العراق .. استفتاء "أبو دبس"!

mainThumb

09-07-2008 12:00 AM

الانتخاب بتوظيف الرمز الديني في الدعاية، بل اعتماد القوائم المغلقة، لا يأتي بنتيجة أفضل، إن لم تكن أسوأ، مما حصل في الانتخابات السابقة.


سيفوز المرشحون باستغلال جهل الأكثرية، وتحويل التصويت بالحلال والحرام، ويصار للفائزين مهام بناء الدولة، وهي المنهارة إلى حد القاع اقتصادياً وتكنولوجياً. فالنقاش دائر حول استعمال تلك الرموز: صور المراجع، ومنابر الأئمة، والمساجد والحسينيات، وحتى التكايا والخانقات الصوفية، وكل ما يتعلق بالتوجه إلى السماء.

تحضرني حكاية لها مغزىً، سمعتها وقرأتها، تتعلق بفقيه القرية أبو دبس، عندما استفتى القرية على قدراته في القراءة والكتابة، وهي الأمية قاطبةً بما فيها صاحبنا. وهنا أرجو ألا يفهم ما أضرب به مثلاً أنه حط من قيمة غير القارئين والكاتبين، فمِنْ هؤلاء م?Zنْ ضاهى أدباء وكُتاب برصيده المعرفي، ومثالي على ذلك الشاعر المطبوع نصر الخبزأرزي (ت 317هـ): كان «أمياً، لا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز (خبز التمن) بمربد البصرة» (وفيات الأعيان)، بينما شغل شعره صاحب «يتيمة الدهر» وسواه من مؤرخي الأدب.

قصة ذلك: اعتاد أهل القرية على أبو دبس يفتيهم ويُقيم المواسم الدينية، بما يترنم به من الرثائيات، وما يحفظه من الأدعية والزيارات، من غير دراسة. وحصل أن وفد نفر من القرية إلى المدينة، وأغراهم فقيه منها، أن يكون بديلاً من صاحبهم أبو دبس! عادوا ومعهم الفقيه، وهنا وجد أبو دبس نفسه غير قادر على منافسة قارئ كاتب، ودارس فقه.

وبما أن «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»، لمحت لـ أبو دبس فكرة: أن يستغل أمية أهل القرية ويزيح الفقيه الجديد من مكانه. وفي الصباح التالي أتى ووقف وسط المجلس وقال بأعلى صوته: تقولون إن هذا الرجل يقرأ ويكتب، وأنا أُمي! مع أني لعشرين عاماً أُحيي مناسباتكم من دون نقص! فتعالوا احكموا بيننا، م?Zنْ يحسن القراءة والكتابة، أنا أم صاحبكم! فاتفقوا أن يكتبا اسم حيّ?Zة! كتبها الفقيه مثلما هي الكلمة، بينما رسم أبو دبس شكل حيّ?Zة! ولما طالع أهل القرية النموذجين، صاح صائحهم: «ترا حيّ?Zة أبو دبس هي الحيّ?Zة»! وبهذه العبقرية تمكن صاحبنا من العودة إلى سبب رزقه!

بالتأكيد، ومن تجربة سابقة سيسفر استعمال تلك الرموز، واتخاذ القوائم المغلقة سبيلاً، عن انتخابات عمياء مثلما هو استفتاء أبو دبس: لا الناخب استخدم عقله بقدر ما استخدم رأي المرجعية، التي عادة تنوب عن عقله في التفكير حسب واجب والتقليد، ولا المرشح معلوم في القائمة المغلقة، ومن الدين أن يكون طرفا العقد معروفين، وإلا لا توصف الانتخابات، بهذه الطريقة، بأكثر من بيع السمك في الماء! أو مجرد مضاربة بالأسهم.

لا انتقاص من منزلة، ولا ريب بنوايا، نتمنى على المرجعية، تخفيفاً مما آل إليه الحال، ألا تكتفي بالتصريحات، وبدفع البيانات العمومية، بل تطلب بالاسم من الكيانات المصرة على توظيف منزلتها، بالامتناع! فأحد المعممين النواب صرح في ندوة تلفزيونية، على الرغم من تصريحات المرجعية، قائلاً: «سنتبرك باسم المرجعية، وهي لم تمنعنا، ولو أرادت لكتبت لنا بالحرف»! بل الرجل هدد بتحشيد العاطفة الدينية. ولا أرى مثل هذا الرجل سيتقبل الخسارة!

ومن باب الشيء بالشيء يُذكر، قال رئيس حزب الوفد المصري فؤاد سراج الدين (ت 2000) للشيخ حسن البنا (اغتيل 1949): «يا شيخ حسن عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حزب سياسي؟ إحنا ما عندناش مانع أبداً إنكم تكونوا حزب سياسي، أعلنوا على الملا إنكم تشتغلون بالسياسة... ولا تتستروا بستار الدين، ولا تتخفوا في زي الدين. أما أن تتستروا تحت شعار الدين... وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السياسي وتباشروا السياسة الحزبية فهذا غير معقول، لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السياسية. أنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية» (السيد يوسف، الإخوان المسلمون، ص 408).

ألم تُرفع الآية شعاراً واسم نبي من الأنبياء وسيلة في إحدى الانتخابات، تأييداً من الإخوان لشخص بعينه، إسماعيل صدقي: «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً». وبالعراق عُدت أرقام الكيانات رموزاً لأئمة وآيات! وسميت قائمة أنها قائمة الإمام الحسين! معلوم أن السياسية الديمقراطية تقبل الدفاع والهجوم بالألسن، وربما بغيرها! فهل يناسب ذلك منزلة الرمز الديني؟!

فاصلة القول: لا أحد يطمع بانتخابات عراقية بمستوى السويدية أو الهندية ولا حتى الباكستانية، لكن ألا تنزل إلى مستوى الاستفتاء على حيّ?Zة أبو دبس!

*نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد