كيف يكون الانتماء

mainThumb

20-05-2009 12:00 AM

هشام عبد الفتاح الخريسات

عيون كثيرة دمعت و هي تنظر إلى "مازن" في العناية المركزة بين الحياة و الموت بعد عملية جراحية أجريت له في الدماغ على إثر سقوط أدى إلى كسر في الجمجمة و إصابات أخرى بليغة و هو يحتضن مجموعة من السندات و الشيكات التي تخص عمله في إحدى المؤسسات ، و قبل أن يغيب عن الوعي يجتهد في تجميع قوى ذاكرته المتلاشية ليؤكد لمن أسعفوه أنه سقط بزلة قدم دون تسبب من أحد ليبرئ ذمته في لحظات كان يمكن أن تكون الأخيرة من حياته .

و في الوهلة الأولى التي استيقظ فيها على العالم وسط عاصفة من الآلام و التشنجات كان أول ما سأل عنه أمانته التي كانت في يده من حقوق للناس و معاملات هامة لمؤسسته و شيكات استبطأها أصحابها و لما يعلموا أنها مهرت بدماء "مازن" التي سالت غزيرة في تلك الحادثة .

و لم يكد "مازن" يبدأ رحلة الشفاء و التعافي حتى أصر أن يقضي فترة نقاهته في مقر عمله ضاربا بعرض الحائط كل توصيات الأطباء و تقاريرهم رغم أنه لا يزال مزنرا بالأربطة حول وسطه و ظهره و ترقوته و متوشحا جهازا معدنيا مساندا لكتفه و ذراعه يجعلها ممدودة إلى الأمام على الدوام كحال همته و هامته التي تطاول في شموخها هام الجبال ، مع أن الحادث الذي أصاب "مازن" من الخطورة و المضاعفات ما لو أصاب أحدنا لربما انقطع عن عمله شهورا طويلة تعكس واقع شح الإخلاص و ضعف الانتماء إلى مؤسساتنا التي نعمل بها و نعتاش من خيرها .

و القصة حتى هنا تبدو عادية و لكن غير العادي هو ما شاهدته صبيحة يوم حيث فوجئت بـ"مازن" في الطريق العام يتأبط بجهازه المعدني يده الممدودة و يتأبط باليد الأخرى جهاز الحاسوب الثقيل غير المحمول و يقطع به مسافة لا تقل عن خمسمائة متر من مبنى إلى آخر في مؤسسته يريد أن يستدرك ما فاته من أعمال خلال إجازته المرضية القسرية ، و يمشي بخطوات عسكرية سريعة و قوية يتعالى فيها على الضعف و العجز و الخور و الترهل الذي بات يسكن نفوسنا و أجسادنا و عقولنا .

كان منظرا مريعا بالنسبة لي ذكرني بالمرحوم الداعية المهندس أحمد قطيش الأزايدة عندما رأيته في أواخر أيام حياته و قد تآكل جسده بالمرض الخبيث حتى لم يعد يزن أكثر من خمسين كيلوغراما و هو يصعد درج مجمع النقابات المهنية درجة درجة في وهن و ضعف ليقوم بواجبه النقابي في إحدى المحطات الانتخابية .

ناديت "مازن"بملء فمي و صوتي الرخيم مناشدا إياه أن أحمل عنه ما يحمل و انطلقت خلفه بسيارتي أحاول اللحاق به خوفا عليه و إكبارا لموقفه و لكن همته الكسيرة الشامخة كانت أسرع من همتي و همة سيارتي المهيضة .

أما المحزن المؤلم في ذلك كله أن "مازن" كان في الليلة السابقة لهذه الحادثة حاضرا في حفل تكريم موظفي مؤسسته سعيدا مبتسما راضيا مطمئنا ، و لكنه لم يكن واحدا من المكرمين المميزين ، بل كان واحدا من مئات المتفرجين !

فلله درك و در كل موظف أردني علمنا بفعله لا بقوله و حاله لا بمقاله ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد