السوسنة تنشر كتاب تاريخ الاردن وعشائره لـ عويدي العبادي على حلقات

mainThumb

11-10-2009 12:00 AM

عمان – السوسنة - انتهى الكاتب الاردني النائب السابق الدكتور احمد عويدي العبادي من كتابه الجديد الذي يتحدث فيه عن تاريخ الاردن وعشائرة ، ضمن سرد تاريخي بعيدا عن الملل والرتابة ، يبرز فيه تاريخ الاردن الضارب بالحضارة العربية والاسلامية .
ويقول العبادي : " عندما تحدث جلالة الملك عبدالله الثاني امام قادة القوات المسلحة الاردنية الباسلة قبل اكثر من شهر وهو يرد على المشككين بوجود الاردن وكيانه وتاريخه ومستقبله وهويته , ووصف جلالته مثل هؤلاء انهم لم يقراوا تاريخ الاردن والاردنيين ولم يعرفوا الاردنيين وعليهم ان يعرفوا ليكفوا السنتهم . كانت ردود الفعل الاعلامية والسياسية نمطا من الفزعة الخاوية من الفكر بعيدا عن المفهوم الذي اراده جلالة الملك .ولم يتحرك سياسي واحد او مؤرخ لفهم ما اراد جلالة الملك وتحويله الى كلام تاريخي وسياسي قائم على الدليل والبرهان .
واضاف ان هذا العمل جاء ترجمة لرسالة جلالة الملك . وان المشككين بالاردن وجودا وتاريخا وحاضرا ومستقبلا وكيانا وهوية لم يقراوا تاريخ الاردن والاردنيين ولم يعرفونا وان ماقاله جلالة الملك هو سر الموضوع برمته .
في هذا الكتاب يقدم د . احمد عويدي العبادي الدليل التاريخي منذ خمسة الاف سنة على وجود الكيان الاردني والشعب الاردني والهوية الاردنية منسجما مع فكر جلالته في هذا السياق وتاركا التهريج واللغو لاهلهما لانه ليس من اهلهما .
وبالاتفاق مع الكاتب تنشر " السوسنة " الكتاب على حلقات متتالية :

توطئة / الباب الاول
لا مناص من الإشارة إلى واقع قد يبدو مُرّ?Zاً للبعض، وحلواً للبعض الآخر ـ وهو أن الحديث عن الأردن يتميّ?Zز بأمرين قد ينفرد بهما عن سائر أقطار المنطقة العربية برمتها ، وهما:
1. أنه كان قديماً أرضاً للصراع والنزاع بين الدول والحضارات، ومن ثم صار في كثير من الحقب مركز تمازج وتزاوج او تنافر بينها , كما كان مركز طرد تارة ومركز جذب تارة اخرى للمجموعات السكانية من اهله و/ او من الوافدين اليه . وقد ادى هذا ايضا الى وجود كثير من التجاذبات المترتبة على وجود التناقض في الاحتلالات والاختلالات التي تعتري البلاد واهلها , مما اثرى تنوع الثقافة الفسيفسائية لاهل البلاد وجعلها احيانا متبايتة .
2. والنقطة الثانية ان الاردن صار موضع الجدل السياسي والاكاديمي في العصر الحديث. فاحتدم الخلاف حول هويته وتاريخه وحدوده ووجوده , بين قائل بانكار هذه كلها في التاريخ السياسي والجغرافي والحضاري سابقا ولاحقا ، وآخر مثلي ( ومدرستي ومنهجي ) يرى عكس ذلك تماماً. فاما المنكر لنا فهو الذي لم يكلف نفسه عناء البحث العلمي والتاريخي , وتميز قلبه مرضا وغيضا بحيث يضع راسه في الرمال امام الحقائق التي اثبتت باننا وطن وشعب يتقدم على كثير من الشعوب والاوطان على وجه الكرة الارضية تجذرا واهمية وارضا . كما ان المنكر لنا يريد كل شيء جاهزا له ليقتنع ولكنه لن يقتنع . واما من هم من مدرستي ومنهجي فاننا نعتمد البحث في اعماق التاريخ فعثرنا على كنوز تتحدث عن الاردن اسما وهوية وارضا وشعبا واهمية دينية وسياسية واجتماعية وثقافية منذ الاف السنين وهو ماسنراه في هذا الكتاب ان شاء الله .
وقد ولّ?Zد هذان الأمران نمطاً من الثقافة السياسية في وصف الكتابة المعاصرة عن الأردن، أو التعبير عن حبِّه أنه ضرب من الجنون والوهم السرابي ، والعصبية القبلية , والتخلف والتقوقع والعنصرية , والعداء لما يسمى بالوحدة الوطنية , وترتب على ذلك سيادة مفهوم قمعي في أن أيّ?Z شخص يكتب عن الأردن بالصورة المغايرة للمفهوم المعادي المنكر لمفهومنا ومنهجنا أعلاه، يتعرض لاغتيال الشخصية من اصوات الفجار , وكنت واحدا من هؤلاء الضحايا .
معاهدة سايكس- بيكو
ويروق الحديث للجهلة والاعداء ومن في قلوبهم مرض , بقولهم ان الاردن هو قطعة حلوى تم ابتداعها للوجود على طاولة سايكس / بيكو وبجرة قلم منهما , ولا ينظرون الى ان هذا القلم الانجلو/ فرنسي كان ابتدع ايضا في تلك المعاهدة بلدانا اخرى غير الاردن وكل رضي بوطنه , الا نحن محرم علينا ان نرضى به او نتحدث عنه , حينها نصبح ووطننا صنيعة سايكس/ بيكو ودعاة للعنصرية والتخلف وصنائع الاستعمار, واما غيرنا فهم وطنيون وشرفاء وصنائع التاريخ الماجد المجيد .
وللحقيقة التاريخية ان الاردن هو اكثر البلدان تضررا من هذه المعاهدة المشئومة التي اقتطعت مايزيد عن نصف مساحته الحقيقية والتاريخية واعطتها لقمة سائغة لاربعة بلدان مجاورة واخرى خامسة غير مجاورة . وبالتالي فان الاردن الحالي ( وليد سايكس / بيكو ) هو اقل من نصف مساحة الاردن التاريخي والحقيقي . فقد ابرزت هذه المعاهدة الجزء الشرقي من الاردن : وهو شرق الاردن
Trans -Jordanواقتطعت شماله وغربه وجنوبه وشرق شرقه (اقول شرق شرقه) وشماله الغربي الى البحر الابيض المتوسط, . والاردن بدون سايكس بيكو يمتد على بحرين هما المتوسط والاحمر ويصل الى قريب من نهر الفرات ولا يخلو من احواض النفط , ويمتلك اكبر حوض مائي عذب في شمال جزيرة العرب , ولكن مع سايكس بيكو صرنا بهذا االوضع الذي نحن فيه من اقتطاع مواردنا واراضينا ومياهنا وبحارنا وانهارنا وبحيراتنا الاردنية وبترولنا . وقد فصلنا ذلك بالخرائط في كتابنا : الاردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين من 1500 ق. م ---1881 م منشورات الدار الاهلية / عمان
اذن نحن الاردنيين اكثر الشعوب والانظمة تضررا من معاهدة سايكس بيكو , ونحن اولى الناس برفضها لانها رفضت هويتنا الاردنية على اساسها التاريخي والحقيقي وابرزتها مجتزأة .
ومن التباين بين المدرستين ان مدرستي ترى ان حب الاردن لاينطوي على اي كره للاوطان والشعوب الاخرى او لاي منها , واما المدرسة المناقضة لمدرستي فترى ان حب الاردن يعني بالحتمية كره سائر الاوطان والشعوب , وان كرههم للاردن يعني بالحتمية حب الاوطان والشعوب الاخرى , بل ان هذا الحب عند البعض لايكون الا بكره الاردن واهله . مدرستان متباينتان ولكنهما موجودتان على ارض الواقع وفي جميع الاوساط والاطياف والاتجاهات في داخل الاردن وخارجه . وياتي هذا الكتاب انتصارا لمدرستي ومنهجي العلمي التاريخي ضمن دراسة علمية , لنرى ماذا ستقدم لنا المدرسة الرافضية سوى الشتائم والصياح وهي لاتساوي شيئا ولا تصمد امام الحقائق والفكر الذي نقدمه نحن .
وصحيح أنني أحد الذين دفعوا ثمن ذكر الحقيقة والتمسك بها في دفاعي عن الأردن، وخالفت التيار السياسي والاجتماعي العام الذي لا يريد الحديث عن الأردن واهله إلا ضمن أُطُر?Z (مفردها إطار) محدّ?Zدة، لا يجوز الجنوح عنها يمنة او يسرة . الا ان الكاتب الصادق الملتزم هو صاحب رسالة وعليه أن يواصل رسالته، ويجاهد ويضحي من اجلها , حتى ولو دفع ما دفعته من الثمن الباهظ لقاء الالتزام بهذه الرسالة الوطنية والتاريخية . فاصحاب الرسالات الدينية والسياسية والنضالية لايدخلون التاريخ الا من خلال ثباتهم على المباديء وتقديمهم للتضحيات . وان دماء التضحيات هي مداد التاريخ من نور لايغطيه ظلام المطايا ولا ظهور السكارى من النكرات والحاقدين . ومن عظيم التزامي برسالتي الدينية والوطنية أنني كتبت هذا السفر التاريخي وأنا في السجن ، في ظروف تتميز بِشُحٍّ أو انعدام المصادر والمراجع،من جملة ماتتميز به من سلبيات اخرى . ولكنني حاولت ماوسعني الجهد تنشيط مخزون ذاكرتي لما سبق وقراته وحفظته عبر عمري كله وانا قاريء نشيط واتاني الله من الذاكرة والحفظ مايساعدني على الكتابة وتذكر ادق التفاصيل والنصوص في اسوا الظروف ولو بعد حين طويل من قراءتها .
وحيث ان الشيء بالشيء يذكر , فانه سيصدر لي ( لاحقا ) ان شاء الله كتاب بالعربية والانجليزية عن ظروف سجني ومذكراتي بالسجن , وسيكون ان شاء الله تعالى بعنوان
دولة في مواجهة رجل ( بالعربية )
واما بالانجليزية فسيكون بالعنوان التالي :
A State Facing a Man

الخيل والليل والبيداء تعرفني = والسبف والرمح والقرطاس والقلم
ان اهمال الاردن في التاريخ في كثير من الحقب الزمنية لايعود الى غيابه عن التاريخ واحداثه حقيقة ولا خروجه منهما , ولا الى انعدام مجريات التاريخ واحداثه على ارضه وفي اهله , ولا الى خلوه من صناعة التاريخ وصناع التاريخ , وانما يعود الى غياب التدوين / اي غياب القلم , والى القلوب التي فيها مرض اسمه كره الاردن والحقد على اهله عبر التاريخ ومنهم العباسيون وغيرهم على مر العصور . وفي غياب الاهتمام الرسمي بتاريخ الاردن الحقيقي , فان من يريد البحث في تاريخ هذا البلد الطيب عليه ان يقوم بالمهمة بمجهوده الشخصي , وعليه ان يجمعه من الشذرات والزوايا والمصادر المتفرقة , مما يحتاج بالتالي الى مزيد من البحث والوقت والتاني والامانة والمصادر . فقد استغرق ( مثلا ) جمع المواد اللازمة لكتابي : الاردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين 27 سنة حتى صدر في عام 2007 ( مجلدان قوامهما 1008 صفحات ) .
ارض بلا شعب ؟
ومن مهماتنا هنا ان نذكر مايقال ضد الاردن واهله والرد عليهم بالحقائق والتحليل والمنطق والحجة بعيدا عن التشنج والسطحية .
فمثلا : ظهرت مقولة أو نظرية معادية للاردن أشار إليها الرحالة الإنجليزي (ترتسترام) Tristram الذي تجول في بلادنا عام 1872 مفادها أن الأردن أرض بلا شعب No mans Land لتكون لشعب بلا أرض For People without Land، ورغم أنه اعترف في نهاية المطاف بعدم مصداقية هذه المقولة، إلا أنها بقيت لاصقة بهذه البلاد إلى يومنا هذا وإن اختلفت التعبيرات عنها، وذلك:
أولاً: بقولهم أن الأردن عبارة عن صحراء قاحلة: وأنها كانت مسرحاً لقبائل بدوية متنقلة تفد إليها من سوريا وفلسطين ومصر وجزيرة العرب والعراق، وبالتالي فهي بلاد بلا أهل . وهناك فرق بين اصطلاح : مسرحاً لقبائل بدوية متنقلة تأتي من الخارج،وارض بلا شعب او بلا اهل من جهة , واصطلاح: أهل الأردن أو أن للأردن أهل.
وإن القارئ لكتب المؤرخين والجغرافيين المسلمين , يجدهم قد ردّوا على هذه المقولة منذ ألف سنة ويزيد عندما ذكروا اصطلاح: أهل الأردن، فالأهل تعني أنهم السكان الأصليون المتجذرون في هذا البلد أو ذاك. وأما كلمة مسرحاً لقبائل جوالة أو متنقلة nomads فتعني أنهم لا يرودونها إلا طلباً للماء والكلأ، أو الهروب من الثأر أو من قانون الإدارة في الأقطار المجاورة في العراق وسوريا وفلسطين ومصر, وبالتالي فهي ليست ديارهم وانما ممر لهم عبرها من الخارج واليه
وقد ذكر ياقوت الحموي في الجزء الأول من معجم البلدان ما قاله الشاعر حول دعم أهل الأردن لمروان بن الحكم في قتاله مع الضحاك بن قيس القهري إذ يقول:
لولا الإله وأهل الأردن اُقْتُسِم?Zتْ
نار الوقيعة يوم المرج نيرانا

والمرج هنا هو مرج براهط قرب دمشق الذي وقعت فيه معركة بين مروان والقيسية أدت إلى انتصار الأول رغم أن جيشه لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل جلهم أو كلهم من أهل الأردن , وتغلّبوا على جيش الضحاك بن قيس الذي كان يفوقهم عدداً بحوالي أربعة أضعاف.
وتجدر الإشارة أيضاً أن كثيراً من أسماء العشائر الأردنية بقيت تتردد عبر المصادر التاريخية في الجاهلية والإسلام والعصور الإسلامية الوسيطة والحديثة، وأنها على أرض الأردن، وبالتالي فأن من يعيش عشرات القرون أو آلاف السنين على أرض لا بد أن يكون من أهلها. وليس مسرحاً لتجواله، ومن ثم مناورته على جناح السرعة عندما ينضب الماء والكلأ.
فمثلاً نجد اسم جذام وقضاعة وبني سليح وبني عاملة وبني كندة والغساسنة، وبهراء ولخم وبني كلب عشائر اردنية منذ العصور الموغلة في القدم . فجذام قوم شعيب عليه الصلاة والسلام الذي جاء بعد سيدنا إبراهيم، ومنهم بني صخر، وبني حميدة، وبني عجرم، وبني عباد. وبني عقبة ( العمرو )= أي الصخور والحمايدة والعجارمة وعباد والعمرو .
ويشير ابن بطوطة في رحلاته إلى نافل او نافع العجرمي كان اميرا للبلقاء قبل سبعة قرون، دون أن يذكر الزمن الذي تجذّر قبل ذلك في الإمارة، ولا زال اسم النوافعة والعجارمة موجود إلى الآن. وتشير وثائق سرجون الثاني عام 715 ق.م إلى شنه حرباً على بني عباد في مناطق جنوب الأردن الحالي، وخوض شيخ البدو المدعو عباد / ابن عباد معركة ضد اليهود عام130 قبل الميلاد في مرج هيرموكس الذي أصبح فيما بعد مسرحاً لمعركة اليرموك. وتشير الخرائط الإسلامية إلى وجود العدوان في الأردن منذ حوالي ألف سنة بما يدحض ما يقال أنهم وفدوا إليه في القرن السابع عشر.
نخلص من هذا أن هؤلاء الناس، وهذه القبائل، ما ذكرته أمثلة فقط، هم من أهل الأردن، ولكن طبيعة الدولة الإسلامية عبر مراحلها كانت تسمح لهذه القبائل بالتنقل إلى الأقطار المجاورة لأسباب كثيرة، نذكرها فيما بعد إن شاء الله. ثم تعود بعد برهة من الزمن أو أجيال، فيتحدث المؤرخون أو الناس عن العودة الأخيرة دونما أية إشارة إلى ما كان قبلها من وجود هؤلاء الناس في الأردن.
وإذا تحدثنا عن الحويطات فإنهم أبناء وأحفاد الأنباط، واستمروا في الحياة على الارض الاردنية , ولكن ضمن خط البداوة في صراعهم من أجل البقاء بعد القضاء على دولتهم في عام 106م كما سيأتي تفصيلا بإذن الله.
فالأردن إذن ليس صحراء قاحلة ومسرحاً للقبائل الغريبة او العابرة ، بل إن العشائر الأردنية قاومت دخول قبائل قوية مثل عنزة، ومن فروعهم الرولة، من دخول الأردن، وبقيت براهين على هذا الصراع، نراها بوجود عائلات وعشائر من عنزة أصلاً انضمت لعشائر أردنية، ضمن الحويطات وبني صخر، وعباد. وعشائر شمال الأردن. والأمر نفسه ينطبق على شمّ?Zر التي نجد لارتيادها الأردن براهين بوجود بقايا منهم ضمن عشائر عباد وبني صخر وعشائر السلطية وعشائر الكرك ومعان .وفي هذا السياق فان التاريخ يذكر بكل الاجلال والاحترام دور المغفور له الشيخ طراد بن زبن في حماية الاردن من الاحتلال القبلي الخارجي , ويسجل للمغفور له الشيخ عودة ابو تايه في كف يد الغزاة من القبائل الخارجية من ان تحتل الاردن ايضا . وقد تالق الزعيمان الشيخ طراد والشيخ عودة عندما تحالفا معا في هذا الاطار ضمن مفهوم وطني عميق لم يدركه حتى الساسة في العصر الحديث .
ولتوضيح الأمر أكثر من ذلك، فإن مثل هذه الجيوب التي اندمجت وذابت في العشائر الأردنية طلباً للحماية , قد تكون وفدت أيضاً من عنزة أو شمر أو نجد أو بني تميم بسبب ثارات ارتكبوها أفراد هربوا إلى الأردن ووجدوا الأمن والحماية ضمن عشائره القوية وغيّروا هويتهم العشائرية ضمن القانون العشائري الذي كان سائداً آنذاك وهو "ذبح شاة الروك" وهي عهد بين الطالب للحماية والمانح لها، ويصبح له ما للأردني، وعليه ما عليه.
وفي الوقت الحاضر نجد أن بعض هذه الجيوب أو العائلات أو العشائر قد أعلنت انفصالها عن العشيرة التي وفرت لها الحماية عبر أجيال وقرون، وذلك لأن قانون الأمن والحماية صار من مهمات الدولة , حيث يفترض ان يتساوى الجميع، ولم يعد الامن والجماية من مهمات العشائر الا في نطاق محدود ، ولم يعد الشخص بحاجة إلى عشيرة تحميه بالمصطلح السابق وإنما إلى القانون والمحاكم فقط.
وأما اصطلاح صحراء قاحلة في وصف الأردن بذلك ، فإن بعثة الآثار التابعة لجامعة أكسفورد البريطانية، والتي جاءت قبل حوالي قرن من الزمان ( في مطلع القرن العشرين ) واستمرت لعامين وهي تقوم بالمسح الميداني على مدى عامي 1927 و1928، في شمالي جزيرة العرب والأردن، وخلصت بنتائجها إلى تقرير وضعه المستر هنري فيلد Henry Field عن أعمال هذه البعثة قال فيه:
"أن الظواهر الأركيولوجية (أي مظاهر سطح الأرض) والجيولوجية (وهي تكوين سطح الأرض) تدل على أن البادية كانت في زمن من غابر الأزمان خصبة التربة غزيرة المياه حتى أنها لتحول عدداً كبيراً من البداة (أي البدو) المستقرين في أزمنة ما قبل التاريخ".
ولا بد من الإشارة هنا أن البادية التي تحدث عنها التقرير إنما تعني البيئة العامة، والأماكن الموجودة التي زارتها البعثة وهي قصر البرقع في البادية الشمالية الأردنية إلى الشمال الشرقي من صوفة ودوّارة (الأجفور) وباير في جنوب الأردن، وقصر الأزرق إلى الشمال الشرقي عن عمان العاصمة، وطريق عمان بغداد التي تمتد قرابة أربعمائة كيلو متر داخل الحدود الأردنية.
عثرت البعثة البريطانية المذكورة على أحجار صوانية مشذبة بأيدي بشرية، تعود إلى العصور الحجرية وهي دليل على وجود الإنسان في تلك الأزمنة، في هذه المناطق التي توصف الآن أنها صحراء، أو بادية، وتوصف أنها خالية من الشجر والماء والبشر إلا بعد أن وطدت الدولة أركانها، ونشأت مراكز تجمعات بشرية وصلت إليه خدمات الماء والهاتف والكهرباء والمواصلات، ومن ثم وسائل الحضارة الحديثة.
الاستقرار عبر التاريخ في الاردن
ما كان الإنسان الأول ليعيش في هذه البادية، لولا توفر العناصر التالية:
1. العنصر الأول هو الماء لأنه أساس الحياة، وبدونه فإنه لا حياة لبشر ولا حيوان ولا شجر ولا زواحف .
2. الكلأ والطعام: أما الكلأ فهو للماشية وهي عماد حياة الإنسان في العصر القديم بعد أن تمكن من تدجينها ، وأما الطعام فيتمثل بالالتقاط والصيد والذي لا بد أنه كان وافراً في تلك البيئة.
3. أن التصحّر لم يكن مهيمناً على كل البادية أو الأجزاء الشرقية من الأردن، وكما قالت البعثة كانت تتوفر المياه التي لا بد وكانت على شكل تجمعاتها في أحواض طبيعية وفي تجاويف صخرية، وقيعان (مفردها قاع)، وينابيع وسيول من النمط الذي ألفناه في الأردن. وهو أن الماء يجري في الوادي في فصلي الشتاء والربيع بسبب ماكان من غزارة الأمطار، ثم يغور وسط الحصا والتربة الرملية في ذات المجرى، ولا يحتاج الإنسان لاستخراجه أكثر من الحفر لقدم أو بضعة أقدام ليجد الماء يسيل في الرمال أو تحت الحصى. وهذا أمر خبرته بنفسي ويعرفه من عرف البيئة الاردنية .
4. وفرة الإنتاج الكافية للحياة والتكاثر والتجوال في منطقة محددة لعدة قرون بسبب توفر أساسيات الحياة في الصراع من أجل البقاء، ومن هنا فإننا، وببساطة نتخيل وجود الحيوانات البرية كمادة رئيسية للصيد، والأليفة كمادة لاستمرار العيش ، وأيضاً الأشجار والثمار والأعشاب.
لم تقتصر مثل هذه الحجارة التي كانت أدوات الإنسان في العصر الحجري، أقول لم تقتصر على البادية الشرقية، بل وإن الرحالة الإنجليزي داوتي C. Daughty قد وجد مثل هذه الحجارة في جبال الشراة التي تمتد من وادي الحسا إلى جنوب رم وحسمى وسرغ (أي المدورة الحالية).
5. أدى هذا إلى نمط من شبه الاستقرار أو التجوال المقيّ?Zد في مناطق البادية الأردنية بسبب وفرة أساسات الحياة وضوراتها بمفاهيمهم في تلك العصور الغابرة وهي ثلاثة. الماء والغذاء والكلا والأمن والحماية.
ولكي تتحقق الحماية هذه، ولكي يزيد في الإنتاج نجد الجدران الحجرية ـ السلاسل، والأسوار البدائية المنتشرة في سائر أنحاء البادية كدليل أن الإنسان في العصور القديمة حاول تطوير الزراعة، وتوفير الحماية لمواشيه من الحيوانات المفترسة. وحماية نفسه من الغزاة من هنا وهناك.
6 . أن النتيجة التي يمكن لأي باحث أن يخرج بها هي أن البادية الأردنية التي يعتبرها البعض صحراء قاحلة كانت من تلك العصور الغابرة آهلة بالسكان، قبل اثني عشر ألف سنة أي منذ العصر النيوليثي Neolithic وما قبله في العصر الحجري ليس هذا فحسب بل أن مثل هذه الحجارة التي تدل على توفر سبل الحياة والماء والكلأ والغذاء في هذه البادية ظهرت في منطقة باير، ولدى تفحص الحجارة التي عثر عليها هناك وجد العلماء أنها تعود إلى ما يزيد على أربعمائة ألف سنة. كان الإنسان في هذه البقاع التي تعتبر لدى البعض أنها صحراء قاحلة.
إن مثل هذه الآثار، وهذه الأحجار القديمة جعلت المستر فيلد (جامعة أكسفورد المشار إليه أعلاه) في تقريره إياه يقول: "أعتقد أن شمالي بادية العرب تقع على إحدى الخطوط الرئيسية للهجرة بين الشرق والغرب، وأن مواطن ما قبل التاريخ تمتد من شمالي شرقي البحر الاحمر إلى الصين"( والاردن مشمول بهذا النص ) .
قد لايكون من المصادقة الاستدلال بما نشره المستر أولمستد في كتابه تاريخ فلسطين وسوريا، 1931م، ص28. Olmstead: History of Palestine and Syria, 1931, P.28.
إذ يقول: "إن بقايا أبنية ما قبل التاريخ الواقعة على مقربة من عمان تدل على درجة الحضارة في تلك العصور العريقة في القدم. بل إنه يظهر من هندستها ما بلغ إليه القدماء من فن التحصين. إذ أن مداخل تكل الأبنية قد شيّدت بشكل يجعل الكتف الأيمن للعدو المهاجم مكشوفاً، وهو الكتف الذي لا يقبعه ترس المحارب، أقول يجعله عرضة لسلاح المدافعين"
6. ومع الاستقرار وتوفر سبل الحياة أدى ذلك إلى ما يمكن اعتباره ازدهاراً بمفهوم ذلك الإنسان القديم، وتوسّ?Zعت حاجاته، واتصالاته في الأمر نفسه وفي الوقت نفسه ، فظهرت بذلك مفاهيم تبادل البضاعة مع المجموعات الأخرى حسبما تقتضيه الحاجة بدل القتال والدماء. وصارت الأردن معبراً للقوافل التجارية بين الحاجة لمنتوجات اليمن والشرق من جهة ، وحاجات الغرب وأمواله من جهة اخرى . مما زاد الازدهار والقرى والسكان إلى درجة حيث ذكرها الله سبحانه في القرآن الكريم : " ل?Zق?Zدْ ك?Zان?Z لِس?Zب?Zإٍ فِي م?Zسْك?Zنِهِمْ آ?Zي?Zةٌ ج?Zنّ?Zت?Zانِ ع?Zنْ ي?Zمِينٍ و?Zشِم?Zالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ ر?Zبِّكُمْ و?Zاشْكُرُوا ل?Zهُ ب?Zلْد?Zةٌ ط?Zيِّب?Zةٌ و?Zر?Zبٌّ غ?Zفُورٌ (15) ف?Zأ?Zعْر?Zضُوا ف?Zأ?Zرْس?Zلْن?Zا ع?Zل?Zيْهِمْ س?Zيْل?Z الْع?Zرِمِ و?Zب?Zدّ?Zلْن?Zاهُمْ بِج?Zنّ?Zت?Zيْهِمْ ج?Zنّ?Zت?Zيْنِ ذ?Zو?Zات?Zيْ أُكُلٍ خ?Zمْطٍ و?Zأ?Zثْلٍ و?Zش?Zيْءٍ مِنْ سِدْرٍ ق?Zلِيلٍ (16) ذ?Zلِك?Z ج?Zز?Zيْن?Zاهُمْ بِم?Zا ك?Zف?Zرُوا و?Zه?Zلْ نُج?Zازِي إِلّ?Zا الْك?Zفُور?Z (17) و?Zج?Zع?Zلْن?Zا ب?Zيْن?Zهُمْ و?Zب?Zيْن?Z الْقُر?Zى الّ?Zتِي ب?Zار?Zكْن?Zا فِيه?Zا قُرًى ظ?Zاهِر?Zةً و?Zق?Zدّ?Zرْن?Zا فِيه?Zا السّ?Zيْر?Z سِيرُوا فِيه?Zا ل?Zي?Zالِي?Z و?Zأ?Zيّ?Zامًا آ?Zمِنِين?Z (18) ف?Zق?Zالُوا ر?Zبّ?Zن?Zا ب?Zاعِدْ ب?Zيْن?Z أ?Zسْف?Zارِن?Zا و?Zظ?Zل?Zمُوا أ?Zنْفُس?Zهُمْ ف?Zج?Zع?Zلْن?Zاهُمْ أ?Zح?Zادِيث?Z و?Zم?Zزّ?Zقْن?Zاهُمْ كُلّ?Z مُم?Zزّ?Zقٍ إِنّ?Z فِي ذ?Zلِك?Z ل?Zآ?Zي?Zاتٍ لِكُلِّ ص?Zبّ?Zارٍ ش?Zكُورٍ (19) و?Zل?Zق?Zدْ ص?Zدّ?Zق?Z ع?Zل?Zيْهِمْ إِبْلِيسُ ظ?Zنّ?Zهُ ف?Zاتّ?Zب?Zعُوهُ إِلّ?Zا ف?Zرِيقًا مِن?Z الْمُؤْمِنِين?Z (20) و?Zم?Zا ك?Zان?Z ل?Zهُ ع?Zل?Zيْهِمْ مِنْ سُلْط?Zانٍ إِلّ?Zا لِن?Zعْل?Zم?Z م?Zنْ يُؤْمِنُ بِالْآ?Zخِر?Zةِ مِمّ?Zنْ هُو?Z مِنْه?Zا فِي ش?Zكٍّ و?Zر?Zبُّك?Z ع?Zل?Zى كُلِّ ش?Zيْءٍ ح?Zفِيظٌ (21" [سبأ:15-21].
وتعني هذه الآيات الكريمة باختصار أن الله سبحانه جعل ما بين مملكة سبأ اليمنية في جنوب جزيرة العرب , وقرى بلاد الشام ومنها قرى الأردن في بلاد الهلال الخصيب شمال جزيرة العرب , طريقاً آمناً ليلاً نهاراً، يتوفر الماء والشجر والظل الظليل والهواء العليل على طولها , يقيلون (ظهراً) في قرية، ويبيتون (ليلاً) في قريةاخرى تليها, فلا يحتاجون إلى حمل الماء والطعام لتوفره بين الظهيرة والعشاء، وكانوا يسيرون للتجارة عبر هذه القرى، ولهم على هذه الحال من تيسير الأمور من اليمن إلى الشام. لا يروّعهم وحش الفلاة، ولا قطاع الطرق، لأن كلمة آمنين تعني الأمن هنا على إطلاقه.
ولكنهم طلبوا الله سبحانه أن يباعد بين أسفارهم، وأن يجعلها مفازات ليتطاولوا على الفقراء بحمل الماء والزاد وركوب الرواحل. وبذلك بطروا النعمة، واستحقُّوا عليها النقمة , فظلموا أنفسهم بالكفر والبطر، فصب عليهم ربك سوط عذابه ومزّقهم شر ممزق , إذ فرّقهم في البلاد، فصاروا أحاديث للناس عبر التاريخ. وهذه نتيجة كل من يقابل النعم بالمعاصي عبر التاريخ وفي كل الامم .
وبالدعوة بمباعدة الأسفار ذهبت قرى كاملة بالهلاك، وتحوّ?Zلت إلى مراكز طرد، فتحرك السكان في هجرة إلى حيث كانت سبل الأمن والحياة. جنوباً إلى الحجاز أو شمالاً إلى سوريا أو غرباً إلى فلسطين ومصر أو يمنة ويسرة في الديار الأردنية. فالإنسان بطبعه دائم البحث عن البقاء والحياة وامن والطعام .
تحولت بعض القرى إلى أماكن دارسة وأصبحت عرضة عبر القرون والعصور إلى السواقي والرمال وهدم الجدران والبنيان، فمنها ما صار في بطن الأرض تدل عليه كومة أو أكمة من التراب، أو طرف سور أو جدار, ومنها ما صار خراباً وموئلاً للبوم والافاعي والجراذين والوحوش البرية. وساد التصحّر والصحراء بدل المطر والخضراء، وهيمن الخوف بدل الأمن. واندثر السكان بين موت وهجرة وتناقص في التكاثر أو بحث عن مواضع وديار أخرى.
وعن هذا يعبّر المستر لانكستر هارونج مفتش (إنجليزي) مفتش آثار شرق الأردن فيما بين 1936-1956 وترجمه سليمان موسى وعنوانه الإنجليزي: The Antiquities of Jordan, by G. Lankester Harding, Bwkhshed by Lutterwexth press, London, 1967.
يقول المستر هارونج "وهناك مئات من المواقع الأثرية القديمة، التي لم يرد ذكرها في الكتاب، ولكنها من نوع الأماكن التي نردها إلى عالم الآثار، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى معظمها، حيث لا يوجد ظاهراً للعيان في كثير منها سوى القليل من الشقف الفخارية"، ص11 الطبعة الثانية، 1971.
7. إذن لم تكن الأردن أرضاً قاحلة بالطبيعة، بل إنها مثلما هو حال البلدان الأخرى مرّت بفترة من التصحّر الذي أتى على الأخضر واليابس، وأدى إلى طرد السكان أو القضاء عليهم.
ثانياً: الأمراض الفتاكة: إن الأردن تعرض عبر تاريخه إلى أمراض فتاكة منها من سجّلته الذاكرة وأخرى لم نعثر له على تدوين . كان أكبرها وأخطرها طاعون عمواس في عام 13 للهجرة 636م، الذي أودى بحياة أكثر من ثلاثة ملايين من أهل الأردن، فضلاً عن نسبة عالية من جيش الفتح الإسلامي، وكان من ضحاياه: أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وضرار بن الأوز الكندي رضي الله عنه وأضرحتهم في غور أبي عبيدة/ الغور الأوسط بالأردن. كما أودى بحياة معاذ بن جبل الذي يرقد في الشونة الشمالية من غور الأردن وعدد آخر من الصحابة الكرام. حيث سنأتي على تفاصيله إن شاء الله عند دور الأردن وعشائره في الفتوحات والغزوات الإسلامية.
وقد سجّل الطاعون والكوليرا، لها في سفر التاريخ الأردني محطّات أتت على الملايين، وقضت على قرى بأكملها.ولا بد ان هناك من الطاعون والامراض الفتاكة مر بالاردن عبر التاريخ مما لم تسجله الذاكرة والاثار , ولا بد ان سنوات عجاف متتالية مرت بالبلاد فهجرها من بقي حيا ثم عاد الاولاد والاحفاد في وقت لاحق الى حيث ديار الاباء والاجداد وهي الاردن
ثالثاً: الكوارث الطبيعية: حيث أن طبيعة وجود الأردن على حافة الحفرة الانهدامية جعلها عرضة للهزّات والبراكين، ولا زالت الحرّة في البادية الشمالية دليلا واضحا على تفجر البراكين في تلك المنطقة، حيث، يمكن الاستدلال بسهولة على أفواه البراكين الصغيرة النائمة منها والدارسة . كما أن الحجارة السوداء التي أساسها مقذوفات الحمم البركانية تغطي مساحات واسعة وشاسعة من شمال شرق الأردن، وتسمى منطقة الحرة أو منطقة الحمم البركانية Volcanic Lava او منطقة الصفاوي .
وقد دوّن القرآن الكريم عدة حالات أباد فيها الأقوام الكافر في الأردن، وهي قوم ثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب عليهم الصلاة والسلام جميعاً. ويمكن أن نخلص بسهولة وببساطة إلى هلاك ملايين البشر بسبب تكذيبهم لرسالات الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم فضلا عما ذكرناه من الاسباب الاخرى السابقة من الامراض الوبائية والتصحر .
يشير القرآن الكريم إلى القضاء على الكفار من ثمود الذين كفروا بسيدنا صالح (نبي عربي) وبرسالته وعقروا الناقة، أنه سبحانه أماتهم في الصيحة كل في بيته. ولم ينج منهم سوى سيدنا صالح ومن أمن معه. (63) و?Zي?Zا ق?Zوْمِ ه?Zذِهِ ن?Zاق?Zةُ اللّ?Zهِ ل?Zكُمْ آ?Zي?Zةً ف?Zذ?Zرُوه?Zا ت?Zأْكُلْ فِي أ?Zرْضِ اللّ?Zهِ و?Zل?Zا ت?Zم?Zسُّوه?Zا بِسُوءٍ ف?Zي?Zأْخُذ?Zكُمْ ع?Zذ?Zابٌ ق?Zرِيبٌ (64) ف?Zع?Zق?Zرُوه?Zا ف?Zق?Zال?Z ت?Zم?Zتّ?Zعُوا فِي د?Zارِكُمْ ث?Zل?Zاث?Zة?Z أ?Zيّ?Zامٍ ذ?Zلِك?Z و?Zعْدٌ غ?Zيْرُ م?Zكْذُوبٍ (65) ف?Zل?Zمّ?Zا ج?Zاء?Z أ?Zمْرُن?Zا ن?Zجّ?Zيْن?Zا ص?Zالِحًا و?Zالّ?Zذِين?Z آ?Zم?Zنُوا م?Zع?Zهُ بِر?Zحْم?Zةٍ مِنّ?Zا و?Zمِنْ خِزْيِ ي?Zوْمِئِذٍ إِنّ?Z ر?Zبّ?Zك?Z هُو?Z الْق?Zوِيُّ الْع?Zزِيزُ (66) و?Zأ?Zخ?Zذ?Z الّ?Zذِين?Z ظ?Zل?Zمُوا الصّ?Zيْح?Zةُ ف?Zأ?Zصْب?Zحُوا فِي دِي?Zارِهِمْ ج?Zاثِمِين?Z (67) ك?Zأ?Zنْ ل?Zمْ ي?Zغْن?Zوْا فِيه?Zا أ?Zل?Zا إِنّ?Z ث?Zمُود?Z ك?Zف?Zرُوا ر?Zبّ?Zهُمْ أ?Zل?Zا بُعْدًا لِث?Zمُود?Z (68) [هود:64-68].
أما قوم لوط فقد أبادهم الله في ممالكهم / المؤتفكات وهي القرى التي كان أهلها يمارسون الفحشاء التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين. أقول جعل عاليها سافلها وقلبها رأساً على عقب فأبادهم جميعاً، وسلمت المدن والقرى المجاورة التي كانت لا تمارس هذه الخبائث. وقد سجّل القرآن الكريم تفاصيل مجيء الملائكة الكرام إلى سيدنا إبراهيم في أرض كنعان آنذاك (فلسطين). وإعلامه عن أمر الله بإنزال العقوبة بقوم لوط، ثم دخولهم منزل لوط، وخوفه عليهم واصرار قومه على ممارسة الفحشاء معهم. ولكن فرج الله جاء في اللحظات الحرجة , عندما كان لوط لازال يعتقد أن ضيوفه بشرا ولم يخطر بباله انهم ملائكة ، أخبره هؤلاء الضيوف أنهم رسل الله لإنهاء قومه (و?Zل?Zمّ?Zا ج?Zاء?Zتْ رُسُلُن?Zا لُوطًا سِيء?Z بِهِمْ و?Zض?Zاق?Z بِهِمْ ذ?Zرْعًا و?Zق?Zال?Z ه?Zذ?Zا ي?Zوْمٌ ع?Zصِيبٌ (77) و?Zج?Zاء?Zهُ ق?Zوْمُهُ يُهْر?Zعُون?Z إِل?Zيْهِ و?Zمِنْ ق?Zبْلُ ك?Zانُوا ي?Zعْم?Zلُون?Z السّ?Zيِّئ?Zاتِ ق?Zال?Z ي?Zا ق?Zوْمِ ه?Zؤُل?Zاءِ ب?Zن?Zاتِي هُنّ?Z أ?Zطْه?Zرُ ل?Zكُمْ ف?Zاتّ?Zقُوا اللّ?Zه?Z و?Zل?Zا تُخْزُونِ فِي ض?Zيْفِي أ?Zل?Zيْس?Z مِنْكُمْ ر?Zجُلٌ ر?Zشِيدٌ (78) ق?Zالُوا ل?Zق?Zدْ ع?Zلِمْت?Z م?Zا ل?Zن?Zا فِي ب?Zن?Zاتِك?Z مِنْ ح?Zقٍّ و?Zإِنّ?Zك?Z ل?Zت?Zعْل?Zمُ م?Zا نُرِيدُ (79) ق?Zال?Z ل?Zوْ أ?Zنّ?Z لِي بِكُمْ قُوّ?Zةً أ?Zوْ آ?Zوِي إِل?Zى رُكْنٍ ش?Zدِيدٍ (80) ق?Zالُوا ي?Zا لُوطُ إِنّ?Zا رُسُلُ ر?Zبِّك?Z ل?Zنْ ي?Zصِلُوا إِل?Zيْك?Z ف?Zأ?Zسْرِ بِأ?Zهْلِك?Z بِقِطْعٍ مِن?Z اللّ?Zيْلِ و?Zل?Zا ي?Zلْت?Zفِتْ مِنْكُمْ أ?Zح?Zدٌ إِلّ?Zا امْر?Zأ?Zت?Zك?Z إِنّ?Zهُ مُصِيبُه?Zا م?Zا أ?Zص?Zاب?Zهُمْ إِنّ?Z م?Zوْعِد?Zهُمُ الصُّبْحُ أ?Zل?Zيْس?Z الصُّبْحُ بِق?Zرِيبٍ (81) ف?Zل?Zمّ?Zا ج?Zاء?Z أ?Zمْرُن?Zا ج?Zع?Zلْن?Zا ع?Zالِي?Zه?Zا س?Zافِل?Zه?Zا و?Zأ?Zمْط?Zرْن?Zا ع?Zل?Zيْه?Zا حِج?Zار?Zةً مِنْ سِجِّيلٍ م?Zنْضُودٍ (82) مُس?Zوّ?Zم?Zةً عِنْد?Z ر?Zبِّك?Z و?Zم?Zا هِي?Z مِن?Z الظّ?Zالِمِين?Z بِب?Zعِيدٍ (83) [هود:77 -83].
وبذلك تحولت أرض قرى المؤتفكات من جنات خضراء تجري من تحتها الأنهار كما وصفها العهد القديم إلى بحر مالح لا حياة فيه، وإلى شواطئ وسفوح مسوّدة بسبب ما أصاب المكان من غضب الله سبحانه، واندثر جزء كامل من الشعب في تلك الديار، بسبب كفرهم وعدم توقفهم عن ممارسة الفحشاء. نعوذ بالله منهم.
وقد أصاب الموت، وجاءت الإبادة على قوم شعيب أيضاً في موقعين الأول في مدين التي كانت تمتد من الكرك حتى محاذاة أرض تبوك على ساحل البحر الأحمر. وعندما هلكوا نجا والذين آمنوا معه , وانضموا إلى فرع آخر من قبيلة جذام وهم أصحاب الأيكة فيما يسمى الآن في العصر الحديث، وادي السلط، او وادي شعيب حيث قبر سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام. وهو نبي عربي ويسمى خطيب الأنبياء لفصاحته وبلاغته.
في مدين التي سمي المكان نسبة الى هذا الفرع من قبيلة جذام العربية الاردنية , أصيب قوم شعيب هنا بالرجفة وهي الهزة العنيفة التي يبقي الناس جاثمسن في ديارهم حيث انها من القموة بحيث لم يتمكن منهم احد من النجاة والهرب بروحه . اما في وادي الأيكة فقد أصيبوا باكثر من عقاب : اصيبوا بالرجفةالتي اصابت ابناء عمهم المديانيين ( مدين ) بالرجفة وزاد اله غضبه عليهم بعذاب يوم الظلّة وقد فصّلنا ذلك في جزء من هذه السلسلة وهو الجزء الخاص بالتاريخ السياسي للعشائر الأردنية (من قبل الخروج حتى الآن)
. Political History of the Jordanian Tribes (From before the
Exculus up to now)
يذكر القرآن قصّة سيدنا شعيب مع قومه قبيلة جذام ومن لف لفها من القبائل الاردنية الاخرى في مواقع كثيرة من القرآن الكريم تتلخص أنهم كانوا على طريق القوافل التجارية يبيعون ويشترون ويتبادلون السلع مع هذه القوافل القادمة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس وأنهم كانوا ينقصون المكيال فيما يتم قياسه بالكيل والمكيال : كالحبوب والإنتاج الحيواني مثلاً، وينقصون الميزان فيما كان يحتاج إلى ميزان ووزن فيأخذون زيادة من الآخرين، ويعطونهم نقصاً، فهم يخسرون الميزان إن كالوهم أو وزنوهم. قال تعالى في وصف حالهم : ( و?Zإِل?Zى م?Zدْي?Zن?Z أ?Zخ?Zاهُمْ شُع?Zيْبًا ق?Zال?Z ي?Zا ق?Zوْمِ اعْبُدُوا اللّ?Zه?Z م?Zا ل?Zكُمْ مِنْ إِل?Zهٍ غ?Zيْرُهُ و?Zل?Zا ت?Zنْقُصُوا الْمِكْي?Zال?Z و?Zالْمِيز?Zان?Z إِنِّي أ?Zر?Zاكُمْ بِخ?Zيْرٍ و?Zإِنِّي أ?Zخ?Zافُ ع?Zل?Zيْكُمْ ع?Zذ?Zاب?Z ي?Zوْمٍ مُحِيطٍ (84) و?Zي?Zا ق?Zوْمِ أ?Zوْفُوا الْمِكْي?Zال?Z و?Zالْمِيز?Zان?Z بِالْقِسْطِ و?Zل?Zا ت?Zبْخ?Zسُوا النّ?Zاس?Z أ?Zشْي?Zاء?Zهُمْ و?Zل?Zا ت?Zعْث?Zوْا فِي الْأ?Zرْضِ مُفْسِدِين?Z (85) ب?Zقِيّ?Zةُ اللّ?Zهِ خ?Zيْرٌ ل?Zكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين?Z و?Zم?Zا أ?Zن?Zا ع?Zل?Zيْكُمْ بِح?Zفِيظٍ (86) ق?Zالُوا ي?Zا شُع?Zيْبُ أ?Zص?Zل?Zاتُك?Z ت?Zأْمُرُك?Z أ?Zنْ ن?Zتْرُك?Z م?Zا ي?Zعْبُدُ آ?Zب?Zاؤُن?Zا أ?Zوْ أ?Zنْ ن?Zفْع?Zل?Z فِي أ?Zمْو?Zالِن?Zا م?Zا ن?Zش?Zاءُ إِنّ?Zك?Z ل?Zأ?Zنْت?Z الْح?Zلِيمُ الرّ?Zشِيدُ (87) ق?Zال?Z ي?Zا ق?Zوْمِ أ?Zر?Zأ?Zيْتُمْ إِنْ كُنْتُ ع?Zل?Zى ب?Zيِّن?Zةٍ مِنْ ر?Zبِّي و?Zر?Zز?Zق?Zنِي مِنْهُ رِزْقًا ح?Zس?Zنًا و?Zم?Zا أُرِيدُ أ?Zنْ أُخ?Zالِف?Zكُمْ إِل?Zى م?Zا أ?Zنْه?Zاكُمْ ع?Zنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلّ?Zا الْإِصْل?Zاح?Z م?Zا اسْت?Zط?Zعْتُ و?Zم?Zا ت?Zوْفِيقِي إِلّ?Zا بِاللّ?Zهِ ع?Zل?Zيْهِ ت?Zو?Zكّ?Zلْتُ و?Zإِل?Zيْهِ أُنِيبُ (88 [هود:84-88].
ثم يقول في سورة هود ايضا : (ق?Zالُوا ي?Zا شُع?Zيْبُ م?Zا ن?Zفْق?Zهُ ك?Zثِيرًا مِمّ?Zا ت?Zقُولُ و?Zإِنّ?Zا ل?Zن?Zر?Zاك?Z فِين?Zا ض?Zعِيفًا و?Zل?Zوْل?Zا ر?Zهْطُك?Z ل?Zر?Zج?Zمْن?Zاك?Z و?Zم?Zا أ?Zنْت?Z ع?Zل?Zيْن?Zا بِع?Zزِيزٍ (91) ق?Zال?Z ي?Zا ق?Zوْمِ أ?Zر?Zهْطِي أ?Zع?Zزُّ ع?Zل?Zيْكُمْ مِن?Z اللّ?Zهِ و?Zاتّ?Zخ?Zذْتُمُوهُ و?Zر?Zاء?Zكُمْ ظِهْرِيًّا إِنّ?Z ر?Zبِّي بِم?Zا ت?Zعْم?Zلُون?Z مُحِيطٌ (92) و?Zي?Zا ق?Zوْمِ اعْم?Zلُوا ع?Zل?Zى م?Zك?Zان?Zتِكُمْ إِنِّي ع?Zامِلٌ س?Zوْف?Z ت?Zعْل?Zمُون?Z م?Zنْ ي?Zأْتِيهِ ع?Zذ?Zابٌ يُخْزِيهِ و?Zم?Zنْ هُو?Z ك?Zاذِبٌ و?Zارْت?Zقِبُوا إِنِّي م?Zع?Zكُمْ ر?Zقِيبٌ (93) و?Zل?Zمّ?Zا ج?Zاء?Z أ?Zمْرُن?Zا ن?Zجّ?Zيْن?Zا شُع?Zيْبًا و?Zالّ?Zذِين?Z آ?Zم?Zنُوا م?Zع?Zهُ بِر?Zحْم?Zةٍ مِنّ?Zا و?Zأ?Zخ?Zذ?Zتِ الّ?Zذِين?Z ظ?Zل?Zمُوا الصّ?Zيْح?Zةُ ف?Zأ?Zصْب?Zحُوا فِي دِي?Zارِهِمْ ج?Zاثِمِين?Z (94) ك?Zأ?Zنْ ل?Zمْ ي?Zغْن?Zوْا فِيه?Zا أ?Zل?Zا بُعْدًا لِم?Zدْي?Zن?Z ك?Zم?Zا ب?Zعِد?Zتْ ث?Zمُودُ (95) [هود:91-94].
وقوله سبحانه : ((90) ف?Zأ?Zخ?Zذ?Zتْهُمُ الرّ?Zجْف?Zةُ ف?Zأ?Zصْب?Zحُوا فِي د?Zارِهِمْ ج?Zاثِمِين?Z (91) الّ?Zذِين?Z ك?Zذّ?Zبُوا شُع?Zيْبًا ك?Zأ?Zنْ ل?Zمْ ي?Zغْن?Zوْا فِيه?Zا الّ?Zذِين?Z ك?Zذّ?Zبُوا شُع?Zيْبًا ك?Zانُوا هُمُ الْخ?Zاسِرِين?Z (92) ف?Zت?Zو?Zلّ?Zى ع?Zنْهُمْ و?Zق?Zال?Z ي?Zا ق?Zوْمِ ل?Zق?Zدْ أ?Zبْل?Zغْتُكُمْ رِس?Zال?Zاتِ ر?Zبِّي و?Zن?Zص?Zحْتُ ل?Zكُمْ ف?Zك?Zيْف?Z آ?Zس?Zى ع?Zل?Zى ق?Zوْمٍ ك?Zافِرِين?Z (93) ) [الأعراف:91-92].
أما أهل الأيكة من قوم شعيب فقد ذكرهم القرآن الكريم في سورة الشعراء وهم نمط مشابه أو شبه مطابق لأهل مدين في الموقع على طريق القوافل، والعادات واللغة والتقاليد في بخس الناس أشياءهم، وتطفيف الميزان، وإنقاص الكيل وقطع الطريق، إذ يقول سبحانه في سورة الشعراء:
(ك?Zذّ?Zب?Z أ?Zصْح?Zابُ الْأ?Zيْك?Zةِ الْمُرْس?Zلِين?Z (176) إِذْ ق?Zال?Z ل?Zهُمْ شُع?Zيْبٌ أ?Zل?Zا ت?Zتّ?Zقُون?Z (177) إِنِّي ل?Zكُمْ ر?Zسُولٌ أ?Zمِينٌ (178) ف?Zاتّ?Zقُوا اللّ?Zه?Z و?Zأ?Zطِيعُونِ (179) و?Zم?Zا أ?Zسْأ?Zلُكُمْ ع?Zل?Zيْهِ مِنْ أ?Zجْرٍ إِنْ أ?Zجْرِي?Z إِلّ?Zا ع?Zل?Zى ر?Zبِّ الْع?Zال?Zمِين?Z (180) أ?Zوْفُوا الْك?Zيْل?Z و?Zل?Zا ت?Zكُونُوا مِن?Z الْمُخْسِرِين?Z (181) و?Zزِنُوا بِالْقِسْط?Zاسِ الْمُسْت?Zقِيمِ (182) و?Zل?Zا ت?Zبْخ?Zسُوا النّ?Zاس?Z أ?Zشْي?Zاء?Zهُمْ و?Zل?Zا ت?Zعْث?Zوْا فِي الْأ?Zرْضِ مُفْسِدِين?Z (183) [الشعراء:176-178].
ثم صار الجدال بينه وبينهم وتحدّوه أن يسقط عليهم كِس?Zفاً من السماء (ق?Zالُوا إِنّ?Zم?Zا أ?Zنْت?Z مِن?Z الْمُس?Zحّ?Zرِين?Z (185) و?Zم?Zا أ?Zنْت?Z إِلّ?Zا ب?Zش?Zرٌ مِثْلُن?Zا و?Zإِنْ ن?Zظُنُّك?Z ل?Zمِن?Z الْك?Zاذِبِين?Z (186) ف?Zأ?Zسْقِطْ ع?Zل?Zيْن?Zا كِس?Zفًا مِن?Z السّ?Zم?Zاءِ إِنْ كُنْت?Z مِن?Z الصّ?Zادِقِين?Z (187) ق?Zال?Z ر?Zبِّي أ?Zعْل?Zمُ بِم?Zا ت?Zعْم?Zلُون?Z (188) ف?Zك?Zذّ?Zبُوهُ ف?Zأ?Zخ?Zذ?Zهُمْ ع?Zذ?Zابُ ي?Zوْمِ الظُّلّ?Zةِ إِنّ?Zهُ ك?Zان?Z ع?Zذ?Zاب?Z ي?Zوْمٍ ع?Zظِيمٍ (189)) [الشعراء:185-189].
وبذلك نجد إبادة قوم كاملين من أهل الأيكة لم ينج منهم إلا من امن وما امن الا قليل مقارنة باعدادهم التي تصل الى مسنوى تعريفهم بكلمة قوم والتي تعني فيما تعنيه ايضا : شعب كامل ، أما من كفر وهم الأكثرية في حينه فقد هلكوا جميعاً (ڈ ڈ ژ ژ). وهذا برهان من القرآن الكريم على أن الأردن كان في العصور الغابرة ممراً لطرق التجارة والحضارة، وأن من كفروا قد أبيدوا عن بكرة أبيهم جزاء كفرهم.
ان النصوص القرانية الكريمة التي ذكرناها بشيء من التوسع انما تبرهن انه كانت هناك شعوب على هذه الارض وان الله ارسل اليهم الانبياء لهدايتهمك فكفروا فانزل الله عليهم سخطه واما من امن فقد نجا ,ولا شك ان الكثير من هذه القبائل الموجودة هم منبقيا الفئات التي امنت بالله من قبل فانجاها الله من عذابه
فمن التجني اذن أن يقال أن الأردن بلاد لم تكن فيها ذات يوم حضارة أو شعب أو ثقافة اة اقوام , وقد نزل بها من الأنبياء الكرام: لوط، شعيب، ويحيى، وأيوب، وتربى فيها ولجأ إليها المسيح عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وعبرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مرتان في تجارة قريش إلى الشام. وفيها أضرحة عدد من الأنبياء الكرام. وتربى فيها موسى عليه السلام عشر سنوات عند شعيب الثاني ( جيثرو ) حفيد شعيب الأول، ثم عاد إليها بقومه , ولكن الله سبحانه لم يكتب له الوصول إلى أرض كنعان (فلسطين). ويبقى قبر هارون شاهداً على الشيء الذي أصاب بني إسرائيل عقاباً من الله سبحانه، وعلى أهمية موقع الأردن عبر التاريخ.
رابعاً: الحروب الداخلية والخارجية: الحروب والصراعات جزء من طبيعة العلاقات بين المجموعات البشرية والشعوب، وتقع لأسباب متعددة، قد تبدو مصيرية في حينه ثم تصبح تافهة في أعين المؤرخين أو الأجيال الذين اكتووا بنيران نتائجها فيما بعد.
وقد كان الأردن مسرحاً لمعارك قتالية ضاربة سواء من الحملات العسكرية التي شنّ?Zها البابليون والآشوريون من العراق، أو تلك التي قام به فراعنة مصر وملوكها لتأمين جبهتهم الشمالية الشرقية التي تربطهم بالأردن من خلال أيلة/ العقبة، وعصيون جابر/ إيلات او من الهجرات القبلية من جزيرة العرب
كما أن الفرس ثم اليونان ثم الرومان شنّوا حملات أسموها تأديبية لسكان الأردن أو المجموعات أو إمارات أو ممالك قامت على أرض هذه البلاد (الأردن) في تلك الازمنة الغابرة . ومن الأمثلة على ذلك أن الرومان قتلوا عام 106م عشرة آلاف من الأنباط دفعة واحدة ألقوا بهم من رؤوس الجبال إلى بقعة الأودية من رجال ونساء وأطفال وعجزة ويفتخرون بذلك في تاريخهم الاسود المكلل بالعار .
ومن الأمثلة على شنّ الحروب الخارجية على الأردن، ما ذكره العهد القديم حول هجوم الجيش الإسرائيلي بعد خروجه من التيه ودخوله الأردن وإبادته الكاملة لشعب مملكة حشبون والبالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة , هذا فضلاً عن الغزوات التي شنها ملوك بني إسرائيل من أرض كنعان في محاولاتهم المتعاقبة لاحتلال الأردن وتأمين جبهتهم الشرقية من القوى المعادية.
على أية حال فإن ما يشتمله العهد القديم من معلومات تلقي الضوء على سكان الأردن وأحوال البلاد في العصر البرونزي الأوسط وعلى ازدهار البلاد واكتظاظها بالسكان
يقول العهد القديم أن عشائر الأردن كانت في الفترة ما بين 2000-1300 ق.م من العمالقة الذين يتألفون من عشائر عديدة منهم الأيميون في مؤاب والروفائيون والزمزميون في عمون وكانوا من العشائر العربية التي نزحت أو هاجرت من جزيرة العرب. وكان في الأردن عدة ممالك عربية مثل مؤاب الجارة الشمالية لأدوم، والممتدة (أي مؤاب) من وادي الحسا إلى وادب الموجب، ثم مملكة أدوم الممتدة من نهر الحسا شمالاً إلى الحدود الجنوبية لأدوم المقاربة لوادي اليتم ورم. أما عمون فكانت تمتد من نهر الموجب إلى نهر الزرقاء.
كانت مملكتا مؤاب ومدين تنحدران من أصل واحد، وهما وأدوم ممالك عربية في الآن نفسه. وكانت هذه الشعوب العربية الأردنية تعيش حياة قبلية. ولكل قبيلة شيوخها وأمراؤها وشيخ المشايخ أو الملك الذي كان صاحب قرار نهائي في جميع شؤون إدارة مملكته/ أو دولته، كما كان يقود الجيش في المعارك ولا يختبيء وراء الاكمة او الجدران . وكانت اسماء مؤاب وادوم وحشبون وعمون وباشان والانباط هي اسماء القبائل الاردنية التي استقرت كل منها في منطقة ثم تطورت الى الاستقرار وتاسيس الممالك . وقد اطلقوا ساماءهم كل على المنطقة التي سكنوها واستقروا فيها .
وهنا لا بد من الإشارة إلى ما ذكره دكتور صهيوني اسمه نلسون جلوك في كتابه الجانب الآخر من الأردن، The Other Side of Jordan. اذ يقول : ان الأردن كانت بعد خروج بني إسرائيل، وعبورهم أرض الأردن بلاداً بلا سكان ولا أهل No Mans Land، وأن أهلها أو سكانها لم يكونوا سوى قبائل بدوية متوحشة ومتنقلة , وهو بذلك يناقض ماورد في العهد القديم كتابه المقدس
فاالدلائل التي يسوقها العد القديم تبيّن أعمار البلاد (الأردن) وازدهارها بالسكان والمدن والممالك والزراعة والطرق التي تخترقها طولاً وعرضاً منها طريق الملوك والطريق السلطان والتي وردت بهذا الاسم في العهد القديم , والطريق الصحراوي وطريق البرية الذي يخترق سلسلة الجبال من الشمال إلى الجنوب، فضلاً عن الطرق العرضية بين فينة وأخرى. وقد شرحنا ذلك مفصّ?Zلاً في كتابنا الأردن في كثب الرحالة والجغرافيين المسلمين حتى عام 1881- صدر عام 2007.
وإذا أردنا أن نتفحص ما ذكره المؤلف اليهودي أعلاه (نلسون جلوك) نجده يتحدث عن وجود حضارة واستقرار في الأردن خلال الفترة ما بين 1700-1250 ق.م، أي قبل الغزو الإسرائيلي لهذه الديار. وتجدر الإشارة أن مملكة عمون ومركزها ربة عمون (عمان الحالية) كانت فيما بين 1800-1300 ذات مدنية زراعية مزدهرة، وهذا يدحض كلام وراي العصبية الحاقد الذي أورده نلسون في كتابه أعلاه. وقد نشبت المعارك فيما بين الإسرائيليين وسيحون ملك مملكة (حبشون) الآمورية (عاصمتها حسبان)، حيث رفض مرور بني إسرائيل عبر مملكته فهزموه وأبادوا شعبه ودمّروا مملكته الفتية التي كانت تمتد من أرنون (الموجب) جنوباً إلى حدود مملكة عمون إلى يبوق (وادي الزرقاء). ويذكر العهد القديم , مدن ديبون (ذيبان) ومادبا، وحشبون في منطقة مجاورة لبعضها بعضاً وهذا وحده كافٍ كدليل على كثرة السكان وإعمار البلاد في تلك الفترة وتقارب المدن بسبب الازدحام السكاني . وقد جئنا على ذلك بالتفصيل في جزء: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية من هذا الكتاب باللغة الانجليزية .
أما الحروب الداخلية بين سكان البلاد الأردنية فقد أخذت أشكالاً عديدة. حيث كانت المعارك الطاحنة قد دارت رحاها بين عشائر الكفتاريين وأعدائهم وكلهم من أبناء البلاد، كما أن الأدوميين طردوا الحوريين سكان الجبال وحلّوا محلّهم، ثم حلّ الأنباط مكان الأدوميين.
ومن الحروب ما كان بين مملكة حشبون الامورية التي كان مركزها حسبان من جهة ومؤاب من جهة أخرى، حيث استطاع الملك سيحون ملك الآموريين من توسيع رقعة مملكته الى الجنوب على حساب المؤابيين , وتجاوز بحدوده إلى الجنوب من وادي الموجب، كما توسع شمالاً على حساب العمونيين لكنه فقد نفسه وأسرته ومملكته وعرشه وشعبه وأبيدوا جميعاً على أيدي الإسرائيليين كما سبق وأشرنا وماهو مفصل في كتاب العهد القديم
كانت الممالك الأردنية تتحارب معاً كل يريد التوسع على حساب الآخر، وكان هذا التوسع عادة طولياً، أي شمالاً نحو الجنوب، أو جنوباً نحو الشمال. ولكنهم كانوا يتكاتفون وقت الخطر في تحالف واحد أمام أي عدو خارجي , وهي العقلية الاردنية عبر العصور في انهمينسون عداواتهم امام الخطر الخارجي ,
بقيت هذه الثقافة لدى العشائر الأردنية إلى العصر الحديث عندما كانت تقف صفاً واحداً أمام أي عدو خارجي يتهدد أية عشيرة منهم ، وينسون خلافاتهم وحروبهم حتى يتخلّصوا من العدو القادم إليهم. ونتج عن ذلك وجود مبدأ أردني عشائري على شكل مثل بقي عبر الأجيال والقرون وهو: "أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب" حتى ولو كان ابن العم صديقا او عدوا فهم معا امام الخطر الخارجي او العدو الخارجي لان الجميع سيكونون في خطر .
واستمرت ثقافة الصراع الداخلي والحروب الداخلية المسلحة حتى انتهت بقيام الإدارة الرسمية في الأردن في مطلع القرن العشرين بعد اندحار الأتراك. وقد أخذت هذه الصراعات شكل الغزوات والحروب، وفصّلنا ذلك في كتابنا: القضاء عند العشائر الأردنية والذي كتبناه أصلاً بالإنجليزية تحت عنوان: Bedouin Justice, in Jordan 1921-1982، وقد صدر كتاباً باللغتين عن دار جرير عام 2006 بعنوان القضاء البدوي، Bedouin Justice في مجلّد واحد بوجهين ولغتين معاً. وقد قمت شخصياً بترجمته إلى العربية أصلاً.
وقد أدت هذه الحروب العشائرية في العصور الجاهلية والإسلامية والوسطى إلى قيام تحالفات عشائرية ساهمت في حماية القبائل وأفرادها. وبذلك تم تصنيف هذه العلاقات إلى نمطين: البنعمة وتعني التحالف، والأجناب أو الأجانيب الذين يرتبطون معاً بعداوة بينهم وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في كتابنا أعلاه باللغتين العربية والإنجليزية.
وإن ما تم العثور عليه من الرسوم والنقوش في وادي رم والطبيق وما تم العثور عليه من الخط العربي الشمالي في منطقة الصفاوي في البادية الشمالية الأردنية لدليل على ازدهار التجارة وكثافة القوافل وتحقق الأمن والطمأنينة لهؤلاء التجار. وأن البلاد كانت آهلة بالسكان. وتم العثور على الفأس اليدوي الذي تعود إلى العصر الباليوليتي ما بين 700.000 سنة-8000 ق.م، فضلاً عن العثور على مكاشط لتنظيف الجلود، وأسنان لعمل الثقوب والخروق في الجلود، وسكاكين حجرية صوانية للقطع. وكان التطور في هذه الأدوات بطيئاً وخفيفاً عبر 150 ألف سنة.
وفي نهاية هذا العصر الباليوليتي وفي كلدة وفي الطبيق في الزاوية الجنوبية الشرقية للأردن، بمحاذاة الحدود مع السعودية أقول تم العثور فيها على نقوش في بعض الصخور تمثل أشكالا للحيوانات التي كانت موجودة يومذاك، هذا فضلاً عن كتابات ثمودية (ثمود قوم صالح وكان مركزهم مدائن صالح) في صخر موجود بالطبيق فوق الرسوم الأولى. ومن هذه الخطوط الثمودية ما يعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، ولا زالت في حالة جيدة الى يومنا هذا مطلع القرن العشرين .
وبذلك نجد قطعة الصخر تروي لنا حكايات الأجيال والتجار والسكان والوطنوالحياة ونمطها والعلاقات البشرية بين الاردنيين داخليا وخارجيا , عبر حوالي سبعمائة ألف سنة قبل وبعد الميلاد. فالأحرف الثمودية لا زالت بيضاء، بينما تحولت رسوم الحيوانات القديمة إلى اللون الرمادي الغامق بسبب الظروف الطبيعية وتعرضها للشمس زمناً طويلاً أضعاف أضعاف ما تعرضت له الخطوط والكتابات الاخرى . وأن الرسوم سابقة للكتابة وأن الكتابة متأخرة زمناً عن الرسوم.
خامساً: القول بأن الأردن هي شرق فلسطين: أو فلسطين الشرقية Eastern Palestine. وقد ركّز كثير من الرحالة الأجانب الذين جاءوا إلى الأردن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين على القول أن الأردن هي شرق فلسطين. وهو اصطلاح يهودي تلمودي يتضمن مطالبة صهيونية في أن تكون الأردن من أرض الميعاد والأراضي المقدسة التي يدّ?Zعي اليهود حقهم الإلهي والتاريخي فيها.
وعلى سبيل المثال كتب كوندر كتابه في عام 1881 بعنوان The Survey of Eastern Palestine والذي قمت بترجمته إلى العربية تحت عنوان "أعمال المساحة في شرق الأردن". تحدث المؤلف في الكتاب عن المواقع الأثرية الاردنية القديمة. والكتاب أشبه ما يكون بالقاموس الجغرافي الذي يسرد أسماء الأماكن التي زارها الكاتب وكان برتبة رائد في المساحة التابعة للجيش البريطاني.
ورغم هذا العنوان الذي ينم عن المطامع اليهودية بالأردن، إلا أنه كتاب قيِّم جدّاً لأنه دوّن أماكن اندثرت الآن أمام العمران الحديث، وعيون ماء نضبت، وخرائب نُهبت، ورسم بعض الخرائط المفيدة.
وقد كرّ?Zس البريطانيون في البداية هذا المفهوم / اي ان الاردن هي فلسطين الشرقية او شرق فلسطين , وذكر ذلك العديد من الرحالة البريطانين , وصارت الأردن جزءاً من وعد بلفور لتكريسه وفلسطين وطناً قومياً لليهود باعتبارها فلسطين الشرقية ( او شرق فلسطين بدلا من شرق الاردن ) وتلك فلسطين الغربية، أو لنقل الضفة الفلسطينية الشرقية والضفة الفلسطينية الغربية، إلا أن الإنجليز تراجعوا عن ذلك وفصلوا الأردن عن حيثيات الوعد، وأسسوا فيه حكومة الشرق العربي عام 1921 التي تحولت فيما بعد إلى حكومة للشرق العربي ثم الى إمارة ثم إلى مملكة. وقد كان للحركة الوطنية الأردنية والمقررات الشعبية قبل تأسيس الإدارة في الأردن دوراً هاماً في إلغاء هذا النص. وتجدون تفاصيل شرح ذلك في وثيقة أم قيس المؤرخة في عام 1920 والتي نشرناها مشروحة في كتابنا "العشائر الأردنية" الجزء الثاني 2004فمن اراد التوسع فسيجد ضالته هناك ( منشورات المحتسب / عمان ) .
وعندما أصبحت فلسطين تحت إدارة المندوب السامي الصهيوني هيرتزل، صارت شرق الأردن تابعة له اداريا وسياسيا ، وصار يمثل المندوب السامي معتمد بريطاني وهو اليك كركبرايد الذي كتب ملحوظاته ومذكراته عن وجوده بالاردن بعنوان: A Crackle of Thorns الذي ترجمناه عن العربية بعنوان : خشخشة الاشواك , وصدر في طبعتين. بل إن المندوب السامي الصهيوني هيرتزل استدعى عدداً من الأشخاص عام 1921 ليس فيهم اردني واحد من اهل البلاد انذاك الى القدس , للالتقاء بوزير المستعمرات البريطانية تشرشل في حينه الذي جاء لترتيب امور الاردن وفلسطين بما يخدم وعد بلفور والحركة الصهيونية ومخططاتها ضد القطرين الشقيقين ، كما حضر اللقاء لورنس العرب . كان من جملة الحديث الذي جرى حول مستقبل شرق الأردن لتكون مستودعاً ومقرا لمن يتم طردهم أو هجرتهم أو تهجيرهم او نزوحهم أو انفصالهم من فلسطين (الغربية)، لتكون الأردن ( فلسطين الشرقية ) وطناً بديلاً لهؤلاء، وفلسطين وطناً بديلاً لليهود من شتى بقاع العالم. وكان هذا من ضمن الأسس التي قام عليها الانتداب البريطاني بالاردن .
نخلص إلى القول أن الإلغاء الظاهري للأردن من وعد بلفور قد رافقه من وراء الكواليس عمل حثيث وحقيقي على أرض الواقع في ان الاردن هي فلسطين الشرقية وانها مستودع من يتم تهجيره او نزوحه او هجرته من فلسطين . بينما تقوم دولة يهودية في فلسطين على انقاض الشعب الفلسطيني , ودولة فلسطينية بالأردن باعتبارها الجانب الشرقي من فلسطين ,وهو الامر الذي لازال ينادي به الاسرائيليون الى يومنا هذا , وان هجرة اليهود الى فلسطين هي عودتهم الى ارض الميعاد والاباء والاجداد ,. وان هجرة الفلسطينيين الى الاردن هي تحرك وانتقال , اقول تحرك وانتقال من الجانب الغربي لفلسطين الى الجانب الشرقي منها . هذا هو المنطق الذي روجت له الصهيونية واتباعها والذي حمله المتصهينون ايضا الى الان وغد وبعد غد .
وقد صدرت بحوث لباحثين فلسطينيين في الستينات والسبعينات تحدثت عن هذا المفهوم وعملت ما وسعها الجهد للترويج له، أما الكتاب والمفكرون الأردنيون الذين رفضوا الأمر الواقع في المفهوم وقالوا أن الأردن هي الأردن وفلسطين هي فلسطين فقد اعتبرهم الإعلام الرسمي والخالص أنهم يثيرون النعرات والفتن وانهم اعداء الوحدة الوطنية . وكان نصيبي من هذا كمفكر أردني جرّي للمحاكم ثلاث مرات كان آخرها التي تم الحكم علي لمدة سنتين، لا زلت أقضي أواخرها إلى الآن وانا اكتب هذا الكتاب وانا خلف القضبان .
ويعود مفهوم اعتبار الأردن جزءاً من فلسطين إلى أيام الاحتلال اليهودي للبلدين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد = اي قبل 3200 سنة خلت . وتوزيع أجزاء واسعة من الأردن بين عدد من أسباط بني إسرائيل وتوزيع فلسطين للأسباط الباقين. حيث اتخذ سبطا جاد وراؤبين ونصف سبط منسي (مناشيه) منطقة الأموريين (مملكة حسبان ومؤاب وادوم) والعمونيين (مملكة عمون) وباشان (مملكة باشان في شمال الأردن)، أقول اتخذوها دار إقامة لهمبعد احتلالهم لها , وصاروا يبنون على أنقاض المدن والقرى الاردنية التي دمرها بنو اسرائيل وأحرقوها وأبادوا أهلها كما يذكر العهد القديم في سفر العدد الأصحاح ص22، 23 مما اورث زمناً طويلاً من الصراع مع اليهود استمر حتى الآن 2008م. وسوف نأتي على صراع عشائر الأردن مع الإسرائيليين فيما بعد في سياق هذا الكتاب إن شاء الله.
وقد اتفق أسباط بني إسرائيل على اتخاذ ملاذ أمن لهم في الأردن ( وهو اول اصطلاح بهذا العنوان والمعنى والذي صار حديثا في مناطق النزاعات والصراعات ). يأمن على نفسه من يهرب إليه من الغرب أو الشرق شريطة لا يُحْدِث?Z شيئاً إذا دخله وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا: الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين (2007)، الجزء الأول.فالاردن اول بلد في الناريخ تم اتخاذ ارضه ملاذا امنا لكل طالب حماية . ولا غرو اذن ان يكون من معانيه في اللغة : الامن والطمانينة
والقارئ لكتاب حديث كتبه باحث فلسطيني، ويدعى الكتاب جذور الوصاية وهو مستمد من الوثائق الإسرائيلية حول من تعامل الوكالى اليهودية مع عدد من الوجهاء والشيوخ من أبناء شرق الأردن، يجد أن عملاء الوكالة اليهودية من الإسرائيليين والعرب كانوا يتصلون بعدد من الشيوخ والشخصيات في شرق الأردني منهم الأردني الحقيقي، ومنهم الوافد، وكيف تم بيع، وتأجير مساحات واسعة من شرق الأردن للوكالة اليهودية، وهو تنفيذ حقيقي لوعد بلفور وإن تم إلغاء النص في ظاهره كما قلنا أعلاه.
وقد تم تأجير أراضي واسعة من الغور وجنوب عمان وفي جنوب الأردن، وفي مناطق استراتيجية، وفي البادية.
وصارت قصّة بيع الأرض للوكالة اليهودية الشغل الشاغل للعملاء بحثاً عن المال وبيع الوطن، بينما عملت الحركة الوطنية الأردنية ما وسعها الجهد رغم امكاناتها الضئيلة والحرب الصهيوني واتباعه عليها , اقول عملت ماوسعها جهدها لتوعية الناس بهذه المخاطر. ووصف العملاء بالخيانة، بينما وصفهم العملاء بالجهل والجهالة والتقوقع ، أما الإدارة في الأردن في حينه فإن الوثائق التاريخية تتحدث عن أمور ظهر منها ما ظهر في كتب أجنبية , وهي ليست موضوعنا في هذا الكتاب الذي يغطي الاردن حتى 1910 م فقط .
وقد صدر كتاب عن باحث أردني في الجامعة الأردنية تحدث بالوثائق عن عملية البيع للوكالة اليهودية وأسماء العملاء والبائعين، ثم أعيدت طباعته خاليا من هذه الحقائق والاسماء والوثائق , حيث جرى نزع الحقائق التاريخية التي لا يريد أحفاد أصحابها معرفة ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من الغرق في العمالة للوكالة اليهودية، وقد جرى تبادل الاتهامات بشكل واضح، وأن القارئ لوثائق الحركة الوطنية الأردنية والأخبار التي نشرتها الصحف الفلسطينية في حينه ( منذ مطلع العشرينات حتى نهاية الاربعينات من القرن العشرين ) ليصاب بالذهول والهول أن تكون الأرض الأردنية سلعة للبيع للوكالة اليهودية من فعل المتنفذين من حفنة بعض الزعامات العشائرية والسياسية في حينه.
وفي الثمانينات من القرن العشرين حتى الآن برزت عملية البيع للأراضي الأردنية من جديد، ولكن بصيغة أخرى، وذلك لشركات غريبة ووهمية وأشخاص يحملون الجنسية الإسرائيلية بحجة أنهم من عرب 48، وآخرين من العراق بحجة أنهم عرب عراقيون. وبغض النظر عن النوايا سواء أكانت حسنة أم غير ذلك، إلا أن النتيجة قد آلت ان مساحات واسعة من أرض الأردن أصبح الآن (2008) في أيدي غير أهلة بل صارت أسعار الأرض كالبورصة التي يتذبذب سعرها، وظهر حديثاً أسلوب جديد في البيع تحت غطاء الاعمار وإعادة الأعمار، واستجلاب أسماء أشخاص في ظاهرهم أنهم مستثمرون وهو الاحتلال والاستعمار بعينه .
وأذكر أنه في عام 1981 عندما كنت طالبا لدراسة الدكتوراه في جامعة كيمبردج الإنجليزية أن نشرت صحيفة بريطانية معروفة بجدّيتها ورزانتها وهي The Times إعلاناً صادراً عن الاتحاد اليهودي الأوروبي والبريطاني، وقد رسموا فيه خارطة الأردن وفلسطين، ووضعوا خطّاً على الخارطة اعتبروه الحدود الشرقية الحقيقية لإسرائيل تتوازن مع مجرى سكة الحديد الأردنية الحجازية.
وذكر الإعلان أن فلسطين الشرقية (الأردن) ( هكذا ورد في الاعلان ) محثلة من قبل الأردنيين وأنه يجب تحريرها منهم (أي من الأردنيين) عاجلاً أم آجلاً. وهي الدعوات التي ترفد تصريحات مرشح الرئاسة الأمريكية للحزب الجمهوري في شهر حزيران 2008 عندما اعتبر الأردن مكاناً حقيقياً لإقامة دولة فلسطينية وأن الشعب الفلسطيني في رأيه يشكل الغالبية الكبرى من الشعب في الأردن.
هذه الدعوات كلها تنسجم أيضاً مع ما أورده كركبرايد في كتابه خشخشة الأشواك حول ما تم الاتفاق عليه بين الشخصيات التي تحدثت عن الاردن على انه ارض بلا شعب , ومثلته في الاجتماع مع تشرتشسل ولورنس كما أشرنا أعلاه.
هذه الفلسفة الإسرائيلية الصهيونية نحو الأردن واضحة في أدبياتهم السياسية عبر التاريخ القديم والحديث، منذ الخروج من مصر هربا من فرعون الى بدء تجوال الرحالة في بلادنا إلى الآن. ولا شك أن من مصلحة إسرائيل خلق حالة من الفوضى الدموية في الأردن، لإعطائها المبررات الأمنية والشرعية السياسية الدولية لاحتلال الأردن بحثاً عن حدود آمنة من الشرق، يتم حينها ترحيل بالقوة لملايين الفلسطينيين إلى الأردن، وتصبح نسبة أهل البلاد ضئيلة أمام أي عمل ديمقراطي قائم على الانتخاب في أمور الحكم والمجالس والحكومات مستقبلا .
ويعزز هذه الفلسفة الصهيونية مواقف رسمية بالأردن تمنع من الحديث عن الهوية الوطنية والثقافة الأردنية باعتبار الحديث عن أيهما هو نمط من الإساءة لما يسمى بالوحدة الوطنية، وأنه ضرب من إثارة النعرة العرقية والطائفية والمذهبية، وكنت ولا زلت ضحية لهذا التوجه الرسمي رغم أنني مدرك أننا سندفع الثمن جميعاً بسبب عدم تصويب الأمور ومعالجتها بشكل صحيح قبل فوات الاوان .
كما أن السياسة الرسمية بالأردن لا تسمح حتى الآن بظهور الزعامات الوطنية الأردنية أو الفلسطينية، ويتم شّن حرب إعلامي وسياسي وغيرهما على أية شخصية أردنية أو فلسطينية ترفض فكرة الوطن البديل رفضاً على أرض الواقع. أما الرفض الذي يأتي من صنف اللغو والهراء فهو مسموح به على مصاريعه جميعها.
من الواضح أن الحديث عن مصالح الأجيال القادمة قد أصبح اصطلاحاً بقي عكس ما نسمع من المسؤولين. ولا أدري ماذا ستفعل الأجيال القادمة عندما تجد موروثاً مرعباً على النمط التالي : وطن مباع، وجواز مشاع , وأسعار لا تطاق، ومدخول متدني، وبطالة عالية، وسجون مترعة بالسجناء، ضيق في القمة العيش، تدمير للأخلاق، مديونية عالية، تفكيك مؤسسات الدولة وبيعها. ماذا ستقول هذه الأجيال؟ أظنها ستأتي بجرافات لتقتلع قبور أجيالنا ومن سبقنا، وتحرقها في احتفال وطني، لأنهم سينظرون إلينا وهم أولادنا وأحفادنا أننا بعناهم وبعنا الوطن، سواء فلسطين أو الاردن ، وأننا أورثنا لهم من المئاسي ما ينوء به كاهلهم. وقد ذكرت ذلك ونبّهت له، وحذّرت منه منذ مطلع التسعينات من القرن العشرين. أما الرد علي فهو الهجوم الظالم، ووصفي بأوصاف لا تليق برجل محترم وان كانت تليق بمن يرميني بشين صفاته .
وقد أدى هذا إلى ازدواجية في الخطابات السياسية والرسمية والإعلامية والصحفية والفردية والاجتماعية، بحيث نجد حديثاً في المثاليات ينافي الواقع، ونجد أن الشخص يقول ما يقوله ملتزماً بالتوجه الرسمي حتى إذا خلا لنفسه أو لمن يثق به، قال بصراحة أنه غير مؤمن بما قاله قبل قليل ، لأنه مغاير لروحه الوطنية ومشاعره وقناعاته. وقد لاقيت العديد من هؤلاء الناس والمواقف، وصار البيع والشراء بالمواقف والتظاهر بتأييد الخطاب الرسمي سلعة للعديد من المنافقين يؤجرون عليها رسميا دون ان يابهوا للعقاب عليها من الله سبحانه .
لا يستطيع أحد في نهاية المطاف أن ينتزع المشاعر الوطنية نهائياً من الشعب، وإن انتزعها خوفاً وقمعاً من أفراد. فهذه المشاعر تتحول إلى طاقة ساكنة. وبراكين هامدة، قد تتجدّد في أية لحظة إذا وجدت التربة المناسبة للولادة والانفجار.
لا بد من القول هنا ان جُبْن الشعوب لا يدوم , وخنوعها لا يدوم وهمها لا يدوم ووهمها لايدوم , ونومها لا يدوم وغفوتها لا تدوم وكبوتها لا تدوم، فلا بد أن تتحول البذرة إلى شجرة، والشجرة إلى غابة مثمرة وارفة الظلال. ولا بد من التغير في الحياة، لأن الثابت في الكون هو التغير. ومن يقف في وجه هذا التغير سيفقد سيطرته على الأمور لأنها سيل جارف يأخذ السدود والحدود معاً ويقتلع القبور والجذور ايضا .
ومن حق كل شخص أن يحبّ وطنه، وليس من حق أحد أن يحرمه من هذا الحب، لأن الأوطان لا تثبت إلا بالرجال أيضاً أما النكرات والرويبضة، والفئران والجرذان فهم مخرّبون وليس العكس. وإذا لم يُسمع صوتنا الآن ونحن في فسحة من الوقت , بعد أن كنا في بحبوحة وضاقت، فإننا سنصل جميعاً إلى زاوية الفيصل فيها لذوي السواعد الفتية الذين يعتمدون على أحدث ما وصل إليه الإنسان من وسائل الهجوم والدفاع , وان الخلاص والعاقبة لاصحاب الفكر وحامليه وليس لحاملي الهراوات والبنادق . فغاندي استطاع تحرير الهند بعنز يشرب حليبها وعصا لوز يتوكأ عليها وجسد نحيل يصبر على الاضراب عن الطعام وازار من صنع هندية ريفية تؤمن بالوطن وبتحريره من الاحتلال وبنظارات فيها بعد النظر وليس بعيون عليها غشاوة .
أما ردنا العلمي والتاريخي على كل ما ذكرناه أعلاه من الادعاءات ضد الاردن والعشائر الاردنية ، فنرغب أن نبدأ بما ورد في كتاب العهد القديم , حيث ذكر الأردن بالاسم، في عدة اصطلاحات، عبر الأردن ( وهي الأرض المحاذية لنهر الأردن من جهة الشرق) والأردن. وهو يعني النهر تارة وأرض شرق الأردن تارة أخرى. وأن الترجمة الإنجليزية لكل من هذين الاصطلاحين وردت في الكتب القديمة، والحديثة المتقدمة حتى عام 1946 (عندما تحولت الأردن إلى مملكة)، أقول الاصطلاح الانجليزي كان على النحو التالي:
1. عبر الأردن أو ماوراء الاردن او شرق الأردن Trans Jordan وقد ورد هذا الاصطلاح في عدد من كتب الرحالة الأجانب وترجمنا العديد منها إلى العربية.
2. ما وراء الأردن، حيث جاء بصيغتين A cross Jordan وصيغة Beyond Jordan. وكلاهما تعني شرق الأردن. وفي هذه الحالة فإن كلمة الأردن الواردة هنا تعني النهر، وأن ما وراءها هو الأردن نسبة إلى النهر.
3. الأردن Jordan وتعني الأردن الأرض الممتدة إلى الشرق من النهر.
4. إمارة شرق الأردن حتى 25/5/1946.
5. المملكة الأردنية الهاشمية وهذا جاء بعد عام 25/5/1946، Hashemite Kingdom of Jordan.
6. الشرق العربي Arabic Orientation. وهذا ما أطلق على الإدارة التي أقامها الانتداب البريطاني من 1921-1923.
7. واصطلاح الأردن الشرقية Eastern Jordan مما يعني أن فلسطين هي الأردن الغربية، وقد ورد ذلك عنواناً وأحياناً ضمن عدة عناوين ونصوص لكتب الرحالة الأجانب.
8. كما وردت عناوين عديدة أخرى لكتب عدد من الرحالة الأجانب مما تسعفني ذاكرتي وأنا في السجن بعيداً:
‌أ. مثل أرض جلعاد The Land of Gilead الذي كتبه لورنس أوليفانت وترجمناه إلى العربية وصدر عام 2004.
‌ب. أرض مؤاب The Land of moab الذي كتبه ترتسترام عن رحلاته عام 1872 وترجمناه إلى العربية وصدر في طبعتين الأولى بعنوان: رحلات في شرق الأردن، والثانية مزيدة ومنقحة بعنوان: أرض مؤاب.
‌ج. شمال الحجاز Northern Hijaz الذي كتبه الرحالة النمساوي موزل Musil، وتضمن الحديث عن الأردن ضمن رحلاته تحت هذا العنوان، أي شمال الحجاز.
‌د. أبيلا، بيلا، وشمال عجلون Abila, Pella, and northern Ajloun كتب المهندس الألماني شوميخر by Schumacker.
‌ه. صحراء الخروج Desert of Exodus كتبه بالمر Palmer.
‌و. أرض أدوم Edom كتبه موزل.
‌ز. رحلات في سوريا والبلاد المقدسة كتبه بورخارت ويعني بالبلاد المقدسة الأردن وفلسطين معاً وهي رحلات ما بين 1810-1817م، J.L. Burchardti Travels in Syria and the Holy Land.
‌ح. أرض حث ومؤاب كتبه كوندر وترجمناه إلى العربية Heth and Moab by Conder.
‌ط. البتراء Petra كتبه كِندي Kennedy.
‌ي. وادي الأردن والبتراء (ترجمناه إلى العربية) كتبه أمريكيان هما: Lebby and Hoskins.
ومن خلال هذه العناوين نجد أن الأردن جاء تارة ضمن عنوان الأراضي المقدسة، وأخرى ضمن مؤاب أو أدوم أو مؤاب أو جلعاد أو شمال الحجاز، ومرة أخرى كجزء شرقي من فلسطين، وأخرى كجزء محاذي للنهر، أي نهر الأردن.
ولو ناقشنا هذه الآراء القديمة والمتوسطة والحديثة لوجدنا ما يناقضها تماماً فالتوراة نفسها تحدثت عن الأردن ذاكرة رسم الأردن نفسه، وتحدثت عن فلسطين أنها أرض كنعان تارة، والأرض المقدسة تارة أخرى. وأن الدخول إليها قد تعذّر من الجنوب عندما همُّوا بذلك وهم في بلاد التيه، وإنما جاء الغزو إليها عبر الأردن. من هنا نجد أن بني إسرائيل قد حرصوا على وضع ملاة أمن شرقي نهر الأردن، وأيضاً على إبادة شعب الأموريين/ مملكة حشبون، ودحر واحتلال مملكة باشان ثم قاموا بتقسيم هذه الغنيمة عن البلاد ما بين أبناء جاد وراؤبين ونصف سبط منسي كما ورد في سفر العدد/ الاصحاحان 22، 23، وكما أشرنا إلى ذلك أعلاه .
الولاية العربية الاردنية
إنني لا أتفق مع ما ورد في كتاب العهد القديم من أن شعب الأموريين هم فقط أبناء مملكة سيحون وباشان , وإنما أرى أن كلاً من الشعب الكنعاني الذي سكن فلسطين وسميت باسمه، أي أرض كنعان، والشعب الأموري الذي سكن الاردن والشعب الفنيقي الذي سكن سواحل لبنان , هم جميعا عرب وأخوة وفدوا من جزيرة العرب في اوقات متقاربة وقد سكن الأموريوين في الأردن وشكلوا عدة مالك كل مملكة منها لقبيلة من هذا القبائل . وهذه الممالك الاردنية هي التالية :
مديان، وأدوم، ومؤاب , وحشبون، وعمون , وباشان، والحوريون ( في عصر سابق لهؤلاء ) وأنهم جميعاً (الأموريون والكنعانيون والفنيقيون ) يتحدثون لغة عربية واحدة هي إحدى ألسن العربية القديمة. , وكان ذلك قبل مجيء الانباط ومن ثم الغساسنة . وكانت جذام وقوم لوط وصالح وقضاعة سابقون لهؤلاء جميعا , وكانوا في هذه الديار بما يزيد على الفي سنة قبل الميلاد .
لذا لا نجد تسجيلاً لحروب طاحنة أو دموية ما بين الأموريين الذين صاروا أردنيين، والكنعانيين الذين سكنوا فلسطين، وأن سكناهم هذا كان قبل هجرة النبي إبراهيم عليه السلام من بلاد بابل في العراق . لكن الفارق، أن الشعب الكنعاني بقي موحّداً لوجود ساحل واحد يربطهم جميعاً وإن وُجدت (بضم الواو) سلاسل جبلية في وسط فلسطين،لكنها لاتشكل حاجزا كما هو الحال في الاردن . كما أن سهل الغور على الجانب الغربي من النهر يربط شمال أرض كنعان من طبريا إلى عصيون جابر/ أيلة على بحر القلزم (الأحمر) في الجنوب وان كان ذلك يضيق في مواقع هنا وهناك لاتعرقل الحركة . أما على الجانب الأردني فإن السهل يتقلص في أماكن كثيرة محاذية للبحر الميت بحيث يجعل الحركة سالكة بصعوبة في كثير من الحالات .
ولا نستطيع أن نعرض صفحة عن التسميات التي أطلقت على الأردن زمن الرومان أي بعد 106 وهو العام الذي سيطروا فيه على مملكة البتراء الأردنية العربية. فقد زحف الإمبراطور الرومي ديوقليتيان إلى سوريا عام 290م وأغار على البدو ودمرهم في البادية وسورية والأردنية، وألزمهم بالخلود إلى المسكينة ثم سار إلى الفرس وتغلّب عليهم ودمرهم، مما أدى إلى انتشار هيبته في قلوب سكان البلاد، وبالتالي كان ذلك من أكبر العوامل في إقرار الأمن في سوريا وشرق الأردن خلال المائة سنة أي إلى عام 390، التي أعقبت هذه الأحداث.
قام ديوقليتيان بإيجاد الولاية العربية الجنوبية في الأردن، وعاصمتها البتراء وتضم جنوب الأردن وسيناء، باعتبارهما جزءا من مملكة الأنباط الاردنيين العرب. أما القسم الشمالي من الأردن فكان يسمى الديكابوليس أي تحالف المدن العشرة، وصارت تسميته والجزء الجنوبي من سوريا، باسم الولاية العربية اللبنانية السامية وعاصمتها بصرى، The Province of Arabia Augusta Libanesus.
إذن نجد اسم الأردن فيما بين 290م-390م قد انقسم إلى قسمين الجنوبي ملحقا به ومضافاً إليه سيناء وعاصمته البتراء، والثاني مضافاً إلى سوريا وتحت تسمية الولاية اللبنانية، وتلك الولاية العربية الجنوبية، ومثل هذه التسمية كانت ضمن قرارات رومانية : سياسية وإدارية وعسكرية واقتصادية في آن واحد، حيث نجد أن كل قسم له منفس على البحر الأبيض المتوسط، الأول (الجنوبي) من شواطئ سيناء، والثاني (الديكابوليس) من خلال الشواطئ اللبنانية، أما العاصمتان لكل من القسمين فكانت حينذاك جزء من الأردن، حيث البتراء في جنوب الاردن ، وبصرى (من الجزء الشمالي الأردني آنذاك) التي كانت اصلا جزءا من مملكة باشان التي كانت تشمل حوران وبيسان وعكا وصور حتى سواحل البحر الابيض المتوسط وهو الامر الذي بقي على هذا الحال حتى منتصف العصر العباسي .
وفي حوالي عام 385م تم فصل الديكابوليس في منطقة بيسان عن الجزء الأردني الشمالي حيث تم ضمها إلى ولاية اللبنانية ، وصارت عاصمتها بيسان المسماة باللاتيني مايثوبوليس، بينما بقيت الولاية العربية الجنوبية على حالها. هذا أعلاه ما ذكره بوشير Bouchier في كتاب سوريا كجزء من المقاطعة الرومانية Syria as a Roman Province.
وفي هذه الفترة تمكن الرومان ومن خلال المودة والتواصل ودفع المال أن يحصلوا على تحالف شيوخ البدو في شرق الأردن وحدودها الصحراوية حتى وادي السرحان، مع بقاء هذه القبائل تحت السلطة المباشرة لشيوخها في الآن نفسه. وفي عام 395 صارت الولاية العربية الأردنية وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان ومصر ضمن الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية على مضيق البسفور، ذلك أن الإمبراطور الرومي تودوسياس قسّم الإمبراطورية الرومانية بين ولديه كانت عاصمة القسم الغربي منها : روما، وعاصمة القسم الشرقي : القسطنيطينية.
وفي أواخر العهد الروماني كانت الأردن تحت حكم الغساسنة العرب وهم يمن من قبيلة الازد ، وكان أبو فروة الجذامي واليهم على البلقاء ومركزه في معان،حيث كانت البلقاء تمتد من مدائن صالح والعلا جنوبا الى جبل الشيخ شمالا , شاملة بذلك حوران وجنوب الاردن ووادي عربة وايلة وهي العقبة الحاليو وعيون جابر وهي ايلات الحالية .وعندما أصرّ?Z ابو فروة الجذامي وهو من نسل من بقي من جذام وامنوا بشعيب عليه السلام من قبل , اقول عندما اصر على اعتناقه الإسلام تم صلبه على مياه عفرا إلى الشمال من الطفيلة. وكانت الأردن تضم الغور بضفتيه وبحيرة طبرية وعكا وصور وجبل عاملة بجنوب لبنان الذي سمي نسبة الى بني عاملة الاردنية التي اتخذت ذلك الجبل موئلا لها , وبذلك كانت الاردن تشمل الجنوب اللبناني والشمتال الفلسطيني حالياً وبقي الأمر على هذا الحال حتى العصر العباسي كما قلنا .لقد كان العباسيون حريصون على تمزيق الاردن واهله عقوبة لهم على موفقهم الداعم للامويين , وبالتالي فصلوا عنه جزأه الشمالي ليكون من ولاية دمشق والشمالي الغربي ليكون من ولاية بيروت والشمال الفلسطيني ليكون من اراضي نابلس والاجزاء الجنوبية = اي تبوك والعلا ومدائن صالح وينبع لتكون من ولاية الحجاز , واما مابقي من الارض الاردنية فقد اصبحت خالية من الادارة ومن الاهتمام وتم تشتيت العشائر الاردنية في اقطار الدولة العباسية ولم تعد الى الاردن الا بعد عدة قرون .
الجيوش الاربعة والعصر الاسلامي
وعندما سيّ?Zر الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيوش الفتح الأربعة إلى بلاد الشام على النحو التالي:حيث عقد لواء دمشق على يزيد بن أبي سفيان، ولواء الأردن على شرجيل بن حسنة، ولواء حمص على أبي عبيدة عامر بن الجراح، ولواء فلسطين على عمرو بن العاص وبذلك كان واضحاً لدى المسلمين أن الأردن ديار تستحق عقد اللواء لغايات الفتح الإسلامي وانها كنت حاضرة في اذهان وادبيات قريش .
تجمعت الجيوش الاربعة في سرغ (المدورة) في جنوب الأردن ومن هناك انطلق كل منهم إلى هدفه. وكانت قريش على معرفة ودراية دقيقة ببلاد الشام واليمن بسبب رحلة الإيلاف وهي صيفاً إلى الشام وشتاءً إلى اليمن لغايات التجارة. وبالتالي كانوا يعرفون أن الأردن ديار تحمل هذا الاسم وفيها من المدن والقرى والبلدات ما يستحق تسيير جيش خاص لفتحه بل ويحمل اسمه : الاردن ، والأمر نفسه للديار الفلسطينية كما رأينا. حيث سار عمرو بن العاص عبر الديسة ورم ووادي القيم وأيلة (العقبة) ثم وادي عربة ثم إلى منطقة الطفيلة ثم الى فلسطين.
أما بقية الجيوش فجاءوا إلى معان ثم زيزياء فسمعوا أن الجيوش الرومانية تجمعت في وادي عربة ووقفت حائلاً دون تقدم جيش عمرو بن العاص إلى فلسطين فساروا إليها ودمروها في منطقة غرندل الىالجنوب من الطفيلة ( 25 كيلو متر ) ثم الى غور فيفة والصافي جنوب البحر الميت فولّت جيوش الرومان هاربة إلى فلسطين. وبذلك تهيأت السبل والطرق لعمرو بن العاص للتوجه إلى غزة، بينما سارت الجيوش الاسلامية الثلاثة الباقية إلى الكرك وصالحت أهلها وكانت تسمى مؤاب، كما ذكر الطبري ذلك، وصار الجهاد مشتركاً واجتمعت الجيوش الثلاثة للجهاد في البلقاء وحوران ولتطهيرها من القوات الرومية وعدم تمكينها من إعادة التجمع والتنظيم، وبذلك قلّ?Z خطر الرومان في الجزئين الشمالي والأوسط من الأردن، بينما أصبح الجزء الجنوبي نقيّ?Zاً من الاحتلال الرومي تمام النقاء .
وبالمقابل انتصر عمرو بن العاص أيضاً على القوات الرومية التي كانت بقيادة سرغيوس في ضواحي غزة، ثم انسحب عمرو إلى عين الغمر في وادي عربة خشية مباغتته من القوات الرومية أو أن يكون اندحارها ضمن خطة للإيقاع به وبجيشه، وبذلك حقق النصر والسلامة لجيشه في آن واحد.
وما أن تحقق النصر الإسلامي في بلاد الشام وتحريرها برمّتها من الاحتلال الرومي حتى تبدّلت أسماء المناطق الأربعة فضلاً عن منطقة خامسة حيث صار اسم كل منطقة: جند وهو اصطلاح عسكري جهادي، يتضمن أن يكون في كل ديار جيشه ومقاتليه وقيادته للدفاع عنه، ولتعزيز الأجناد الأخرى إذا احتاجت إلى مدد عسكري، أو طلب هذا المدد إذا عجزت ادارة هذا الجند عن حمايته. فضلاً عن الخشية من الثورة الداخلية للسكان الذين كان أغلبهم لا زال على دين النصرانية أو اليهودية أو الوثنية، ثم دخلوا في الإسلام أفواجاً أفواجاً.
ومن ضمن ذلك صار اسم الأردن: جند الأردن وهو خاص بها فضلاً عن الأجناد الأخرى، لبلاد الشام وهي: جند فلسطين وهو خاص بها، وجند دمشق وهو خاص بها، وجند حمص، وجند قنسرين وكل خاص بالديار التي تحمل اسم الجند. وتم انبثاق تسمية اقتصادية عن الاصطلاح العسكري الجهادي حين صار كل جند عدة أكوار ومفردها كور وهي كلمة تتعلق بالاقتصاد والإنتاج. والجباية والخراج والجزية والعشر والزكاة وما إلى ذلك. أي تتعلق بواردات الجند التي هي جزء من واردات الدولة إلى بيت مال المسلمين، وتم تقسيم الأردن الى عدة أكوار منها كور الشراة ومركزه زغر (غور الصافي).
وبذلك يظهر جليّاً أن الشراة صارت ضمن التنظيم الجديد من الأردن، وهي الجزء الجنوبي من البلقاء. وهناك كورة عمان، وكورة بيسان، وكورة عكا، وكورة صور، وعددها جميعاً خمسة كور. وهذا الإجراء ينم عن فهم الديار الأردنية ومعرفة لحدودها بما يتفق مع ما وصفته وحدده العهد القديم إلى حدّ بعيد. ويدحض القائلين بعدم وجود الأردن اسماً جغرافياً وتاريخا وعلم اجتماع منذ القديم.
إذن بوجود الفتح الإسلامي اتضحت معالم الجغرافية الأردنية كجند صار يحكمها معاوية بن سفيان حتى عام 640 (18هـ) عندما انتشر طاعون عموان في بلاد الأردن وأهلك حوالي ثلثي السكان , وكان سكان الاردن وقت الفتح يربو على خمسة الاف الف – اي يزيد على خمسة ملايين نسمة , ولكن الطاعون جاء على اغلبهم وعلى غالبية الجيوش الإسلامية الفاتحة حيث أصيب الصحابة الكرام الكبار بما فيهم أبو عبيدة أمير أمراء أجناد الشام، فصار معاوية والياً على بلاد الشام ومركزه دمشق وبقي فيها إلى أن مات وهو خليفة للمسلمين وقد أسس دولة بني أمية وجعل الملك فيها وراثيّاً مشفوعاً بالبيعة من كبار بني أمية، والصحابة والتابعين والعلماء ورجال الدولة وزعماء القبائل وعامة المسلمين.
كان الطاعون قد انتشر في سوريا الكبرى وآسيا الصغرى عام 542م أي قبل مائة عام من طاعون عموان، وكان يهلك في حي القسطنطينية يومياً عشرة آلاف نسمة وبقي يتكرر خمسين سنة أعقبت بدء انتشاره. وكانت الأردن إحدى البلدان التي أصابها هذا الوباء، حين ذكرنا سابقاً أن هذه الأوبئة والكوارث أثرت كثيراً بالأردن، وأنها كانت تصيبه بين حين وحين. فسبحان الله ربِّ العالمين.
برزت أهمية الأردن وأهل الأردن في العصر الأموي وتزوج معاوية بن أبي سفيان ابنة أحد زعماء البلاد حين صار والياً على جند الأردن بدلاً من معاوية الذي انتقل إلى دمشق والياً للشام كما قلنا بما فيها الاردن . أما هذا الوالي والصهر الجديد فهو حسان بن بجدل الكلبي وهو زعيم قبيلة بني كلب الأردنية، وكانت منازله في واحة الأزرق، وقد تزوج معاوية من ميسون بنت حسان بن بجدل الكلبي المذكور وولدت له يزيد الذي تربى في كنف أخواله في بادية الأزرق الأردنية ردحا من حياته، ثم صار وليّاً للعهد، ثم أميراً للمؤمنين خلفاً لوالده، إلا أن مقتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما قد قلل من شأنه بشكل هائل، وصار المجال واسعاً للطعن بعقيدته وسلوكه وكفاءته. ومع هذا فإن العدالة تقتضي ألا نسمع من طرف واحد في أية قضية تحتاج إلى حكم صحيح.
وحين لا تتوفر لدي المراجع في السجن، واعتمد الذاكرة بالدرجة الأولى، فإنه يمكن للراغب بالمزيد من التفاصيل أن يعود إلى كتابنا: الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين (الجزء الأول).
ومع انتهاء الدولة الأموية، أفل نجم الأردن من سياسة الدولة العباسية ومعادلاتها , حيث نشأت مبادؤهم في الحميمة في جبال الشراة/ جنوب الأردن عبر ثلاثة أجيال أثناء دولة الأمويين، حتى إذا ما تحوّلت الدعوة إلى دولة في العراق وخراسان وإذا لها جيوش وأتباع بدأ التطاحن حينها بين القوة الجديدة التي تربى خلفاؤها الثلاثة الاول وولدوا في الأردن وهم عبد الله السفاح وشقيقه المنصور وموسى الهادي، حتى غابت ديار الأردن عن الاهتمام، خشية أن تظهر بها دعوة أخرى قد تنسف بني العباس. , وعقوبة لاهلها في مواقفهم الداعمة لبني امية
أمر العباسيون بقطع الاشجار الاردنية وقطع الاتصال اة الاهتمام بهذه الديار ، وعدم تقديم الخدمات، مما حولها الى بلاد شبه قاحلة ومحل طرد سكاني، فقلّ سكانها، وتحولت كثير من قراها إلى خرائب خاوية على عروشها، ومدنها إلى قرى ليست ذات شأن يذكر بل أنهم حوّ?Zلوا طريق الحاج من بغداد إلى مكة المكرّمة مباشرة ورصفوا طريقاً لهذه الغابة عبر بادية العراق وبادية الجوف وتيماء، ثم مدّ?Zت السيدة زبيدة بنت أبي جعفر المنصور زوجة هارون الرشيد رضي الله عنه وعنها، أقول أمرت بمد قناة ماء من نهر الفرات إلى جبل عرفات كانت تكفي عربان البادية، ومواكب الحجيج ويوم الوةقوف بعرفة / يوم الحج الاكبر .
إذن تم تحويل طريق الحاج عن الأردن، وصار حجاج مصر وشمال أفريقيا وفلسطين يذهبون عبر أيلة ثم الساحل أو عبر البحر مباشرة دون أن تستفيد الأردن سكانا أو سوقا من هذه الطرق وهذه المواكب، فهاجرت القبائل شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ومع هذا بقيت اقسام من قبائل جذام وقضاعة وبلي والأنباط، وبني عاملة والغساسنة في البلاد الى الان او عادوا اليها بعد طول غياب .
وعندما ابتلي الأردن من ضمن بلاد الشام ومصر بالغزوات الصليبية، تأسست إمارة الكرك الصليبية التي كانت تابعة لمملكة القدس، كما سنأتي فيما بعد إن شاء الله، حتى إذا ما أتى الله الملك للمماليك (يؤتي الملك من يشاء) صارت الكرك في فترة من الفترات عاصمة مملكة الكرك التي كانت تضم الأردن حتى تبوك، وأحياناً تتبعها مصر لفترة وجيزة من التاريخ.
دخلت البلاد في الفوضى بعد الاحتلال العثماني وصارت جزءاً من ولاية دمشق، منذ عام 1517م حتى حوالي عام 1560م , ثم غرقت البلاد بالفوضى وانعدام الإدارة، واقتصرت الأمور على قيام لواء عجلون الذي كان يشمل بلاد ما سمي فيما بعد بشرق الأردن , وبقي كذلك حتى عام 1850، عندما هاجرت قبيلة بني عباد تحت ضغط تحالف قبائل البلقاء بقيادة العدوان، أقول هاجرت إلى بيسان حتى عام 1863/ وما أصاب القبيلة من موت الأطفال فعادوا إلى ديارهم في البلقاء (حول بلدة السلط ومغاريب عمان ) آنذاك، وخاضوا حروباً مريرة مع العدوان واستطاع العبابيد بزعامة كايد بن ختلان صاحب العقلية العسكرية والسياسية الاستراتيجية المذهلة أن يستعيد أراضي العبابيد بعد أن سيطر عليها السلطيون والعدوان مدة ثلاث عشرة سنة وأعاد تقسم ديار العبابيد بين بطونها وبقي التقسيم ساريا الى يومنا هذا .
ثم ذهب وحليفه الجديد من العدوان وهو الشيخ أحمد أبو عرابي الكايد العدوان الذي كان ميالاً للسلم والوئام وترك الحروب بين القبيلتين بعكس ما كانت عليه سياسة الشيخ علي الذياب العدوان آنذاك، وقابل الشيخان كايد الختالين وأحمد أبو عرابي والي الشام ومعهم شيخ السلط حسين الفاعوري وحصلوا على نياشين سلطانية وعادوا يحملون أمراً بإنشاء لواء البلقاء ومركزه السلط في عام 1863/1864 حيث توقفت الحروب والغزوات بين القبيلتين / بين عباد والعدوان .
وفي عام 1889، تجهزت بنو صخر أقوى قبيلة في الأردن عبر عدة قرون حتى السبعينيات من القرن العشرين، أقول تجهزت لشن حرب إبادة لعشيرة المجالية في الكرك الذين بدورهم استنجدوا بوالي نابلس ومتصرف السلط، فتحرك طابور تركي ودخل قلعة الكرك، ومنع هذه الحرب التي كانت ستأتي على آل المجالية صغيراً وكبيراً , وذلك على اثر تصرفات شيوخ المجالية الاستفزازية تجاه الصخور.
وصف فوردر هذه الحملة في كتابه بالإنجليزية: مخاطراتي بين العرب Ventures Among Arabs الذي قرأته بالإنجليزية عام 1981 عندما كنت أحضر للدكتوراه في جامعة كيمبردج، ولم أحصل على نسخة منه في الأردن الى الان حيث رغبت بشدّة بترجمته إلى العربية، ونأمل أن يتحقق ذلك إن شاء الله.
وبذلك توطدت أركان الإدارة التركية في الأردن عبر ثلاثة ألوية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى تم تحرير الأردن منها عام 1918، وهذه الألوية: لواء عجلون ومركزه في إربد، ولواء البلقاء ومركزه السلط، ولواء الكرك ومركزه قلعة الكرك حيث يشمل تبوك والعقبة جنوباً، ويصل إلى وادي الموجب شمالاً.
كانت هذه الألوية تابعة إلى ولاية الشام ومركزها دمشق وقد ذكر صالح المصطفى التل والد الشاعر الأردني عرار (مصطفى وهبي التل ) ، وجد الزعيم الوطني التاريخي الأردني المغفور له الشهيد وصفي التل، أقول أشار في مذكراته التي نشرناها في كتابنا، العشائر الأردنية/ الجزء الثاني ضمن عشيرة التل، أن الشيخ يوسف الشريدة والد الشيخ كليب الشريدة وجد الشيخ عبد الله كليب الشريدة قد أخذ خرجاً من الذهب وأهداه لوالي الشام وطلب فصل لواء عجلون عن التبعية للواء نابلس وأتباعه مباشرة إلى ولاية دمشق. وكذلك كان.
إن هذه الفترة الوجيزة التي لم تتجاوز الا المدة التي تطلبت جمع المال الهدية التي قررت الإدارة التركية فيها تبعية عجلون لنابلس قد صارت وتراً يعزف عليه ويغني كثيرون من الذين يبخسون الأردن حقه في الوطنية والهوية والثقافة والتاريخ ويقولون أن التقسيم الإداري بين الأردن كان عرضياً (بالعرض) وليس طولياً وهذا كلام وان حدث عارضا الا انه لم يكن منهجا متبعا .
واستغرب كيف لسنة أو سنتين من التبعية الادارية تتغلب على عشرات من السنين من الابتعاد الاداري ؟ وهل هذا يعني أن السنة في التبعية الأردنية للجهات الاخرى يصبح أمراً مميّزاً؟ إننا نناقش الأمر من واقع علمي بعيدا عن التعقّب المذهبي أو العرقي أو الجغرافي، وإنما نذكر حقائق التاريخ بالموضوعية الموثّقة.
الاردن وهويته موضع الجدل
ونعود إلى القول كما سبق وقلنا في البداية أن الأردن موضوع نقاش بتاريخه وهويته وجغرافيته رغم وضوح هذه كلها. كما أنه ساحة للصراعات والتزاوج والتمازج بين الثقافات والمجموعات البشرية، وربما يعود ذلك لعدة أسباب منها:
1. موقع الأردن، حيث أنه النهاية الشرقية للخضراء، والنهاية الغربية للصحراء، وهو الملاة الأمن لمن يأتي من هذه وتلك لبرهة من الزمن، ثم يدخل في صراعات تنحسم نتائجها بأن البقاء للأقوى والأغلب.
2. طبيعة التركيبة السكانية فيه من مستقرين ومارين، وبالتالي فإن كان من الطرفين قد يدعيه أو يذمه أو يمدحه.
3. مرور والتقاء الطرق التجارية فيه.
4. مجاورته لمناطق الصراع في فلسطين والحجاز وسوريا حيث يتحول إلى مستودع للهاربين إليه من هذه الأقطار، أو نقطة انطلاق لغزو هذه البلدان أيضاً.
5. كونه جزءاً من بلاد الشام تارة، ويصبح الحديث عن الشام شاملاً له، وبالتالي يغيب اسمه وذكره من النصوص في كثير من الأحيان , وكونه جزءاً من البلاد المقدسة في عرف اليهود والنصارى مما يجعل عنوان البلاد المقدسة يشمله ويشمل فلسطين معاً، فيضيع اسمه لحساب اسم غيره ولحساب عناوين أخرى.
6. اقتطاع أجزاء منه لأقطار مجاورة تم ضمها ثانية فينتبه الكاتب ويعتبر أن هذا الاقتطاع أو الالتحاق يعني عدم وجود اسم الأردن على الخارطة. فمثلاً كانت العقبة ومعان جزءاً من الأردن منذ ما قبل الأدوميين وقبل الخروج أي منذ القرن الرابع عشر قبل الميلادي، ولكن بعض الأقلام والكتاب ينسون هذه القرون الطويلة ويركزون فقط على فترة بسيطة تم إلحاق العقبة ومعان إلى إدارة الحجاز لعدة سنوات (منذ عام 1910) وأعيدت إلى إدارة الأردن في عام 1924 بعد أن تحولت الإدارة الجديدة بالأردن من عنوان: حكومة الشرق العربي إلى إمارة شرق الأردن.
أمام هذا نجد البعض يبخسون الأردنيين أشياءهم بالقول أن العقبة ليست أردنية ومعان ليست أردنية، ونسوا أن معان مثلاً كانت عاصمة البلقاء زمن الرسول صلى الله عليه وسلم , وأن عاملها للروم كان أبو فروة الجذامي، وأنها كانت تابعة لولاية الشام (دمشق ـ جُلّق ) ويقول حسان بن ثابت في مدح آل جفنة الغساسنة.
لله درّ عصابة نادمتهم يوماً
بجلق في الزمان الأول

نقل فؤادك ما استطعت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل

7. الإدارات غير الأردنية المتعاقبة على الأردن. فالمماليك والأتراك والإنجليز ومن لفّ لفهم، وهم جميعاً غرباء على الأردن وأهله وجدوا أن خير وسيلة للدفاع عن أنفسهم هي الهجوم على الأردن وأهله بالقول بأنه لا يوجد أردن ولا أهل لهذا البلد، وبالتالي فإن الوافدين أولى بحكمه واستغلال خيراته وانتهابها. كما أن تظاهرهم بالادعاء بحب البلاد والانتماء إليها ليس مقنعاً لأهل البلاد لأنهم ينظرون إليه أنه نمط من التزلّف من أجل البقاء على رأس الإدارة في الأردن.
أمام ذلك لا يهم هؤلاء الوافدين أن تكون الأردن جزءاً من أي قطعة من الدول المجاورة، والادعاء بأن المجموعات الوافدة أو الغريبة هي التي بنت الوطن وحدوده وهويته وثقافته وشعبه.
8. إن مفهوم تقسيم الأردن إلى مناطق جغرافية موجود منذ التاريخ القديم، مديان، ادوم، مؤاب، حشبون، عمون، باشان، ويفصل بين كل منطقة وأخرى وادٍ كان في الأزمنة الغابرة نهراً جارياً، لم يبق منها إلا الزرقاء الذي تحوّل إلى سيل، ثم إلى مجرى للمياه العادمة القادمة من محطة تنقية الخربة السمراء التي تعالج شبكة مجاري عمان والزرقاء.
وقد حل مفهوم الديرة واستمر بدلاً من المملكة القديمة، وكان يقال: ديرة الشراة التي تشمل الشوبك ووادي موسى والبتراء ومعان ووادي رم والديسة جنوباً ووادي الموجب شمالاً، وديرة البلقاء من الموجب إلى الزرقاء، وديرة عجلون أو الشمال من الزرقاء إلى اليرموك ., ثم في القرن العشرين ظهرت اصطلااحات جديدة لازالت هي السارية الى الان وهي : اللواء الشمالي الذي يمتد من نهر الزرقاء الى الحدود السورية . ولواء البلقاء او الوسط ويمتد من هر الزرقاء الى نهر الموجب . واللواء الجنوبي ويمتد من وادي الحسا الى الحدود السعودية . بعدها تم تقسيم الاردن الى محافظات في النصف الاثني من القرن العشرين وما بعد ذلك ولكن اصطلاحات : شمالي وبلقاوي ( وسط ) وجنوبي لازالت موجودة ومستعملة في الحوار العادي للاشخاص .
9. أسباب حديثة يتعذر ذكرها الآن وإنما الإشارة إليها حيث تحول الأردن إلى حاضنة تفريغ أو محطة أو مستودع بشري أكثر منه إلى وطن لشعب واحد موحد. فالمستودع يحوي عادة من المتناقضات والعناصر غير المتجانسة، والتي لا زالت تدين بالحب لبقع (مفردها بُقْعة) او اوطان جغرافية أخرى خارج الاردن ، لذا ظهرت بالبلاد مقولة سياسية. ( من شتّى المنابت والأصول ) ، ومقولة أردني من أصل كذا وكذا، بما يشتمل على انفصام وازدواج في الشخصية الوطنية والسياسية . وظهر اصطلاح أردني ليعني الأردن المتجذر، واصطلاح: مواطن أردني ليعني من حصل على المواطنة بقرار سياسي , ولا يكون من أصل أردني. وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في جزء: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية باللغة الانجليزية . كما أن الحاضنة تشتمل على أصناف متباينة من الطيور، إذا ما تربت عاد كل منها إلى طبيعته وبيئته.
ويعتبر المستودع الذي يضم العناصر غير المتجانسة أمراً غير مقبول في القضية الوطنية، ولكن جميع هذه المكونات تخشى العنصر المتجذّر الاصيل وتعمل ما وسعها الجهد للتقليل من شأنه وأهميته، وتبخسه حقه في أن ينادي بوطنيته أو هويته . من هنا نجد أن الهوية الأردنية هي نقطة جدال مستمر كما سبق وقلنا في مطلع هذا الباب والكتاب، وموضوع تبخيس لها ولأهلها دونما انقطاع. وأن من ينادي بها يعتبر مجرماً أو متجاوزاً أو داعياً إلى التآمر والتنافر وإثارة الفتن بين عناصر مكونات المستودع.
لا يقبل الأردنيون أن تكون بلادهم مستودعاً، ويفترض الا يقبل غيرهم أن تكون الأردن وطناً لهم . لذا فإن أشكال الصراع والخلاف الخطي حول ذلك لا تتوقف ولا تنقطع بل إن مقولة عنصري أو إقليمي سهلة التصديق ضد أي شخص من الطرفين للأسف الشديد.
سادساً: وسائل الحماية القديمة في الأردن: إن موقع الأردن جعل الحياة فيه سهلة صعبة في آن واحد. ذلك أنها قريبة من الخضراء (فلسطين وسوريا)، ومن الصحراء (جزيرة العرب) وبالتالي فإن ملاحقة العدو فيها سهلة إذا اقتصرت الحركة داخل الأردن، ولكن إذا ما تمدّ?Zدت، ولجأ أهلها إلى الصحراء صاروا في منأى عن منال من يريد بهم سوءاً ممن قدم من الغرب أو الشمال. وإذا كان الطالب لهم من جزيرة العرب أو الواحد، فإنه قد يتوقف عند حدود الجبال، أو يحاول الحاق بمطلوبه عندما يتجاوزون نحو غرب نهر الاردن أو مصر أو ما إلى ذلك. ونجد ذلك من خلال الحملات العسكرية التي قام بها الرومان وقبلهم اليونانيون والبابليون والآشوريون كما سنأتي على ذكر ذلك في هذا الجزء من الكتاب إن شاء الله.
وقد كان لطبيعة الأرض الأردنية من الوعر والشجر وصعوبة اقتحامها لشدة وبسالة اهلها , أن صارت ملاذاً آمناً للمجموعات المطلوبة داخلياً وخارجياً. حيث كانت الغابات تغطي مساحات شاسعة منه، وحيث وعورة الأرض والطرق وجنبات الوديان والأنهار، وحيث حرارة الأغوار . كما كان للتحالفات أهمية في توفير الحماية لسكانها والوافدين اليها ، حيث نجد تحالفات مملكة مديان وأدوم مثلاً، وتحالف عمون مع الآشوريين في فترة من الزمن، وتحالف الأنباط مع الرومان تارة، وممالك أخرى داخلية تارة أخرى.
وبمعنى آخر، فإن الأمن والحماية هما الهاجس الرئيس للأردني، يبحث عنه ما استطاع إليه سبيلاً، وبأية وسيلة، ثم ظهرت التحالفات العشائرية الداخلية وأيضاً تحالفات هذه العشائر مع عشائر أخرى خارجية . كان ذلك في العصور الغابرة من التاريخ وعبر العصور الوسطى والحديثة .
ولا زالت عهود هذه التحالفات موجودة في الذاكرة الجماعية لهذه العشائر وأبنائها، ذلك أنها خدمت الأجيال السالفة، وساهمت في استمرار الحياة لمن لحقها من اجيال والاجيال الحديثة ، وعزّزت صراعهم من أجل البقاء. فقد كان من المتعذِّر على طرف واحد (أي عشيرة أو قبيلة) أن تواجه التحديات وحدها، أو أن تحد من المعارك او تنتصر فيها دونما حليف لها ينضم إليها، مقابل أن ينضم هذا الطرف إليه في وقت آخر أيضاً، فهي منافع متبادلة من أجل البقاء واستمرار الحياة. وقد ساهم ذلك في ضمان بقاء واستمرار هذه القبائل التي أصبحت عماد الإدارة والدول في الاردن عبر التاريخ بما فيه العصر الحديث ولا زالت في الذاكرة الجماعية للقبائل الاردنية ماكانت عليه هذه القبائل من التحالفات زمن الاباء والاجداد منذ الاف السنين وتجددت وتوثقت منذ مئات السنين وفي عهد قريب من القرن العشرين ,ز بل لازالوا يعتزون بهذه التحالفات والبنعمة .
ومن الوسائل القديمة التي كان الأردنيون يلجأون إليها هي السراديب تحت الارض . ففي غالبية الخرائب القديمة تقود الطرق والشوارع الظاهرة إلى مغائر وسراديب تحت الأرض تستمر لعدة كيلو مترات طولا وتتسع لأهل القرية برمتهم , وقد تتصل بعدة قرى مما يبين انها كانت ممرات امنة وملاذلات امنة بعبدة عن اعين الاعداء والمهاجمين والمحتلين, وهذا شائع في الأردن، حيث توجد مدن وقرى اخرى تحت الارض تتسع لسكانها فوق الارض ومواشيهم وخزينهم , حتى اذا ماجاء الغزاة لم يجدوا احدا ولا اثرا , فيعبرون , حتى اذا مازال الخطر عاد اهل القرى والمدن الى امكاكنهم . وهناك المدينة تحت ا لأرضية في درعا التي تحدث عنها شوميخر في كتابه عبر نهر الأردن A cross the Jordan والذي ترجمناه إلى العربية وصدر مطلع عام 2007.
وفي قرية دابوق مثلاً إلى الغرب من عمان توجد مغائر تحت الأرض واسعة ومرتفعة، وفي السويسة غربي وادي السير توجد فتحة ضيقة دخل إليها الجيل الذي سبقنا فوجدوها مغارة واسعة جداً ذات عمق يزيد على ثلاثمائة متر نحو الشمال الغربي. وفي قرى شمال الأردن توجد هذه السراديب بكثرة مختفية عن النظر وتحت كل قرية من الخرائب الأثرية القديمة تقريباً.كما تم اكتشاف سرداب مائي عبر شمال الاردن تم حفره زمن الرومان ولا زال الماء يجري فيه ايضا .
أما القلاع فكانت من وسائل الأمن والحماية والدفاع والهجوم والسيادة في الآن نفسه، وبقيت تؤدي هذه الوظائف إلى مطلع القرن العشرين. ومن أشهر قلاع الأردن: قلعة عجلون، قلعة السلط، , قلعة الكرك، قلعة الشوبك، قلعة العقبة، فضلاً عن قلاع ثانوية ليست بهذا المستوى من الإتقان والقوة والاستمرار مثل الأزرق، وأبنية أخرى كانت عبارة عن قصور لحاكم هنا أو هناك مثل بريقع (شمال الأجفور) والنويجيس في طبربور، وعراق الأمير/ قصر العبد.
ومن وسائل الحماية النحت بالصخر، وذلك ما نراه في البتراء/ الأنباط، والسّ?Zلْعْ (غربي ظانا في محافظة الطفيلة)، وهي أدومية (مملكة أدوم)، وكانت قبلها حورية من مملكة الحوريين العرب الاردنيين وهم سكان الجبال الذين دحرهم الادوميون . ويأتي ضمن هذا الإطار إقامة الأسوار المحيطة بالمدن القديمة مثل قلعة عمان، وجرش، والمخيط غربي مادبا، وغير ذلك كثير.
وكان الرحيل والتنقل والتخفي والتنكر من وسائل البحث عن الأمن والحماية لدى الأردنيين القدماء. فإذا أوغلوا في الصحراء تعذر اللحاق بهم أيضاً . واذا كانت هذه التحركات باعداد كبيرة فانها تعتبر حينها نمطاً من الاحتلال لتلك الأقطار او الديار المجاورة وقد يؤدي إلى الحرب بين الوافدين والمقيمين , او بينهم والدولة التي تدعي الهبمنة على الديار التي تم اجتياحها مثلما حصل لبني هلال في حربهم مع الزناتي خليفة امير البربر في شمال المغرب .
وفي هذا السياق نضرب على ذلك مثلاً أن جون باغوت غلوب ( كلوب باشا ) وهو إنجليزي كان قائدا للبادية الاردنية ثم قائدا للجيش العرب يالاردني ، غضب ذات مرة من المغفور له الشيخ حديثه الخريشة ، فقال له: يا شيخ حديثة لا تعاند من إذا قال فعل. فردّ عليه حديثه رحمه الله: يا باشا: لا تعاند من إذا هدّ?Z رحل. فقد هدد غلوب باشا بقوة الجيش والإدارة وإلزام البدو على الطاعة وتنفيذ الأوامر , بينما هدّد الشيخ حديثه بالرحيل خارج الأردن، بحثاً عن الأمن والحماية، وتمسُّكاً بالكرامة التي يرى أنها أصيبت بسبب تدخل الإدارة في شؤون عشيرة بني صخر، أو فرع الخرشان.ان هذا المفهوم : لاتعاند من اذا هد رحل هو المفهوم نفسه للعشائر الاردنية عبر الاف السنين , وان اختلف الاشخاص الا ان العقلية في هذا الصدد لم تختلف , لانسجامها مع طبيعهة الارض والانسان .
وفي هذا نجد البدوي الأردني يتحدث دائماً عن الرحيل إذا شعر بالخطر أو لم يعجبه المنزل. وأما في حالات القتل فإن الرحيل الزامي على خمسة الجاني: ويُسمّ?Zى: الجلوة ـ أو الجلاء، وهو الرحيل الى مكان بعيد عن خطر الانتقام . لذا يقولون الهدّ?Zاد يهدّ والعدّ?Zاد يعِدّ، Al-haddad iyhidd wa "Laddad iyid".
أي أن من يقع منهم اعتداء على طرف آخر ويؤدي إلى القتل او كسر العظم او الاعتداء على العرض , فعلى خمسة الجاني أن ترحل (تجلو) وعليهم جميعاً هدم بيوتهم(بيوت الشعر) وتقوم لجنة عشائرية بعدّ التسلسل النسبي لهؤلاء وارتباطهم بالقاتل، وعلى كل من يقع ضمن الخمسة أن يجلو (يرحل) أو يدفع بعير النوم، أما من يزيد عن الخمسة فيعيد بناء بيته. وقد شرحنا ذلك مفصّ?Zلاً في كتابنا: القضاء عند العشائر الأردنية.
ونعود إلى مادار بين كلوب باشا، والشيخ حديثه الخريشة فالأول هدّد بالسلطة وقوتها، وكان ردّ فعل الثاني هو البحث عن الأمن والحماية الذي رأى أنه لا يتحقق بالمجابهة مع إدارة تملك الطائرات والجيش والمدافع والرشاشات، وإنما يتحقق بالرحيل، وبالتالي حرمان البلاد من جانب كبير من أهله وهم فرع عربان الخرشان في بني صخر الذي كان الشيخ حديثة شيخهم . وكان ذلك مصيبة على الإدارة لو حدث، ولا يعني الرحيل تنكُّراً للوطن، وإنما احتجاجاً على ما تقوم به الإدارة من الأذى ضد أبناء الوطن. كما ان هذا يعزز راينا ان الرحيل والتنقل عند البدو ليس من اجل الماء والكلاء فحسب , وانما طلبا لحماية او هروبا من اعتداء الدولة او اية سلطة احتلال .
ومن وسائل الأمن والحماية عبر تاريخ الأردنيين هي الخضوع للمحتل والتعايش معه، لذلك قالوا في أمثالهم: اللي يأخذ أمي هو عمي Whom he marries my mother becomes my uncil وقولهم الدولة دولة والعرب عرب The state is the state, and the people is the people فالدولة تأتي وتذهب، أما الشعب باقٍ. لذا فإن الثوابت عند الأردنيين أمران فقط هما: الأرض والإنسان فالشعب قادر على التكيف مع المتغيرات، والأرض موجودة يتكيف الشعب والإدارة الجديدة (بغض النظر عن الزمن) مع هذه الأرض.
ومن أقوالهم: خبي راسك عند مصاكل الدول (Khabbi rasak ind imsakal al-dowal).
Hide your head once conflict takes place between powers (or states in or around).
فالأردني إذا عجز عن المقاومة احتوى القوة وتعامل معها وخضع لها حتى حين. لذا فإنهم استمروا زمن الاحتلال الفارسي والديكابوليس والروماني، والصليبيي والعثماني.
ومن ضمن ذلك أيضاً الحركة المؤقتة، فهم يهربون من مكان الصراع إلى أماكن أخرى رحيلاً، إلى أن يتحقق الأمن فيعودون. فهم يؤمنون أن شيئاً من الخطر أو الأمن لا يدوم. وأن عليهم أن يحققوا لأنفسهم السلامة. فهم لا يواجهون العواصف وإنما يتجنبونها عند حدوثها وأن موقعهم قد جعلهم في حل من تحقيق الأمن لذاتهم.
سابعاً: البدو الأردنيون يدمِّرون القوى المحتلّة في نهاية المطاف عبر التاريخ سواء بفعلهم، أو بمساهمتهم في تهيئة أجواء، الضعف والهوان لهذا المحتل ليسقط عند قدوم قوة أخرى من الاحتلال. فقد استطاع البدو مهاجمة الديكابوليس (تحالف المدن العشرة) وإضعافها، ونهب خيراتها ومقدّراتها, وشن حرب عصابات ناجحة عليها , ذلك أن عملية النهب والسلب والحرق والتخريب والاستنزاف تفوق تأثيراً عشرات المرات لقوة الأعمار. وهذه العمليات النهبية أو التخريبية يتقنها بدو الأردن عبر التاريخ مما يضع قدرة المحتلين. وقد أشار ابن خلدون في مقدمته أن القدرة التدميرية للبدو بما يفوق القدرة التعميرية لغيرهم. فالتخريب لا يحتاج إلى هندسة ودقة، وإنما مجرّد خلخلة توازن الأشياء السوية ، وتكسيرها أو حرقها، فتصبح قاعاً صفصفاً .واذا كان الاعمار ياخذ طويل وقت فان الخراب لايحتاج الا القيام بالخراب وتدمير القائم .
ونجد الرومان قد أدركوا خطورة هؤلاء البدو الاردنيين ( والوافدين الى الاردن من قبائل جزيرة العرب وبلاد الرافدين ) ، وأقاموا مع بدو الاردن وقبائله تحالفات للقيام بمهمات حماية حدود الإمبراطورية من جهة الصحراء، ولاحتوائهم كي لا يتحولوا إلى أعداء، ولكي يكونوا حاجزاً بين الدولة والقبائل المتنقلة التي قد تغير قادة من جزيرة العرب والرافدين ثم تهرب إلى الصحراء بما نهبت ولا امكانية للحاق بهم او تاديبهم من قبل الرومان , وانما من قبل اخوتهم البدو العرب من اهل الديرة الاردنيين .وما كان الرومان ومن قبلهم اليونان ومن بعدهم الدول الاسلامية والصليبيون يتعاملون الا مع قبائل الديرة لانها حريصة على حماية ديرتها من البدو الغرباء والوافدين والمهاجمين ايضا , ولانها ايضا حريصة على ضمان السلامة من الاذى الذي قد يلحقه بهم الرومان . ان مبدأ الصراع من اجل البقاء كان واضحا في التكيف مع المعطيات والظروف , والتعامل مع الرومان الذين يتمتعون بقوة السياسة والسيادة والمال والجيش والسلاح , ولا يقهرهم الا الصحراء
كان التنوخيون القادمون من اليمن اصلا ( على اثر خراب سد مارب) إلى العراق ومن هناك إلى الأردن عام 230م وهم أصحاب خبرة في الإدارة والدولة والسيادة وتنظيم العشيرة، وتنصيب ملك منهم عليهم . ذلك أن أهل اليمن اعتادوا على ذلك لأنه لا تعمر البلاد، ولا تستقر ولا تتوفر الحماية للناس إلا من خلال دولة وملك بالنسبة لهم . وقد بلغ عدد ملوك التنوخيين بالأردن من حلفاء الرومان ثلاثة ملوك وهم: النعمان بن عمرو، وعمرو بن النعمان، والحواري بن عمرو.
إلا أن ملك الضجاعمة للأردن لم يستمر طويلا كما أن الرومان لم يقفوا إلى جانبهم ولم يزوّدهم بالسلاح والمال والرجال. فكان أن انهارت مملكة الضجاعمة التنوخية الأردنية أمام زحف فرع من فروع قبيلة قضاعة اليمنية، ألا وهو فرع سُل?Zيْح.
وقد وفدت سليح القضاعية اليمنية إلى مراعي مؤاب والبلقاء الأردنية الخصبة، واستطاعوا من خلال قوتهم ودهائهم وتجنب أخطاء الضجاعمة أن يقنعوا الرومان أنهم الحليف الأفضل الذي يمكن أن يحكم الأردن تحت سيادة الرومان لقاء المال والسلاح لأنه بالمال يمكن أن يتم تجنيد الرجال وإسكات الشيوخ. وشراء الزعامات. وشراء السلاح. ويقول العرب أن العرب لا تحكم إلا بالأحمرين: الذهب (أي المال) والسلاح (السيف)، وأن الاعتماد على واحد منهما لا يجدي نفعاً، فلا بد من المال، مع إشهار السيف ليقال للشيخ أو عشيرته، هذا ما تريد من المال فإن تمردت فالسيف حاضر.
من هنا نجد أن عادة العرب هي وضع السيف على الجانب الأيسر للرجل مع تعليقه بجناد على الكتف الأيمن، لتكون الجيبة اليمنى في متناول اليد اليمين. أي أن المال في الجيب اليمين، فإن عجز عن أداء مهمته في استماله شيخ أو زعيم أو قوم امتدت اليد اليمنى نفسها للسيف القائم على الجانب الايسر لاستخدامه. فالمال أولاً والسيف ثانياً.
بقي الرومان يعترفون بسيادة بني سليح القضاعية إلى أن ظهر الغساسنة، وكان لبني سليح مدينة معروفة وهي إلى الغرب من البقة في البلقاء، وتسمى: السليحي نسبة إلى بني سُليُح وهي الآن من أراضي قبيلة العدوان الأردنية.
للغساسنة قصة، وقد طال حكمهم للأردن، وبقي إلى أيام الفتح الإسلامي زمن سيدنا عمر بن الخطاب، وكان آخر ملوكهم الذي أسلم ثم ارتد هو جبلة بن الأيهم الذي عاش من 535-629. أي مائة عام إلا ستة أعوام. وكان من ملوكهم عمرو بن مزيقياء الذي كان على عرش مأرب اليمنية في القرن الثالث الميلادي، وهو الذي جاء إلى الأردن، ثم ال الملك من بعده إلى ولده عمرو، ثم إلى جفنة بن عمرو، لذل يُسمى ملوك الغساسنة: أبناء جفنة الذي عقّب الملك عمرو المحرّق، وهنا يطلق أحياناً على ملوك الغساسنة بني المحرّ?Zق , أو آل المحرّ?Zق , وبعد جفنة ملك عليهم جفنة الثاني وإلى رت أبي شمّ?Zر الذي سمته الروم: شامينوس ـ وكان الحارث الأعرج بن جفنة الثاني حكم من 521-569 وله ثلاثة أولاد هم الأيهم (والد جيلّة المشار إليه أعلاه) والمنذر الذي عقّ?Zب النعمان بن المنذر وهو ملك مشهور منهم أيضاً وتولّى الملك قبل جبلّة أي في عام 581. ثم ملك عليهم عمرو الذي مات عام 569م.
وإذا عدنا إلى المراجع العربية فإنها ذكرت أكثر من ثلاثين ملكا للغساسنة، ولكن الرومان لم يدوّنوا إلا عشرة منهم ذكرناهم أعلاه.
سمي الغساسنة بهذا الاسم لنزولهم على ماء في تهامة (الحجاز) يقال له غسّ?Zان فأصبح كل من نزل عليه يسمى الغساسنة. ورغم الأقوال المتناقضة حول تاريخ قدوم الغساسنة للأردن، فإنها لا شك جاءت بعد سقوط مملكة الأنباط. وأنها حطت رحالها في ديارنا في القرن الرابع للميلاد وذلك بعكس ما يقوله Mac Macheal في كتابه تاريخ العرب في السودان History of Arabs in Sudan.
حيث يقول بانهم وفدوا للأردن عام 37م، وهذا غير صحيح لأن مملكة الأنباط كانت في أوجها، وقادرة على صدّهم وكانت الاردن منممتلكات الانباط انذاك , وكانت اقوى مملكة اردنية في هذه الديار
كان للغساسنة دور هام في الأردن، حيث انضموا إلى القبائل اليمنية التي سبقتهم إلى هذه الديار مثل: قضاعة، وجذام، وبلي وبني عاملة، وبني سليح، والتنوخيين ، وصاروا جميعاً من رعية إمارة أو مملكة الغساسنة في حينه، مما وفّر الاستقرار، والازدهار للديار الأردنية وأهلها، مثلما كان أمرهم زمن مملكة الأنباط التي امتدت من محاذاة تبوك إلى دمشق شمالاً، وإلى سيناء وجنوب فلسطين غرباً. ولا تزال آثارهم بالنمط النبطي موجودة في كل بقعة في الأردن، وإن كان الناس يقولون: إنها آثار رومية. لأن كلمة رومية عند الأردنيين تعني القديم، وكلمة أرومة، تعني الأصل العريق الراقي، وبالتالي فإن كلمة رومي التي تطلق على هذه الآثار لا تعني أنها عائدة للعصر الرومي. وإنما أنها قديمة وأصيلة وربما عريقة ايضا .
وبهذه التحالفات تمكن الرومان من الاستقرار والإعمار في بلاد الشام برمّتها. كما أن الفرس أيضاً أقاموا مثل هذه التحالفات مع المناذرة في الحيرة/ العراق. وقد نشبت الحروب البديلة أو الحروب بالنيابة مرات عديدة وطويلة بين المناذرة والغساسنة، نيابة عن الفرس والروم , ومع هذا كان لا بد من الاصطدام بين القوتين الأعظم في بدايات ظهور الإسلام، مما أنهك قواهما، وجعل الظروف مهيأة للقوة الإسلامية البدوية القادمة من جزيرة العرب أن تسحق الرومان ومملكة الغساسنة (ولا أقول شعب الغساسنة) والفرس ومملكة المناذرة (ولا أقول شعب المناذرة).
فقد غادر الملوك الغساسنة والمناذرة قصورهم وديارهم والتحقوا بأسيادهم في القسطنطينية وفارس على التوالي , والتأم شمل العرب تحت راية جديدة وعقيدة جديدة ودولة جديدة هي الإسلام، بحيث صار الجميع بنعمة الله إخوانا وأن دم المسلم على المسلم حرام وكذلك عرضه وماله. فسبحان الله الذي يؤتي المُلك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويُعزُّ من يشاء ويُذلّ?Z من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير. إنه قدر الله سبحانه .
من هنا نعود إلى ما سبق وقلناه، إن جهل الشعوب لا يستحق التدوين وكذلك صمتهم وجبنهم وخذلانهم وخضوعهم , لانه عار عليهم وهم ذاهبون سواء اكانوا كذلك مع العار ام كانوا شجعانا رجالا لايقبلون الضيم يكللهم الفخار . وأن الدولة التي لا تقوم على العدل لا تدوم طويلاً، وأن أساس حياة الشعب هي الحرية والعدالة ثم العيش الكريم. لذا فإن القمع الروماني واليوناني والدول التي تعاقبت قد سام الناس خسفاً لفترات كل في حينه. لكنه انتهى إلى غير رجعة.
ثامناً: خطر الهجرات البدوية على الأردن، والهجرات غير البدوية فيما بعد : سبق وقلنا أن الأردن دار مستقرّ، ودار ممرّ، وأن المار قد يستقر إذا وجد الأمن والطمأنينة، مقرونا بتوفر الماء والكلأ بطبيعة الحال. وأن المستقرّ قد يرحل إذا أصاب القحط المتتالي هذه الديار، أو غشيتها موجات احتلال عسكري، أو مرور الجيوش من الأقطار المجاورة عبر الأردن، أو إليها مباشرة / اي اذا صارت خالية من الامن والطمانينة
لقد كان سيل الهجرات البدوية جارفا تارة، متقطعا تارةاخرى , لكنه استمر عبر حقب التاريخ، اولنقل انه لم يتوقف عبر مسار التاريخ . وكان ذلك من أخطر التهديدات والمخاطر على الشعب الأردني وأهل المدن، والبدو الذين ألفوا الديار وصاروا يتنقلون بين أرجائها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً, وصاروا جزءا منها .
لقد كان من أسباب هذه الهجرات:
1. ازدياد السكان في المناطق المجاورة (جزيرة العرب وبلاد الرافدين، بحيث يتعذر على ديارهم أن تستوعب أو تكفي أهليهم ومواشيهم ) .
2. الصراعات والحروب بين هذه القبائل في جزيرة العرب وبخاصة في نجد والحجاز والمنطقة الشرقية، بحيث يضطر المغلوب أو المعتدي المطلوب للثأر أن يهاجر إلى الأردن طلباً للأمن والحمايةليصبح بمنأى عن متناول ايدي الاعداء او الموتورين .
3. التجارة، فهناك تجارة اليمن والحجاز مع الشام وشمال افريقيا والغرب وحوض البحر الابيض المتوسط . حيث القوافل تسلك الطرق عبر الأردن، وبالتالي فإن هؤلاء التجار صاروا أصحاب خيرة بالأردن طرقاً وأرضاً وشعباً، وهذا ما ساعد بني أمية وكانوا سادة التجارة في قريش ومكة المكرمة أن يقيموا علاقات وطيدة مع أهل الأردن في الجاهلية والإسلام، وكانت النتيجة أن وقف أهل الأردن مع الأمويين في صراع هؤلاء مع غيرهم على كرسي الحكم . كما أن الخلفاء، والأمراء الأمويون اتخذوا من الأردن مكاناً للسكينة والراحة. وانتشر الحائر في الديار الأردنية وقد شرحنا بالتفصيل موضوع الحائر في جزء آخر من هذا الكتاب وهو: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية باللغة الانجليزية .
4. القحط والتصحّر: حيث أن أهل جزيرة العرب كانوا يتحركون باتجاه الأردن والعراق بحثاً عن مصادر ومقومات الحياة، إذا شحّت سُبُلُها ومقوّماتها عليهم في ديارهم . ولكن ذلك لم يشمل هجرة القبيلة برمتها، بل جزءا منها ضاقت بهم سبل العيش في مقامهم . ومن هؤلاء مثلا : قبيلة كندة نجد التي امتدت الى الاردن وبقي الجزء الاكبر منها في نجد . كما نجد غساسنة الأردن وقد بقي منهم اجزاء في الحجاز وهو يحملون اسم الغساسنة ايضا : اي غساسنة الحجاز. وكذلك قضاعة وبلي وبني عاملة وجذام التي اقتصرت هجراتها في الديار الاردنية والسورية والفلسطينينة وجنوب لبنان , لانها اقدم القبائل الاردنية التي لازالت موجودة الى الان على هذه الديار . فالهجرة بسبب القحط تكون أحياناً ـ وليس دائماً ـ حسب الحاجة، إذ يبقى قسم من القبيلة في الديار الأصلية تكفيهم مواردها , على أمل عودة المهاجرين منهم إليها إذا ما عاد غليها الخصب المعهود الكافي للحياة.
5. التمدد الطبيعي: إن العربي بطبعه كان لا يعرف للحدود السياسية في عقله وثقافته مكانا او حيزا ، لذلك فان جبال الشراة في جنوب الأردن مثلا هي في مفهومه أرض عربية واستمرار للحجاز، وأن العقبة هي في مفهومه استمرار للتهامة المحاذية للبحر الأحمر في أرض الحجاز، وأن واحة الأزرق الأردنية هي بالنسبة له امتداد لواحات الجوف وتيماء، وكلها امتداد للأحساء، وواحات نجد وغيرها من الواحات العربية في وادي السرحان.
إذن فهو حرّ يتنقّل حيث يستطيع حماية نفسه بالحرب أو التحالف، أو إقامة الأسوار أحياناً إن استقر في منطقة ماء , أو انضوى تحت جناح الدولة. فنجد السرحان في الأردن امتداد للسرحان في وادي السرحان الذي أصبح الآن جزءاً من السعودية، وأن السرحان هم من بني كلب القبيلة العربية الأردنية العريقة التي منها السيدة ميسون الكلبية زوجة معاوية بن ابي سفيان ، ووالدها والي للأردن زمن معاوية حسان بن بجدل الكلبي كما سبق وذكرنا .
6. البحث عن الأفضل. من طبيعة الإنسان أنه يبحث عن الأفضل ويرسل الرواد في الديار المجاورة هنا وهناك، فإن وجد فيها ماهو أفضل مما في دياره رحل إلى الديار الجديدة. وقد قام سيدنا إبراهيم ولوط عليهم السلام بإرسال الرواد إلى غور الأردن بحثاً عن مراعي لمواشي لوط فوجدوا ذلك في ديار المؤتفكات عندما كانت في اوج ازدهارها وخصوبتها .
كانت هذه الهجرات كابوساً يرعب الدول المتعاقبة من الفرس حتى قيام الإدارة بالأردن عام 1921، عندما غزا "الخوين" التابعون لابن سعود، أقول غزوا الأردن، وردّتهم بنو صخر والبلقاوية وعشائر الأردن الأخرى ردّ?Zاً رادعاً، مما حمى الأردن والأرواح من فتكهم وتخريبهم، حيث كانوا ينظرون إلى عربان الأردن على أنهم كفار، وكان واحدهم يقول عند قتل الأردني: اذبحوا الكافر، اذبحوا الكافر.
ولا بد من الاعتراف هنا أن اليونان قد أقاموا تحالف المدن العشرة الذي تحطمت بعد خمسة قرون ونيف أمام هجمات البدو الذين اعتادوا شن حرب عصابات على هذه المدن ومزارعها فانتهت قوتها وازدهارها قبيل الفتح الإسلامي بوقت قليل.
ولكن الدولة الرومانية قد وُفِّقت إلى درء مخاطر الهجمات البدوية فقامت بوضع حلول لذلك، للسيطرة على الأردن، واعتبارها الجبهة الشرقية للدولة الرومانية في كل من القسطنطينية ومصر في الآن نفسه.
1. قامت الإدارة الرومانية باعادة انشاء وتعبيد الطرق في الأردن، وأهمها طريق تراجان التي تأسست على طريق الممالك الأردنية، باشان، عمون، حشبون، مؤاب، أدوم حتى العقبة. مما سّ?Zهل حركة الجيش الروماني، وصار في متناوله قمع أية ثورة أردنية، وردع أية هجمات قادمة من الصحراء.
2. بناء القلاع والحصون والمدن، وكان منها تقوية ودعم المدن العشرة، وبناء مدينة فيلادلفيا على أعقاب مدينة ربة عمون، وبناء معسكرات في كل اللجون/ وادي الموجب، وفي أذرح إلى الشمال من معان وقد تقهقرت هذه القلاع والحصون والجيوش أمام جيش الفتح الإسلامي.
اتخذ الرومان قبائل البدو الأردنية لحمايتهم من هجمات بدو الصحراء، مقابل مبالغ من المال تؤدى اليهم سنويا , مما عزز الجبهة الأردنية الداخلية فكانت في حماية جيشين روميين هما: الجيش الثالث الذي كان مركزه بصرى والجيش الرابع الذي كان معسكراً في فرعين أولهما في اللجوء والثاني في أذرح شمالي معان، هذا فضلاً عن وحدات عسكرية تم تجنيدها من العشائر الأردنية ( قوات الباديو او قوات الصحراء ) لتساند الجيش الرومي، وهي قوة سيارة متحركة أشبه ما تكون بقوة الحدود الإنجليزية التي أنشأتها بريطانيا بالأردن عام 1942.وهنا نجد ان تاسيس قوات البادية الاردنية في الثلث الاول من القرن العشرين هو نسخة مطورة عن قوات البادية الاردنية زمن الرومان ,مع الفارق ان تلك تحت السايدة الرومية وهذه كانت بقيادة انجليزية , وكلاهما كان محتلا لبلادنا الرومان والبريطان .
وقد أدت هذه الإجراءات إلى ازدهار ملحوظ في الأردن، يتجلّى في المدرجات والمدن الأردنية والتي أُنشئت في هذه الفترة، مثل أم قيس، وجرش، وعمان، وقد ازدادت مساحات الأرض المزروعة في ظل الأمن والحماية والاستقرار، ووجود الجيش الروماني المعسكر في اللجون وأذرح وبصرى، ووجود قوات الحدود / البادية الأردنية المسلحة من أبناء العشائر، والمرتبطة بالقيادة العسكرية الرومية. وقد كان لبراعة العرب الأردنيين في تربية الخيول وركوبها والفروسية , أن صاروا موضع ثقة القيادة الروميةمثلما صاروا موضع القيادة البريطانية في القرن العشرين , فأرسلت منهم جنوداً للقتال في شتى أصقاع الإمبراطورية الرومانية ، تماماً مثلما فعل الإنجليز بالقوات الأردنية المسلحة (الجيش العربي) في مطلع القرن العشرين حتى قبيل منتصف ذلك القرن بالقتال في العراق وشمال افريقيا , كما ورد تفصيله في كتاب كلوب باشا: قصة الجيش العربي الذي ترجمناه إلى العربية The Story of the Arab Legion – J.B. Clubb.
وربما يعود السبب إلى الاستفادة من فروسية الأردنيين وشجاعتهم إلى ت?Zف?Zهُّم إمبراطور عربي شامي وصل الى سدّه حكم إمبراطورية الرومان والذي ورد اسمه بالرومي: كارا كولا. وقد شيّدت في زمنه قلعة في منطقة الحلابات عثرت قوة الطيران الملكية البريطانية في مطلع القرن العشرين على حجر منها اسم كارا كولا العربي، الأديابني، وقد حكم الإمبراطور العربي المذكور تسعة عشر عاماً (198-217م). وهي الفترة التي تم فيها تشييد قصر الحلابات.
وكما اعتمد الأنباط على جمع المياه في خزانات في الصحراء والجبال، بحيث حاولوا الاستفادة من كل قطرة ماء تنزل من لسماء او تنبع من الارض ، فإن الرومان قد استخدموا هذه البرك والخزانات النبطية العربية الاردنية لاستعمالاتهم واغراضهم , مثل: بركة الموقر، بركة زيزياء، وبركة صخرة (محافظة عجلون) وبركة العامرية (شرقي مدينة السلط)، وبركة دابوق التي تم طمرها في مطلع القرن الحادي والعشرين لتحويلها إلى مكان للبناء بسبب ارتفاع أسعار الأرض هناك. وهناك برك مائية في قرى البادية الشمالية أيضاً، كانت نبطية واستخدموها الرومان ثم المسلمون، ولا زال الناس يستفيدون من مياه هذه البرك حتى الآن (مطلع القرن 21).
تاسعاً: تغيُّر مسمّ?Zيات التحالفات العشائرية، والأماكن الجغرافية: قد شرحنا بالتفصيل كيف ينتقل الشعب الأردني في أدوم من تحت حكم أسرة حدد ، إلى أسرة ميشع، ويحافظ على نفسه، وكيف أن اسم المنطقة يتغيّ?Zر حسب المستجدات. وتتميّز العشائر والعقلية الأردنية بالتماشي مع التغيُّرات الجديدة باستمرار، والهدف هو الصراع من أجل البقاء Conflict for Survival. فهم يتكيفون مع ما يضمن لهم بقاءهم وحمايتهم وتغيير التسميات في كثير من الأحيان، والعودة إليها إذا تطلّب الأمر.
مثلاً: كان تقسيم معان إلى قسمين: الشامية وهو الجزء الشمالي الذي يلي الشام، والحجازية وهو القسم الجنوبي الذي يلي الجنوب (القبلة)، ولكل قسم عشائره الخاصة بهم، وشيوخهم وزعاماتهم ولكن إذا وقع خطر على معان توحّد القسمان معاً على أنهم عشائر معان، وأن مدينتهم هي معان. والأصل في القسمين حسبما ورد في كتب الرحالة المسلمين أنه تم بناء حي للقادمين من الشمال والشرق وهو الشامية ، وحي آخر للقادمين من الجنوب والغرب يسمى الحجازية. ثم توسّ?Zع الحيّ?Zان، وصارت مدينة واحدة موحدة.
ولكن اصطلاح عشائر الشامية والحجازية أخذ يتلاشى ولا يظهر إلا وقت الانتخابات لغايات التصويت فقط، , ثم يختفي باعتبار الجميع أبناء معان، وأن التفرقة بينهم مرفوضة رفضاً قاطعاً، وصار من هم خارج معان يطلقون كلمة "المعانية" على أهل معان جميعاً، ولا ينتسبون لاصطلاح الشامية والحجازية.
أما الكرك فكانت قسمان: الشراقا (أي عشائر الجزء الشرقي من الكرك)، والغرابا (أي عشائر الجزء الغربي من الكرك) ولكن ذلك اختفى الآن مطلع القرن 21 وصار الناس يقولون كركية لتعني أهل الكرك ومحافظة الكرك، أو اسم العشيرة التي يريد الحديث عنها مثل: الضمور، الحمايدة، العمرو، مجالية ، هلسة دون الإشارة إلى الدين أو المكان شراقاً أو غراباً.
وأما السلط فكانت عشائرها تنضوي تحت عنوانين كبيرين هما: الحارة والأكراد، ويضم كل قسم عئائر مسلمة ونصرانية أيضاً، وقد اختفى اصطلاح حارة وأكراد، ولم يعد يستخدم إلا وقت الانتخابات النيابية والبلدية ثم يغيب عن المسرح والاستخدام. وصار الناس يقولون لعشائر السلط عامة: السلطية أو السلطيون، كما يقال العدوان أو العبابيد، لتعني الأولى كل عشائر العدوان ومن ينضوي تحت لوائهم، وتعني الثانية جميع بني عباد في محافظتي البلقاء والعاصمة وسائر محافظات الأردن.
وعندما صدر كتاب تاريخ شرقي الأردن وقبائلها تأليف فردريك بيك وتعريب بهاء الدين طوقان، نجد أنه يذكر العدوان نسباً وهم أبناء فايز الذي سمى ولده عدوان وصار ذلك اسماً لأعقابه من بعده (ص232) ثم يذكر في ص377 أن هناك عشائر تتبع العدوان وتسمى القرضة وهم (كما يقول) خليط من عربان شتى التفوا حول العدوان أثناء قتالهم ابن مهدي، وذكر اسماء عشائر القرضة في الصفحة 377.
ما أريد قوله هنا، أن كلمة القرضة قد اختفت الآن وصارت كلمة مؤذية وذات معنى غير مريح لهذه العشائر الكريمة ، وصار إطلاقها على أي من هذه العشائر التي ذكرها فردريك بيك مرفوضا . وهذه حال العشائر الأردنية عبر التاريخ لا تتوانى عن تغيير الأسماء والاصطلاحات حسبما هي الغاية التي يسعون إليها . فعندما كانت العدوان تحمي هؤلاء من الآخرين، كانوا يعتزون بالاسم وبتبعيتهم للعدوان، أما الآن فإن قانون الدولة قد ساوى بين الجميع، وحلّت الدولة محل القبيلة في حماية الأشخاص والعشائر.
وفي عشائر عباد، ذكر بيك باشا في الكتاب أعلاه، أن تقسيم عباد كان حتى مطلع القرن العشرين بين الجرومية والجبورية، وقد اختفت هذه الاصطلاحات وصارت التقسيمات الجديدة. عباد الشمال الموجودين في محافظة البلقاء مكان الجرومية، وعبابيد الجنوب (الموجودين في محافظة العاصمة عمان، وغالبيتهم في لواء وادي السير) بدلاً من الجبورية.
قد يأخذ البعض على العشائر الأردنية هذا المأخذ بالتكيف والتغير حسبما هي مقتضيات الظروف , ولكن من وجهة نظري أن ذلك أمر طبيعي ومنسجم مع مبدا الصراع من اجل البقاء , وأن هذه العشائر، قادرة على استيعاب المستجدات والتعامل معها بما يحقق مصالحها . فعندما لم تعد التسميات القديمة قادرة على اداء الغرض أو المهمة أو الرسالة التي كانت من قبل، وان هذه المهمات قد تغيّرت، ودخلت مستجدات تستدعي التعامل معها بلياقة. فضلاً أن التسميات القديمة كانت تؤدي غرض الحماية والقوة، أما الآن فإن قانون الدولة كاف للسماح لأراذل الناس أن يسجنوا أفاضلهم في حالة مخالفة الأفاضل للقانون ضد الأراذل او في حالة التبلي على كرام الناس .
عاشراً: الدول التي قامت بالأردن هي دول زراعية وتجارية، وقليل منها عسكرية، فالأدوميون والمديانوين، وأصحاب الأيكة وقوم لوط، وأهل مدين. كانوا يمارسون التجارة كما ورد في القرآن الكريم، وتحدثنا عنه سابقاً في هذا الفصل . وربما تكون دولة أدوم هي أكثر الدول استعداداً حربياً في الأردن في الجنوب وكذل دولة باشان في الشمال . أما دولة حشبون فقد تم القضاء عليها في بداية ظهورها، وأبيدت على أيدي الإسرائيليين ملكاً وشعباً، ولو أنه أتيح لملكهم حشبون أن يبقى سنوات طويلة كسائر الملوك في منأى من الإبادة لاحتلّ عمون وتوسّ?Zع إلى نهر الزرقاء، وصارت مملكته من نهر الأردن غرباً إلى الجوف شرقاً، ومن الزرقاء شمالاً إلى الموجب , بل ربما الى الحسا او العقبة جنوباً.ولكن الصراع غالبا مايؤدي بالشجعان ويحمي الجبناء الذين يختبئون وراء هؤلاء الشجعان .
لقد استطاع ملك حشبون الصاعد أن يدمر قوتين في حينه، مملكة مؤاب ويحرر منهم مادبا إلى الموجب، ومملكة عمون ويحصرها في ربة عمون وضواحيها وقد أصابه الغرور لهذا الانتصار فوقف ضد القوة الإسرائيلية فأبادوه إبادة شاملة كاملة، ولو كان استخدم عقله لحالف بني إسرائيل وسمح لهم بالمرور، وحقق هدفه ومخططه الذي ذكرناه أعلاه.
أما مملكة باشان فكانت زراعية تجارية عسكرية أيضاً، وقد كرّست بنو إسرائيل سائر قواها للقضاء على هذه المملكة . ودعاء أنبيائها للتغلّب على ملكها أوغ وكانوا يعتبرون (أي الباشانيون) من العمالقة. وهناك خرافات حول طول كرسي الملك أوغ وأن طوله اثنا عشر ذراعاً، وهذا نمط من الوهم الإسرائيلي، في محاولة منهم تعني أنهم استطاعوا التغلب على هؤلاء العمالقة، إذن فهم (أي الإسرائيليون) عمالقة العمالقة.
وهذا النمط من مدح العدو والمبالغة في قوته وشجاعته موجود في الأدب العربي أيضاً، حيث أن الفارس يمتدح ضحيته في معنى خفي يعني أن القاتل أو المنتصر كان من القوة والشجاعة بما يفوق ما كان لدى الخصم رغم شجاعة هذا الخصم . ونضرب مثالاً على شاعر فارس اسمه البشر إذ يخاطب أخته فاطمة بعد قتله لأسد إذ يقول:
أفاطِمُ لو ش?Zهِدْت ببطن خبتٍ
وقد لاقى الهِزْبر أخاك بشرا

إذاً لرأيت ليثاً رام ليثاً
هزبراً أغلباً لاقى هزبرا

فقد شبه نفسه بالليث، وبالهزبر الأغلب الذي قتل الأسد الغاضب.
كانت الممالك الأردنية عبارة عن عشائر في الأصل استقرت كل منها ضمن منطقة جغرافية محدودة، وتحوّ?Zل شيوخهم إلى ملوك، وديرتهم إلى مملكة. وإذا وجدنا الكنعانيين في فلسطين قد توحّدوا في مملكة واحدة استطاعت أن تدافع عن نفسها من الهجمات البرية والبحرية فإن أبناء عمهم العموريين في الأردن، قد صاروا عدة ممالك كما قلنا، ولم يكن بمقدورهم استغلال المعادن والموارد الطبيعية بالشكل المطلوب، بل كان استغلالاً بدائياً زراعياً، ولم يظهر منهم علماء مثل الأمم الأخرى ليصنعوا لهم حضارة وإبداع في الاختراعات، وأن أفضل ما أنجزته الممالك الأردنية هو ما حققه الأنباط في نحت البتراء التي صارت من عجائب الدنيا السبعة (2007م).
أما مملكة أدوم فقد كان لها أسطول بحري، وجيش بري استطاع أن يقهر بني إسرائيل وأن يمنعهم من المرور بأرضه أو احتلالها. وأن الملك الذي أشار إليه القرآن الكريم في سورة الكهف أنه كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، هو ملك أدوم الأردني وهذه الإشارة القرآنية الكريمة تبيّن ولع الملك الأدومي بمصادرة السفن الصالحة في بحر العقبة، وهذا يعني وجود ميناء، وقوة بحرية تتعقّب هذه السفن، وقوّة تجبر من في هذه السفن على الإبحار نحو ميناء خليج إيلة (العقبة).
وإن تنبه مملكة أدوم لاهمية القوة البحرية قد زاد من سطوتها واطال في عمرها، كما جعلها مستهدفة من بني إسرائيل، وقد أقامت هذه المملكة تحالفات مع فراعنة مصر. ففي حوالي عام 1220 ق.م كتبت مخابرات الفرعون رعمسيس الثالث آنذاك تقريراً مفاده، أن جماعة من بدو الأدوميين مرّوا بوادي الطميلات في المنطقة الشرقية من النيل، وذلك لرعي ماشيتهم في تلك الديار وعندما تكرر ترددهم إلى هناك اعتبر الإمبراطور رعمسيس الثاني فيما بعد أن هؤلاء يشكلون خطراً على مملكته فأرسل حملة لطردهم من بلاده، واستمرت في مهمتها حتى وصلت جبال الشراة ووادي عربة. وهذا يدل على انه كان لدى مملكة ادوم ثروة حيوانية هائلة وانها كانت تمر بفترات قحط تلزمهم التحرك الى حيث وقرة الماء والكلاء في شرقي وادي النيل , وانهم لم يكونوا بدوا بلا هوية , بل متنقلون مع التصاقهم بهويتهم الوطنية , لذا جاء في تقرير المخابرات المصرية انذاك وصفهم بانهم بدو الادوميين , اي الجانب المتنقل من سكان مملكة ادوم .
ومن هنا نجد أن مملكة أدوم كانت رعوية أيضاً فضلاً عن الزراعة والتجارة والقوة العسكرية. إذ استطاع الملك الأدومي الشهير حدد / هدد أن يغزو المملكة المديانية الممتدة إلى جنوب أدوم في مناطق حسمى وشواطئ البحر الأحمر. حتى تبوك، وأدبهم ومنعهم من إيذاء مملكته. وبقيت أدوم قائمة حتى زمن الملك داود. ولم يستطع السيطرة عليها أو احتلالها. وقد أغاظت قوتها النبي داود?Z فجرّ?Zد عليها كامل قوته، وطرد ملكها / هدد / حدد الثالث كما يذكر العهد القديم في سفر الملوك وسفر العدد. حيث هرب هدد / حدد المذكور إلى مصر وتزوج من أخت الملكة تحفنيس امرأة الفرعون شيشونك الأول (945-924 ق . م ). وعاد إلى بلاده أدوم وحررها من الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك فعلت ممالك مؤاب وعمون إذ استعادت استقلالها وحررت نفسها من هذا الاحتلال ولم يبقى لليهود بعد ذلك في شرق الأردن موطيء قدم سوى بقعة قريبة من العقبة تدعى : عصيون جابر والتي صارت شوكة في خاصرة المملكة الأدومية ومنها انطلقت القوة اليهودية للقضاء على أدوم في القرن التاسع قبل الميلاد.
والمملكة الأردنية العسكرية بالمعنى الحقيقي في مفهوم ذلك الزمن : هي مملكة مؤاب في زمن ميشع، وهو أعظم ملوك الأردن في التاريخ، حيث آل إليه عرش مملكة مؤاب في حوالي عام 860 ق.م، وترك سجلاً عظيماً من الشجاعة وصدق الحب لوطنه وشعبه وبغضه لبني إسرائيل، ورفضه للاحتلال، وهو الذي دوّن انتصاراته وإنجازاته إلى حجر ذيبان البازلتي الذي تم اكتشافه في ذيبان عام 1868م، وقد تم نقله إلى فرنسا، ورايته شخصياً في متحف اللوفر في باريس في شهر أيلول عام 1998م.
لم يرفض الملك ميشع دفع الأثاوة للإسرائيليين فحسب، بل توسّ?Zع بحدوده إلى معان، والكرك واتخذها عاصمة له، وزوّدها بصهاريج المياه، ولا زال اليهود يذكرون ما لقهوه من الذل والهوان على أيدي ميشع لذا فهم يدّعون أنهم هزموه هزيمة منكرة، إلا أن حجر ذيبان لا يشير إلا إلى انتصاره هو على بني إسرائيل. وان مجرد التقش على الحجر يدل على النصر حقيقة وانه كان في راحة بال ونشوة انتصار , لان نقشه لابد واخذ عدة سنوات من العمل الدؤب .
وقد تآزرت العشائر الأردنية وتكاتفت في باديء الامر على مهاجمة ملك يهوذا (873-849 ق.م)، ولكن اختلافهم أدى إلى فشل مهماتهم , مما أغضب ميشع،الذي كان يريد وحدة الارض الاردنية وشعبها وكيانها , فسار إلى أدوم واحتلها وتوسع حتى صارت الأردن من مادبا إلى وادي رم ضمن مملكة مؤاب يحكمها ملك واحد هو ميشع . وعلى أية حال فإن العشائر الأردنية كانت تتكاتف من حين إلى حين وتغزو الممالك اليهودية في فلسطين وتفتك بهم.
وقد وردت نصوص حجر ميشع في كل من كتاب ترسترام أرض مؤاب The Land of Moab الذي ترجمناه للعربية، وفي الحوليات الصادرة عن دائرة الآثار العامة بالأردن، كما وردت ايضا في كتاب الرحالة فوردر في كتابه: بترا وبيريا وفينيقية الصادر عام 1923 كما أورده فردريك بيك في كتاب تاريخ شرقي الأردن وقبائلها Forder; Petra, Perea and Phonecia, 1923. وأما ترجمة النص فجاءت على النحو التالي: ننشره للفائدة مترجماً إلى العربية: وهي المرة الثانية التي ننشره، حيث ورد في كتاب أرض مؤاب الذي ترجمناه للعربية كما قلنا.
نص حجر الملك المؤابي الاردني ميشع: "أنا ميشع ابن لكموش ملك مؤاب الديبوني. حكم والدي مؤاب ثلاثين عاماً وملكت بعد والدي . بنيت محلاً عالياً لكموش في فورخا لأنه أنقذني من جميع الملوك وجعلني أزدري أعدائي . كان أومري ملك إسرائيل اضطهد مؤاب عدة سنوات لأن لكموش كان غاضباً على بلاده أثناءها. خلفه معاصري ابنه الذي قال "سأظلم مؤاب" لكنني أهلكته وبيته وإسرائيل هلاكاً أبدياً. استولى أومري على أرض مادبا وسكن عليها هو وابنه لمدة أربعين سنة، لكن لكموش افتتحها في عهدي. وقد شيّ?Zدت بعل ميون (ماعين) وعملت فيها خزاناً وأعدت بناء قير جاثان، سكن رجال جاد أرض عطروت (تدعى الآن عطروزة على خمسة أميال من جنوب ماعين)، حاربت المدينة واستوليت عليها. قتلت جميع أهل المدينة لِين?Zس?Zرّ?Z (من السرور) لكموش ومؤاب، وحملت منها مذابح عديدة، وسحبته أمام لكموش، في المدينة. ثم أسكنت فيها رجال شارون وماخاروت. قال لي لكموش اذهب وافتح نبو بالقرب من إسرائيل، فذهبت إليها ليلاً وحاربتها من الفجر حتى الظهر وتغلبت عليها وذبحت جميع سكانها، 7000 رجل وولد وامرأة وفتاة وطفل لأنني أوقفتهم إلى عشتور لكموش، وأخذت منها مذابح يهوا وجررتهم على الأرض أمام لكموش.
"وقد بنى ملك إسرائيل جهاز "أم الوليد" وقطنها حين كان يعلن الحرب عليّ ولكن لكموش هزمه أمامي . أسرت من مؤاب مائتي رجل وكل رؤسائها وأخذتهم جميعاً إلى جهاز التي افتتحتها وضممتها إلى ديون (ديبون، ذيبان).
"أنا الذي بنى قورخا والسور الخشبي والمتاريس وأعدت بناء بواباتها وأبراجها، وشيّدت قصر الملك، وحفرت مجاري خزانات المياه في المدينة. لم يكن في قورخا صهريج لهذا أمرت جميع الناس "ليعمل كل منكم صهريجاً في بيته" وحفرت أقبية قورخا بوساطة أسرى إسرائيل.
"وقد أعدت بناء عروعير (عراعر المطلة على وادي الموجب) وعبّ?Zدت الطرقات في أرنون (وادي الموجب)، وأعدت بناء بيت باروت لأنها كانت قد تهدّمت. أعدت بناء حزر لأن كل ديبون كانت خاضعة لسلطاني. وحكمت مائة مدينة ضممتها لسلطاني.
"أعدت بناء مأدبا، واستوليت على بيت دبلاثون وبيت بؤاة ميون وأخذت هناك صاحب الماشية، وقطعان البلاد وسكن الدبيانيون في حورونان وقالت ديبان... قال لي لكموش: اذهب وحارب حورنان فأطعت... سكن لكموش فيها مدة عهدي له". (انتهى نص حجر ميشع ملك المملكة المؤابية الاردنية ).
وبذلك نجد تبايناً في الترجمات لنص حجر ميشع، ولا يوجد نص معتمد للجميع، ولكنه في مجمله يشمل معنى عاماً شاملاً. متقارباً، وأن هذا النص يبيِّن أن ميشع هو أعظم ملك عرفه الأردن في التاريخ.
فهناك تركيز واضح على القوة العسكرية وتحرير البلاد من اليهود، ومعاقبة أدوم لتحالفهم مع بني إسرائيل، واحتلاله لمملكتهم أو لجزء واسع منها، وأنه قتل سكان الجيوب السكانية اليهودية التي أقيمت في دياره أثناء الاحتلال والهيمنة، وأنه قاد جيشه وشعبه بنفسه، وأشرف على القتل بذاته. وأنه كان متديِّناً وثنياً يعبد الإله لكموش، وتحدث عن أسماء ملوك اليهود الذين عاصروه وأنه قهرهم وقد ورد نصّ ميشع أيضاً في كتاب آثار الأردن تأليف لانكستر هاردنج بنص مناسب جداً.
عاشراً: يتميز الأردن في أن التاريخ تغيِّر على أرضه: وقد شرحنا ذلك مطوّلاً في كتابنا: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية بالانجليزية , وأشرنا إليه في كتابنا الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين. ولا بأس هنا من الإشارة إلى ذلك. فهناك معركتان فاصلتان هما مؤتة في جنوب الأردن، واليرموك في شماله كانتا طريق المسلمين إلى النصر على الروم وتحرير البلاد منهم، والتوسع نحو الشام شمالاً، وفلسطين ثم مصر ثم شمال أفريقيا غرباً. ذلك أن الجيش الذي اتجه إلى الغرب بقيادة عمرو بن العاص قد عبر الأردن إلى هدفه المذكور، كما شارك في معارك مع قادة الجيش الإسلامي الثلاثة الآخرين، وكان عدد الجيش برمته 24.000 مجاهداً مقسّمين على أربعة جيوش.
ولم يتمكن صلاح الدين من التقدم إلى القدس إلا بعد أن احتل الكرك وحررها من الصليبيين، ولم يحرر البلاد من هذا الاحتلال إلا بعد أن نصره الله في معركة حطين . وفي عين جالوت شاء الله نصر المماليك على التتار أيضاً فولّوا هرباً من بلاد الشام إلى غير رجعة. فعلى الأرض الأردنية وقعت هذه الأحداث الهامة التي غيّ?Zرت وجه التاريخ حقيقة. وعندما سقطت الأردن بأيدي قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وطرد الأتراك منها، ثم تحرير بلاد الشام خلال وقت قصير. فالأردن هو نقطة بداية التحرير لهذه الأقطار المجاورة وإذا كان بأيدي وقبضة المحتلّين من الشمال أو الغرب، فإنهم في م?Zن?Zعةٍ ما دام الأردن بأيديهم، فإن سقط منها، فقدوا بقية البلدان المجاورة جميعها.
وبذلك فإن الحقيقة التي أدركها المصريون القدماء والآشوريون والبابليون والحثيون والإسرائيليون هي أن الأمن والسلام في سوريا وفلسطين وسيناء متوقفان على أحوال الأردن، واستقرارها. وهي بلد المفاجآت التي قد تطلّ عليهم بموجة قادمة من جزيرة العرب أو العراق، أو حتى مصر. لذا كانت هذه الدول جميعاً تهتم بشؤون الأردن وممالكها وأحوالها عبر التحالفات والعلاقات.
ولا بد من الإشارة هنا أن سكان الأردن هم عرب منذ القدم لأنهم قدموا في أغلبهم من جزيرة العرب، أو العراق، أما من من جاء من مصر أو فلسطين فكانوا بأعداد قليلة تنصهر بسهولة في السكان الموجودين على هذه الأرض. أما الإسرائيليون فإن سكنهم في الأردن كان للاحتلال المرفوض الذي أنهاه الله على يد الملك ميشع ملك مؤاب. كما أن الإسرائيليين نظروا إلى الأردن على أنه الجبهة الشرقية المهمة لحمايتهم في احتلالهم لفلسطين، فضلاً عن أن الشعب الأردني تحت مختلف التسميات كان رفض مرورهم واستقرارهم , كما تحافت الممالك الاردنية مع والبابليين ضد الممالك العبرانية في فلسطين.
لقد حاولت في الصفحات السابقة إعطاء نبذة تحليلية عن الأردن، قد تكون ضرورية قبل التحدث عن تاريخ البلاد وأهلها. ولا شك أن ما قلناه أعلاه، ربما يكون كافياً لدحض حجج الكارهين لبلادنا. ومن حقنا أن نتحدث بمرارة وحرارة عن تاريخنا وبدون تعصّب، ولا تهجم على من سوانا.

الاهداء ان مداد القلم يبث الروح والطاقة بصورة متجددة ليس في الاشخاص فحسب , بل وفي الشعوب والاوطان والامم ايضا . فالاقلام قادرة على ايجاد الاوطان وقادرة على تحديدها وقادرة على شطبها من المعادلات والخرائط , والاقلام قادرة على ابراز الشعوب وايجاد مكان لها تحت الشمس مثلما هي قادرة على محوها من الخارطة والوجود , وقادرة على تثبيت الحكومات والحكام مثلما هي قادرة على الغائها من المعادلات , وقادرة على صنع التاريخ وتدوينه وعلى محوه ونقضه ايضا . ومخطيء من يظن ان الاقلام لاتمحو الشعوب ولا تطيح بالحكومات ولا تلغي الاوطان والتاريخ ولا تطوح بالكراسي واصحابها . وان اي شعب لا يوجد فيه مفكر وصاحب قلم ( ولا اقول كاتب مقال ) ماهو الا غثاء كغثاء السيل يذهب جفاء, وان الفكر اثمن سلاح بيد الشعب وصاحب الفكر , وان المفكر اهم من الثروة المالية والاسلحة الفتاكة , وان صاحب القلم والفكر اقوى منها جميعا . وان الارض ابتلعت قارون وداره وامواله لكنها عجزت عن ابتلاع القلم الذي لايساوي مفتاحا من تلك التي كانت تنوء بها العصبة اولو القوة . وان التاريخ خلد فئتين من اهل القبور : فئة اصحاب الفكر والرسالات من جهة , وفئة اصحاب السيف العباقرة / قادة التاريخ العسكري من جهة اخرى , حيث لازالت قبورهم موجودة احتراما لما كانوا عليه من الفكر والقلم والسيف . وما عداهم فلا وجود لقبورهم الا الى حين من الدهر تصبح واياهم بعدها نسيا منسيا . 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد