في ذكرى رحيل فارس الكلمة ملحم التل

mainThumb

23-12-2009 12:00 AM

حقا إننا نعيش في زمن اسود
الكلمة لا تجد من يسمعها
والذي مازال يضحك
لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب
أي زمن هذا
الحديث عن الاشجار
يوشك ان يكون جريمة
لانه يعني الصمت عن جرائم اشد هولا
[ الشاعر الالماني برثولد بريشت


تصادف هذه الايام الذكرى السنوية لرحيل فارس من فرسان الاردن هو المرحوم الاستاذ ملحم وهبي التل المكنى بأبي يوسف . المرحوم من مواليد مدينة اربد سنة 1933 انخرط في العمل السياسي منذ نعومة اظفاره لاسيما وانه من عائلة وطنية ، وعمل معلما في مدارس قرى اربد ثم التحق بكلية الحقوق في القاهرة وبعد اكماله لدراسة القانون عاد الى وطنه ولم يمارس المحاماة ، حيث انصرف عن هذه المهنة بسبب انهماكه في العمل السياسي وتكريسه جل وقته للصحافة والسياسة والدفاع عن الوطن والمواطن ، فأصدر جريدة الرقيب التي كانت تعبر عن نبض الشارع وهموم المواطن الا انه تم ايقاف صدورها ثم التحق في عدد من الوظائف الحكومية فعمل مديرا ومؤسسا لوكالة الانباء الاردنية - بترا حاليا - ورئيسا لتحرير جريدة الراي الاردنية واخيرا مديرا للدائرة السياسية في وزارة الخارجية برتبة سفير ثم عزل بقرار من الحاكم العسكري .
وبالرغم من ان المرحوم ملحم التل من الذين قدموا الكثير لهذا الوطن فان ذكرى وفاته تمر دون ادنى التفات شانه في ذلك شأن الكثير من رجالات هذا الوطن الذين يعانون من الجحود والنكران فلا احد يتذكرهم او ينصفهم حتى بعد رحيلهم . والذاكرة الاردنية مليئة بالاسماء والرموز التي ظلمت وحكم عليها بمقاييس وبمنطلقات لو طبقت على سعد زغلول ومصطفى كامل ويوسف العظمة ونهرو وارنستو جيفارا وغيرهم لخرج هؤلاء الثوار الابطال اقزام وعملاء لابد من نبش قبورهم وتحطيم صورهم وتماثيلهم وصب الغضب واللعنة عليهم .
وما ينطبق على المرحوم ملحم التل ينطبق على الكثير من ابناء هذا الوطن ولا نعرف عنهم الا القليل وهذه سيرة جيل لابد من التعرف عليها بكافة جوانبها الادبية والسياسية والنضالية وهذة امانة يجب من باب الوفاء ان نحفظها لهذا الجيل الذي سبقنا حتى ينصفنا الجيل الذي سيلينا .
لقد شغفت بالمرحوم ملحم التل منذ ان تعرفت عليه وانا طالبا على مقاعد الدراسة في جامعة اليرموك في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ولما كنت شابا اردنيا عربيا اؤومن ايمانا مقدسا بالاردن بعد ان اصبحت قريبا مقربا من المرحوم ملحم التل ولا سيما بعد تاسيس حزب الجبهة الاردنية العربية الدستورية تحت قيادته.
كان المرحوم صاحب مدرسة في العمل السياسي تميزت ببعد النظر وعمق الفكرة وكانت رؤيته تقوم على ضرورة وضع معيار للعمل الوطني وكان معياره في ذلك الاردن وكانت مسطرة العمل الوطني تنطبق من مبدأ ما ينفع الاردن ويحفظ حقوقه ويصون هويته ويحقق مصالحه نقبل به وما لا يجدي الاردن نبتعد عنه وانطلاقا من هذه الفلسفة رفع المرحوم شعار : كلنا للاردن والاردن لامتة وهو شعار قريب جدا من شعار الاردن اولا ان لم يكن متقدما عليه.
لقد عاش ملحم التل من اجل الاردن وكان دائما وابدا رابضا في عروقه وقد تحمل في سبيل ذلك الكثير فقد عشق زيتون برما وعنب عجلون وبلوط جنين الصفا والقينوسي في سموع وجميد الكرك وقمح حوران وصابون نابلس ، كما امن بوحدة الديار الشامية كمقدمة للوحدة العربية الشاملة .
كان فخورا بالاردن وتاريخه ومواقف وبطولات الكثير من زعماء من امثال : حسين الطراونة ، عودة ابو تايه ، عبد الله التل ، سليم الهنداوي ، مثقال الفايز ، سعيد المفتي، صايل الشهوان ، حديثة الخرابشة، كليب الشريدة ، صياح الحديد ، ماجد الحمود ، شاهر الحديد ، راشد الخزاعي ، سليمان الروسان ، قاسم الهنداوي، فواز الزعبي، عطيوي المجالي، ناجي العزام ،على نيازي التل، هاشم خير ، تركي كايد عبيدات ، حمد الجازي، منصور القاضي، بشير الغزاوي، سلطان العدوان ، رفيفان المجالي ، سعيد باشا الصليبي ، عودة القسوس ، سليم البخيت ،سالم ابو الغنم ، مصطفى المحيسن ، محمد قباعبه ، طاهر ابو السمن ، سعيد ابو جابر ، حامد الشرايدة ، عبد القادر التل ، عبد الحليم جردانه، محمد السعد البطاينه، حسين الطوالبه، ظاهر الفايز، نايف الخريشة، نواش ابو دلبوح، جلال القلاب ، فيصل الدغمي، طلب ابو عليم ، محمد اخو رشيده، حماده الفواز ، صيتان الماضي،سعود القاضي، عضوب الزبن ، وغيرهم من رجالات هذا الوطن الذين تبقى اسماؤهم ومواقفهم حية في الذهن والذاكرة.
وقد كان المرحوم جزءا من المعارضة السياسية اختلف مع الكثيرين في هذا الوطن وكان خلافه برجولة ومبدئية وثبات، ومن اجل الوطن واتفق مع الكثيرين بشرف ورجولة من اجل الوطن ايضا، فبقي المرحوم ملحم التل كبيرا يحظى باحترام وتقدير من اختلف معه ، مثلما بقى كبيرا بنظر الذين شاركوه وجهة النظر والاجتهاد واتفقوا معه ، فكانت مسيرته تجربة رائعة رائدة.
لقد امن ملحم التل ان المعارضة ليست من اجل المعارضة فالموضوعية والعقلانية والشفافية والرقابة والمحاسبة والنقد البناء هي في مقدمة اهتمامات المعارضة من اجل العدالة والحرية والتطور ذلك ان النضال من اجل التغيير نحو الافضل هو سنة الحياة ، وسبيل التقدم والازدهار والاستقرار والمرحوم اذ امن بهذه المبادىء لم تلن له قناة ولم يستسلم لضغوط ولم يضعف امام مغريات مثلما نشاهد هذه الايام بصور فاضحة كيف يتقلب ويتلون الكثير من اجل جمع المال وتضخيم الثروات وتحصيل الجاه ورفعة المقام والسعى الى المجد الزائف كل ذلك بطرق غير شرعية لا بل فيها إساءة وفساد وإفساد وتقديم للمصالح الفئوية والشخصية على المصالح الوطنية والقومية ، وفي هذا المقام فانه تجدر الاشارة الى اننا نخطىء خطأ فاحشا حين ننظر للمعارضة نظرة شك وارتياب ذلك ان الطلب المتزايد والتقدير الكبير للمعارضة في العالم المحتضر والاسيما في ديمقراطيات أوروبا الغربية تؤكد على ان السلطة مفسدة ، وان المعارضة مصلحة وطنية وصمام امان تهدف الى صون الحياة السياسية من الاضطراب ومداها الاستقرار والتوازن ، ان من المؤسف ان المعارضة السياسية في العالمنا العربي منبوذة وينظر لها بعداء وتشكيك ويصل احيانا الى مرحلة التكفير والتخوين وهذا بحد ذاته دليل على ازمة سياسية وفكرية واخلاقية في المجتمع . واذا كانت المعارضة حزء من نظام الحكم القائم على احدث ما انتجتة العقول البشرية ، وامتن ما دلت تجارب الامم على انه خير اصل للحكم ، فانني اثير علامات استفهام حول مصداقية كل من ينظر الى المعارضة نظرة سلبية ذلك ان النظرة السلبية للمعارضة تنطوي على كثير من الخداع والتمويه وضيق في الافق وقصر في النظر .
وتتالت الايام وسافرت الى الولايات المتحدة لمتابعة دراستي ودابت على الاتصال بالمرحوم وقد كانت الغصة تملا صدري وانا اسمع عن تراجع مسيرة الحزب وعن تفرق الاصدقاء وتنكر الكثير منهم للقيم والمبادىء والافكار ومن ثم الابتعاد عن الحزب ، وما ان انتقل المرحوم الى الرفيق الاعلى حتى اصبح الحزب جثة هامدة شأنه في ذلك شان الكثير من الاحزاب السياسية في الاردن التي هي في واقع الامر ميتة وان لم تدفن بعد، رغم ان ثقافتنا تؤكد على ان اكرام الميت دفنه .
لقد رحل ملحم التل وسمعت الكثير الكثير عن المرحوم وحرت في اختلاف الناس في التقييم بين الاتهامات والقدح المتطرف وبين التمجيد والمدح الممجوج وخوفا من ان يطوي الزمن الحقيقة ولا سيما ان عددا كبيرا من رفاقة الاقارب والاباعد اطال الله في اعمارهم ومتعهم بالصحة والعافية ودوام التوفيق لا زالوا على قيد الحياة اذكر منهم د. سعيد التل ، د.هاني الخصاونة ، د. على محافظة ، د. احمد عويدي العبادي ، د.طارق مريود التل، د.محمد بني هاني ، د.فارس ظاهر الفايز، د. شاهر الرواشدة ، د.احمد العوايشة، د.سلطان ابو تايه ، الصحفي محمد ناجي العمايرة ، الصحفي ناهض حتر ، الصحفي طاهر العدوان ، السيد زياد ابو غنيمة، السيد فيصل البطاينة ، السيد هاشم غرايبة ، السيد شايش الخرايشا ، السيد صالح الكنيعان الفايز ، السيد عبدالله ابو رمان وغيرهم مدعوون للمبادرة، والادلاء بارائهم من اجل كشف الحقيقة واماطة اللثام عن هذا الرمز الوطني ذلك من اجل رفع الظلم والتجني ووقف التباين والتناقض في الاراء والاحكام ، بغض النظر عن اية تحفظات لدى البعض ومهما كانت الصورة عن المرحوم فان بمقدوركم انتم وامثالكم من رفاقه ان تغيروا الى الاجمل والاكبر والاروع .
ولما كنت واحدا من الذين رافقوا المرحوم في جزء من سيرتة فاشهد انها كانت من ازهى لحظات عمري تلك الساعات التي كنت اقضيها بصحبتة وهو يقدم البرهان تلو البرهان وبصراحة وبجراءة على صحة موافقه واجتهاداته ، انني اقدم شهادة حق واقول كان ملحم التل الانسان المفعم نكرانا للذات مثالا في الزهد والشجاعة والتضحية والجرأة والحكمة نزيها يحرص كل الحرص على المال العام عاش ومات فقيرا بسيطا متواضعا لم يملك سيارة فاخرة او قصرا منيفا لكنه عاش سيدا مفكرا اردنيا عربيا حرا يدافع عن الوطن والحرية والعدالة متمسكا بمبادئة السامية ، وكان فخورا بانتمائة الى البسطاء والرعيان والحراثين من ابناء هذا الوطن وكان يزعجة ايما ازعاج ان يرى او يسمع اية اساءة او تطاول على الاردن او رمزوه وكان يقول مسكين هذا الوطن ماكول مذموم.
لقد ترك ملحم التل مواقف نعتز بها ونعتبرها مرجعا ننهل منه وبوصلة نهتدي بها في الايثار والمبدئية والالتزام وحب الوطن واحترام المعارضة وغيرها من القيم والمثل والشيم والمبادىء التي تعتبر مصدر اعجاب وتقدير ومبعث اتباع وتاييد ، ولا اظن اننا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان ذاكرة الاردن مليئة بالاسماء من امثال المرحوم ملحم التل والذين علينا واجب انصافهم اسوة باهتمامنا وانصافنا الكثير من الممثلين والمغنين والراقصين واللاعبيين وغيرهم ممن تتسابق وسائل الاعلام على نشر صورهم وتقصي اخبارهم تلبية لاذواق القراء والمشاهدين واذا كان يصعب على امثال ملحم التل منافسة مثل هؤلاء فاننا نؤمن بالعمل الصادق الصامت لا بالضجيج الصارخ ان نعيد الاعتبار الى ملحم التل وننصفه ونرتفع الى هذه المرتبة في التعامل مع رموزنا وقضايا مجتمعنا وآمال امتنا ، آمل ذلك .
اخيرا ابا يوسف كل الاحزان بمرور الايام تصغر وتدفن في رمال الزمن الا حزني عليك فانه يكبر ويكبر .
ابا يوسف اعجر عن وصف حالنا ولكن بمرارة اقول كنا قبل رحيلك بحال وبعدك اصبحنا بشر حال ، فبغداد تحترق والقدس تنزف والفقر والقهر والاغتيال والدمار والكبت والحرمان والديمقراطية الناقصة الفاسدة والفساد والاستبداد والموت في كل مكان من ارض العرب .
الرحمة لاستاذنا ملحم التل والمجد والخلود لكل شهداء وابطال ورجال الاردن .
وختاما اقول: يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضيه ، وادخلي في عبادي وادخلي جنتي صدق الله العظيم



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد