينة تشجّع على استعادة الحكاية، وعلى استثمارها بما يخدم سلسلة من الوظائف الإيديولوجية والأخلاقية والثقافية والسياسية والتعبوية.
وما دام رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير على الألسن هذه الأيام، مع تداول اسمه كمتصرّف إسرائيلي ــ أمريكي في قطاع غزّة؛ فلعلّ من المفيد التذكير بأنه لجأ إلى استخدام مفردات إلياذية، إذا جاز القول هكذا، أمام لجنة شيلكوت التي تولت التحقيق المستقلّ حول مشاركة بريطانيا في اجتياح العراق إلى جانب الولايات المتحدة، سنة 2003. يُذكر أيضاً، الموقع الأثير الذي حظيت به «الإلياذة» لدى قادة الحروب على مرّ العصور، ابتداء من الإسكندر المقدوني الذي كان يضع الكتاب تحت وسادته، مروراً بقادة الحلف الأطلسي (إحدى عمليات العام 2007 في أفغانستان حملت اسم «آخيل» (نسبة إلى المحارب الإغريقي الشهير)، وليس انتهاءً باعتماد الكتاب ضمن مقرّرات كلية «وست بوينت» العسكرية الأمريكية الشهيرة.
كذلك اتضح أنّ هوميروس لم يكن شاعراً طليق الخيال فحسب، بل كان سارداً محنكاً أيضاً، صنع حبكة روائية شيّقة من مزج حكاية حبّ بسجلّ حرب. ولقد أثبتت أبحاث أركيولوجية أنّ السبب الأهمّ لحصار طروادة لم يكن استرداد هيلين (صاحبة «الوجه الذي جنّد ألف سفينة»، حسب الشاعر الإنكليزي كرستوفر مارلو)، بل نزعة التوسّع الإمبراطوري لدى الإغريق، فضلاً عن حاجتهم إلى البرونز في صناعة السلاح؛ إذْ تقول الدلائل إنّ طروادة كانت تمتلك منه الكثير.
مناسبة هذه العودة إلى «الإلياذة» ليست أبعاد الملحمة، وسواها أخرى متنوعة تظلّ حمّالة تفسير وتفسير مضادّ، فحسب؛ بل كتابُ إديث هول «ملحمة الأرض: قراءة إلياذة هوميروس في القتال من أجل عالم يحتضر»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات جامعة ييل. وإذ يبدأ الفصل الأوّل باستعراض التبدلات الكثيرة التي طرأت على تأويل قصيدة هوميروس، ويضعها الفصل الثاني في سياقات تاريخية ملموسة موضوعية، وأخرى ذات صلة بالمخيّلة البشرية؛ فإنّ الفصول السبعة اللاحقة تتناول علاقة «الإلياذة» بالطبيعة والأرض والزراعة والأنهار، والفيضانات، والحرائق، والتغيّرات المناخية، من زاوية مركزية ناظمة هي الأخطار البيئية التي يواجهها عالمنا الراهن.
وتؤمن هول أنّ «الإلياذة» يمكن أن تساعدنا في مقاومة ما نواجهه اليوم من توحّش في هذا الطور من «تاريخ انعدام الإنسانية» بصدد العلاقة مع الطبيعة والمناخ، لأنّ «القراءة الخضراء» لكتاب هوميروس سوف تبيّن لنا أنّ بذور الكارثة البيئية زُرعت لتوّها بوسيلة الحروب منذ ألفيات مضت، بل إنها تتحمس أكثر فتفترض أنّ إعادة قراءة ذلك العمل التأسيسي قد لا تجنّبنا حرباً عالمية ثالثة فقط، بل ستنقذ كوكبنا وما نتشارك فيه مع كيانات حية أخرى، من البلوى القصوى. ولا عجب أنّ منهجية كهذه، شديدة الطموح كما يجب القول، سوف تقود المؤلفة إلى وقفة ما بعد كولونيالية عند عمل الشاعر الكاريبي الكبير ديريك ولكوت، في عمله الفذّ «أوميروس»؛ حيث خضعت البيئات المستعمَرة لتدمير منهجي بفعل الاستغلال الوحشي للثروات من جانب القوى الاستعمارية.
ولأنها، في الفصل الثالث خصوصاً، تعتمد مناهج النقد البيئي، الأكثر رواجاً وجاذبية في عالم اليوم، على غرار ما وقع لنظريات ما بعد الاستعمار خلال العقود الأخيرة؛ فإنّ هول ترى في «الإلياذة» وثيقة جبارة لاستقراء البيئة على نطاق كوني، وليس في حدود البحر الأبيض المتوسط من جغرافية الإغريق وحدها. ثمة في الملحمة أكثر من مدوّنة حافلة بإنتاج الموادّ واستهلاكها، وجنازات الأبطال التي تتقاطع مع أشغال الحدّاد، وأضاحي الحيوان، وقطع الأشجار لأغراض قتالية، واستعراض هائل لموارد لانهائية تتكشف عنها الأرض والبحر والسماء؛ إلى درجة أنّ قصيدة هوميروس أرست ما يقترب من علم جمال طبيعي، من الطبيعة وإليها، ألهم الآداب والفنون والفلسفات، وبالتالي انقضّت عليه السياسات واختلاف مقاصدها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والصناعية…
ولا تغفل هول عن التذكير بمفاعيل اجتياح أوكرانيا وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة على تأخير، وتعطيل، الجهود الدولية الساعية لوقف التدهور المناخي؛ إذْ للحروب أولويات لدى صانعيها تتجاوز مصائر الأرض وقاطنيها، على منوال الدرس الإغريقي في حرب طروادة. هنالك طراز من «اللاوعي البيئي» في ملحمة هوميروس، تساجل هول في السطور الختامية من كتابها، من دون أن تتحرّج في الذهاب أبعد نحو المثال/ الحلم: أن تتكفل القراءة الخضراء لـ»الإلياذة» بتحويلها من إحدى أعظم قصائد البيئة، إلى الدليل الأعرق الكفيل بتكريم الأرض، أناسةً وأنْسُنياً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد