قدرة الله تعالى في تغيير خصائص المخلوقات

mainThumb

08-09-2009 12:00 AM

د:حسن فالح بكور

مما لاشك فيه أن خالق الكون قد أبدعه وجعله في أحسن تصوير ,وأودع فيه الصفات والخصائص والعناصر التي من شأنها إحداث التوازن الكوني وأداء الوظائف المنوطة بها على أكمل وجه وتسخيرها جميعا لخدمة الإنسان المكلف بالخلافة في الأرض وأداء الرسالة وحمل الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال , مصداقا لقوله تعالى " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها , وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا"
ومن اجل هذا الاستعداد الذي أخذه الإنسان على كاهله , كان التكريم الإلهي له بتسخير الكون كله له , فغدا البحر ميدانا فسيحا يتبختر في ارجائه ويستخرج كنوزه ويرتحل من خلاله الى الدنيا بأجمعها فيجوب الأقطار ويحط رحاله في شتى الأمصار والأصقاع . ويركب الفضاء ويكتشف كواكبه بما آتاه الله من العلم والهداية وبتوفيق من الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن استطعتم ان تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا ولا تنفذون إلا بسلطان " ويجعل الله الارض وما عليها مذللة بخيراتها ونعيمها للإنسان الذي أضحى سلطانا على وجهها وتنقاد له كل الكائنات, واذا كانت ارادة الله قد اقتضت ان تكون الخلافة والسيادة للإنسان الذي يشكر الله على آلائه ونعمائه , فإن من يطغى ويتجبر في الارض وينسى الخالق ويكفر بآياته , فإن عقوبته ستكون من خلال توظيف النعماء التي جحدها وتنكر لها وكفر بها , فسبحان الذي أودع في مخلوقاته النعيم والسعادة والرفاهية وسعة العيش لمن شكر خالقها " ولئن شكرتم لأزيدنكم " وسبحان الله الذي ينتزع من تلك المخلوقات خصائص المتعة والرخاء والعافية لتنقلب نقمة ومحنة وغضبا وتعسا وشقاء على ناكري هذا الجميل والصنيع الرباني الرحيم .
إن الشواهد على ذلك كثيرة ولا تحتاج الى إمعان نظر او بذل جهد , فحينما نقرأ في كتاب الله تعالى قصص الأنبياء والأمم السايقة يستشعر المسلم عظمة الخالق ولا يملك إلا ان يقول " سمعنا وأطعنا ربنا , فلا تجعلنا من القوم القانطين , سمعنا وأطعنا ربنا فاجعلنا من القوم الشاكرين.
ألم نقرأ في كتاب الله كيف استحالت المياه التي في اصل خصائصها حياة للأرض والبشر "وجعلنا من الماء كل شيء حي" الى عذاب شديد لأقوام كذبوا الرسل بما جاؤوهم من الدعوة الى عبادة الله واتباع سبل الهداية الى نور الله ؟ نعم لقد كان الطوفان جندا من جنود الله فأغرق قوم فرعون وقوم نوح بما عصوا فكانوا من المعذبين "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين "
واما الدم الذي هو شريان الحياة ولا يستطيع الإنسان ان يحيا بدونه , فقد انتزعت منه صفة الحياة ليكون جنديا من جنود الله يحارب من عصاه , فكان عقوبة لمن كذب وعصى وأدبرعن طاعة الله, وبعظيم قدرة الله وجلاله تتحول المياه التي في آواني قوم فرعون , بل ومياه البحر الى دماء, انه لمشهد في غاية الإشمئزاز والتنفير والتعذيب, ولعل الهواء الذي يعد مصدرا من مصادر الحياة , وتتوقف حياة الإنسان عليه , يتحول الى ريح صرصر عاتية فكان عقوبة لقوم عاد "واما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما
فترى القوم فيها صرعى, كأنهم أعجاز نخل خاوية ،فهل ترى لهم من باقية " وتلك عقوبه لقوم عاد الذين استكبروا في الارض ظلما ودون وجه حق ، وتباهوا بقوتهم ،وتحدوا الاخرين بهذه القوة وتناسوا انها امام قدرة الله ضعيفة خائرة تتهاوى كأنها بقايا نخل على الارض خاوية ،(فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ،أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ،فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون"
ولعل قصة أصحاب الفيل خير شاهد على قدرة الله تعالى في تحويل مهمة خلقه من توفير الحياة الكريمة للانسان إن كان عبدا شكورا ،الى مهام أخرى تنتقم وتدمر من تجاوز الحد وسبيل الرشاد وانحرف في طرق الغواية والظلال،فحينما همّ أصحاب الفيل بالتوجه الى مكة المكرمة لهدم الكعبة ،كانت الطيور الوادعة الاليفة المسخرة لخدمة الانسان والتي كانت طعاما له ، أصبحت أداة قتل وتخريب وتدمير لمن يتجاوز حدود الله ويمعن في محاربه دين الله ومقاومة أوليائه والصالحين من عباده ، إنه لمشهد عظيم يدل على قدرة فائقة من رب العالمين بتسخير هذا الخلق الضعيف ليكون جندا من جنود الله تعالى فيهزم أصحاب الفيل بحجارة من سجيل " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ،ألم يجعل كيدهم في تظليل ،وارسل عليهم طيرا أبابيل ،ترميهم بحجارة من سجيل ،فجعلهم كعصف مأكول "
وتقتضي إرادة الله تعالى أن يتحول التراب الذي يطأ عليه الانسان بقدميه ، والذي من خصائصه احتضان النباتات والاعشاب بمناظرها الخضراء الجميلة ،وفيه حياة الانسان ورزقه أن يتحول إلى وسيلة من وسائل طمس الحقيقة عن اعداء الله تعالى فينجو رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذر التراب على وجوه المشركين فعميت أبصارهم حينئذ ،وخرج رسول الله ونجا بنفسه من كيدهم .
وأما هدهد سليمان عليه السلام فكان أداة مسخرة لإذلال أعداء الدين والإتيان بهم رغم أنوفهم الى الحق طائعين ،فهو الذي اكتشف قوما كانوا للشمس يسجدون وكانت تملكهم سبأ ( وتفقد الطير فقال لاعذبنه عذابا شديدا أو لا أذبحنه أو ليأتينني بسلطان مبين ، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ عظيم ،إني وجدت امرأة تملكهم واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون"
وفي قصة يوسف عليه السلام عبرة لمن يعتبر وعظة لمن يسلك طريق الغواية والظلال إلى أن يعود إلى الرشد والصواب, فكان يوسف عليه السلام جميلا ، والجمال نعمة من الله عز وجل تبعث في الوجدان السعادة والراحة والطمأنينة إذا استغلت تلك الصفة أحسن استغلال وسخرها الإنسان في سبيل الحق والصواب ولكنه إذا أساء توظيفها وجانب الصواب تعرض إلى نقمة الرحمن بما سوّلت له نفسه من سبل الرذيلة والفساد ، وحينما راودت امرأة العزيز يوسف عن نفسه افتضح أمرها في مصر وبين قريناتها ، كما افتضح أمرهن حينما قطّعن أيديهن ، أليس هذا الجمال جندا من جنود الله عوقبت بسببه امرأة العزيز والنساء اللواتي تحدثن بهذا الخبر " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ظلال مبين ، فلما سمعت بمكرهن ارسلت اليهن واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج اليهن ، فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم"
ان ما سقته من امثلة على قدرة الله تعالى في عملية تغيير خصائص الاشياء من حالتها الطبيعية التي خلقت لها وتحويلها الى القيام بمزايا اخرى لهو دليل واضح على ان هذه المخلوقات والأشياء أدوات فاعلة تتنقل فاعليتها وطاقتها من وظيفة الى اخرى بارادة الله تعالى من اجل تصويب مسيرة في مكان ما او ردع فئة ارتكبت حماقة بمخالفة اوامر الله .
ونحن البشر علينا ان نقف عند هذه المحطات لتكون زادا لنا ومعينا ننهل منه ما يوقظ ضمائرنا ويكشف الظلمات في طريقنا ، وان نخشى الله تعالى في السراء والضراء والسر والعلن ، لأن جنود الله كثر ، فيسخر عقابه من خلال متع الحياة التي غدت عنوان حياة الكثير منا ، فالمرأة والولد والمال وكل ما على الارض من زينة وجمال يغدو في لحظة من اللحظات عدوا شرسا يفتك بالطموحات القائمة على الفساد والرذيلة ، ويحد من الهمم المتطلعة الى اعمار الحياة على مرتكزات الترف والجريمة ,ويزلزل كل من تسول له نفسه على استباحة حرمات الله في ارضه.
فيا ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، واجعل كائناتك في السماوات والارضين والبحار جندا من جنودك تنهض بعبادك الساعين الى اعمار الارض بما يرضي وجهك الكريم ، ولا تجعلنا من الذين ينكرون جميل عطائك ، فنكون من القوم الخاسرين, اللهم ياذا الجلال والاكرام اجعل مخلوقاتك لعبادك الصالحين القانتين الراكعين الساجدين عونا على اداء طاعاتهم لك ، ولا تجعلها اداة غضب وانتقام وترهيب وتخويف الا على القوم الكافرين والمشركين والظالمين اللهم آمين اللهم آمين .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد