فتوى القتل: انج سعدٌ فقد هلك سعيد

mainThumb

16-09-2008 12:00 AM

عام 2008 أفتى رئيس قضاءٍ ما، بقتل ملاّك الفضائيات باعتبارهم مفسدين في الأرض، فقام "س" وهو شابٌ متحمسٌ دينياً بقتل "ص" وهو مالك إحدى القنوات الفضائية، وقال الشابّ إنّه يطبّق حدّ الله –القتل- في هذا المالك لأنّ الحاكم لم يقم بتطبيقه، وأضاف: إنّه يعلم أنّ في هذا التصرف افتئاتاً على السلطان ولكنّه يعلم –كذلك- أنّ المفتئت على السلطان في تنفيذ حكمٍ شرعيٍ لا عقوبة عليه). الافتئات على السلطان معناه أن ينفّذ أحد الأفراد من تلقاء نفسه حكماً شرعياً لم يقم ولي الأمر بتنفيذه.

(عام 1992 أصدرت "ندوة علماء الأزهر"، برئاسة عبد الغفّار عزيز، وفي جريدة النور بياناً بكفر الكاتب المصري فرج فوده ووجوب قتله، وبعدها بفترةٍ وجيزةٍ، قام بتنفيذ الفتوى شابان متحمسان، وعندما جاء دور الشيخ محمد الغزالي للشهادة في المحكمة قال: إن فرج فودة كافر مرتدٌّ وأنّ من قتله يعتبر مفتئتاً على السلطان، وعند سؤاله عن عقوبة المفتئت على السلطان؟ قال: لا أعرف له عقوبةً في الشرع).


هاتان قصّتان متشابهتان حدّ التطابق، الأولى لم تقع بعد! ونسأل الله ألاّ تقع، والثانية وقعت وانقضى الأمر، بقي أمرٌ آخر، هو أنّ سليم عزّوز –حينذاك- كتب في صحيفة الأحرار يهاجم عبد الغفّار عزيز "مُصدِرُ الفتوى"، فكان ردّ عبد الغفّار (أرد على من؟ وماذا أقول؟ ثم ذكر ما كتبه الشيخ الغزالي في كتابه "جدد حياتك" من أن: "ذوي النفوس الدنيئة يجدون المتعة في البحث عن أخطاء رجل عظيم")، أمّا ردّ رئيس القضاء على الاستهجان العام لفتواه فكان:

(وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ/ فهي الشهادة لي بأني كامل)

والفرق بين الردّين ظاهر وهو أنّ الأول رجلٌ "عظيم" فآثر الردّ نثراً أمّا الثاني فرجل "كامل" آثر الردّ شعراً!

إنّ أخطر ما في مثل هذه الفتاوى هو عندما تصدر من رجال ينتسبون لمؤسساتٍ دينية وقضائيةٍ رسميةٍ، أي أنّهم يعيّنون تعييناً، وهذا تحديداً ما يجعل دولهم في حرجٍ شديدٍ جرّاء تبعات هكذا فتاوى، خاصةً إذا كانت هذه الدول تسعى ولسنواتٍ طويلةٍ لإظهار أنّها مع الخطاب الديني المعتدل وضد خطابات التطرف والإرهاب، وصرفت في سبيل إيضاح هذا للعالم مبالغ طائلة وأطلقت مشاريع ضخمةٍ.

جاء في الأثر عند ابن أبي شيبة وغيره عن سعد بن عبيدة أنّ ابن عبّاس كان يقول: "لمن قتل مؤمنا توبة". قال: فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلا النار! فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا، كنت تفتينا: أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟ قال: إني أظنه رجلا يغضب، يريد أن يقتل مؤمنا! فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.

تعتبر"مراعاة الحال" من أهمّ صفات المفتي الواجب توافرها فيه، فحال المرض غير حال الصحة، وحال السعة ليس كحال الضيق، وحال الضعف ليس مثل حال القوّة، وحال الحرب يختلف عن حال السلم، وهذا كما يصحّ في شأن الإفتاء للأفراد فإنه يصحّ في شأن الإفتاء للجماعات والمجتمعات والأمم.

إنّ "الحال" الذي لا تراعيه مثل هذه الفتاوى هي أنّنا ومنذ سنواتٍ طويلةٍ وحالنا السياسي والاجتماعي مليءٌ بالتطرّف، بل إنّ "الإرهاب" يكاد أن يكون العنوان الأبرز لحالنا منذ ما يقارب العشر سنوات، ففي هذا السياق وهذه الحال يجب كل الوجوب التحقّق من أية فتوى يمكن أن يستغلها الإرهابيون بأي شكلٍ من الأشكال، بل على العكس يجب الإفتاء بما يجفّف منابع الإرهاب ويحاصر عناصره دينياً قبل كل شيء، أمّا أمثال هذه الفتاوى فلا يوجد فيها أيّ مراعاةٍ للحال العام عند الإفتاء بل إنّها وللأسف الشديد على العكس، تصبّ الزيت على النار.

حقٌ لكل قارئ أن يقارن بين قول أبي بكر الصدّيق: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له) وبين قول المفتي أعلاه، (إذا رضيت عني كرام عشيرتي/ فلا زال غضباناً عليّ لئامها)!

من أعجب ما جاء في الفتوى الأصلية قوله: "وأنا أنصح أصحاب هؤلاء القنوات الذين يبثّون الدعوة للخلاعة والمجون، أو فكاهة أو ضحكٍ، أو إضاعة الوقت بغير فائدةٍ ولا أجر"، وأعاد تأكيد ذلك في التوضيح المتلفز بقوله: "وما يتعلّق بالمضحكات التي لا تليق برمضان، واستهزاءً برجالات علمٍ أو رجالات أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن المنكر".

هنا أمران غاية في الأهمية يجب توضيحهما، الأول: ما يتعلق بالضحك والفكاهة، فقد جاء في صحيح البخاري أنّ نعيمان كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلّم، والضحك والفكاهة من المباحات بالإجماع، فلا يليق الإفتاء بتحريمها فضلاً عن الإفتاء بقتل من يمارسها في حياته العادية، أو يعرضها على قناةٍ فضائيةٍ، وإلا لحصدنا الظرفاء عن بكرة أبيهم، وأقمنا للثقلاء نصباً تذكارياً، وذلك ما لا يقوله عاقل!

الأمر الآخر: ما يتعلّق بالاستهزاء بالمتدينين، أولاً: المتدينون شيءٌ والدين شيءٌ آخر، ثانياً: الاستهزاء بالمتدينين حكمه حكم الاستهزاء بغيرهم من عباد الله، ثالثاً: سخر كبار الفقهاء من كثيرٍ من المتدينيين كابن الجوزي وغيره، رابعاً: لم يزل عامة الناس يتناقلون النكات حول المتدينين كغيرها من النكات التي يتناقلون، ولم يقل أحد من قبل بوجوب قتل ابن الجوزي أو غيره من العلماء الذين ألّفوا في الضحك على المتدينين، أو بوجوب قتل عامة الناس لأنهم يتناقلون ظرائف حول المتدينين.

بقي الوقوف عند القول بأنّنا نمتلك "أميز قضاءٍ في العالم" كما جاء في التوضيح، والسؤال هو: إذا كنّا نمتلك أميز قضاءٍ في العالم، فلماذا تجشّم الملك عناء السعي لإصلاحه في ثلاثة أنظمة ومشاريع عملاقةٍ قبل أقلّ من سنةٍ من الآن، هي "نظام القضاء" و "نظام ديوان المظالم" و"مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء"؟ ولماذا تمّ رصد ميزانية ضخمةٍ هي سبعة مليارات ريال لهذه المشاريع؟، أحسب أن أميز قضاءٍ في العالم ليس بحاجةٍ لمشاريع بهذا الحجم وهذه النوعية.

ليكن في علمنا جميعاً أنّ هذه الفتوى ستطارد كثيرين في قادم الأيام، وسترمي بعروقها بعيداً في جوف المستقبل، بعيداً عن الغارقين في موزانات اللحظة الراهنة، وستكون لها آثارٌ وخيمةٌ إن لم يكن اليوم فبعد فترةٍ طويلةٍ من صدورها، ولتوضيح هذه النقطة أذكر -على سبيل المثال لا الحصر- أنّ رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا قد صدرت على صفحات الأهرام في عام 1959م، وبعدها بثلاثين عاماً وتحديداً في 1989م أصدر زعيم الجماعة الإسلامية في مصر عمر عبدالرحمن فتوى بقتل نجيب محفوظ، وبعد هذه الفتوى بخمس سنواتٍ وتحديداً في عام 1994م، قام شابّان متحمسان أحدهما يدعى المحلاّوي من بور سعيد والآخر يدعى عمرو بمحاولة اغتيال وقتل نجيب محفوظ.

وفي الختام هذا مقطعٌ من التحقيق مع عمرو والمحلاي نشرته جريدة المصري بتاريخ: 25/9/2003م، جاء فيه التالي:

(المحقق: ما الفترة التي استغرقتها مناقشاتكم لتقرروا في النهاية قتل نجيب محفوظ؟

عمرو: هي ماستغرقتش كتير.

المحقق: هل قرأت قصصا أو مؤلفات أخري لنجيب محفوظ تؤكد عكس ما انتهيتهم إليه أنه مرتد؟

عمرو: لا!
أين الدليل!

وهنا يسأله المحقق: هل قمتم باتباع الناحية الشرعية التي يجب بمقتضاها التعامل مع المرتدين؟

يقصد بذلك هل قام المتهمون (باستتابة) نجيب محفوظ قبل أن يقرروا قتله.

لكن عمرو يرد قائلاً: المرتد لايستتاب، بدليل أن سيدنا أبو بكر قام بحرب مانعي الزكاة والمرتدين عن الاسلام وساوي بينهما وحدود ربنا تنفذ حتى لو تاب العبد، لأن ربنا نزلها للحكم في الأرض وعلشان تبقي رادع للعباد، بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم حضر إليه أحد أصحابه، واعترف أنه زني وهي متزوج، ولما اعترف بالذنب وتاب، ده مامنعش أن يطبق عليه الحد.

المحقق: وما الدليل الشرعي علي عدم جواز استتابة المرتد؟

عمرو: لو المرتد استتاب وتاب فعلاً وعاد للاسلام لايمنع ذلك من اقامة الحد عليه ونحن المسلمين أمرنا أن نأخذ بالظواهر والله يتولي السرائر).

وليس لدي تعليق على هذا المقطع إلا أن أقول كفانا الله جميعاً شرّ القتل والقتلة، من أوّلهم إلى آخرهم، ابتداءً ممن يعطي الإشارة الخضراء للتنفيذ عبر الفتوى، وانتهاء بمن ينفّذ ويقتل، مروراً بمن يخطط ويدبّر . /  العربية نت /



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد