حينما نلتقي لاي سبب كان بمصطلح الاستعمار تتجمهر معلوماتنا وخيالاتنا وعواطفنا امامه ونحن نضمر له كل عداء واشمئزاز ، مع ان كلمة استعمار لا بد وان تكون مشتقة من الاعمار والتي هي كلمة جيدة ومستحبة ، الا اننا سنقبل ان الموضوع اصبح عرفا واننا نحن العرب اصحاب الكلمة نفسها واصحاب اصولها اللغوية واصحاب استعمالها ، وبالتالي فاننا نفهم ما ترمي اليه الكلمة تماما عند سماعها بالرغم من ان اصولها الغوية تعني شيئ اخر.
واستنادا لفهمنا لما وراء ذلك المصطلح فاننا نقرعة وصفا عندما نتعرض للعدوان وعندما يقوم اخرون بقتلنا كلنا او بعضنا او قتل اي شئ فينا ، وهو مشهور ومفهوم عندنا لان الاعتداء علينا لم يتوقف منذ زمن بعيد والتخريب في وطننا كان وما زال ملهاة العديد من الذين لا يكنون لنا محبة ولا احتراما ، ومع العدوان والتقتيل فينا اقنعونا باستبدال جلودنا ومسامعنا والسنتنا لتتناسب مع ما يسعون اليه فاصبحنا نزين افعالهم ونقبل عدوانهم ، بل ان ساءت الاشياء كثيرا عندنا بسببهم ولم يجدوا ولا اتباعهم تفسيرا يبيعوه لنا لصالحهم او تبريرا يسكتنا عن بلاويهم يخرج منا يقوم بذات الخدمة بلي ذراع مصطلحاتنا لصالحهم ويسعى لاقناعنا بان ما حصل لنا منهم هو النصيب والقضاء والقدر " وقل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا" , وفي الحقيقة هي كلمة حق يراد بها باطل .
وحتى لا يتسع الموضوع الى كل الاتجاهات ويصبح من الصعب لملمته اردت ان اتعرض الى جزئية واحدة لها مدلولاتها التي تذكرنا بموضوع الاستعمار – البغيض – وانه لا زال قائم ولا زال يحارب بل لا زلنا معه في حرب ضروس ، وان هناك معركة تحتية سرية تدور رحاها منذ قديم وهي لا تزال دائرة الى الان دون هواده يحاول الاستعمار من خلالها ان ينتصر علينا ويستعمرنا لصالحه باسهل واعقد الاسلحة واكثرها فتكا الا وهي الاستعمار بالمصطلحات ، والمقصود بهذا العنوان تحديدا هو استعمالنا للمصطلحات التي يفرضها المستعمر علينا كدليل لتغلغله في نفوسنا وانتصاره علينا في اقوى جبهاتنا واكثرها حصانة والتي كان من المفروض ان تكون مصدر القوة الكامن فينا ومخزن السلاح الفعال الذي لا ينهزم بسهولة في اية مواجهه ، الا وهي جبهة ثقافتنا ومعتقداتنا وموروثاتنا .
غزانا الاستعمار في جبهات عدة وفي ازمان متفرقة ونجح احيانا كثيرة ، فاخذ منا ارضنا في فلسطين واخذ منا نفطنا في الخليج واخذ منا انظمة الحكم وصنعها على هواه في ديارنا ، لكنه فشل كثيرا في زعزعة فكرنا وثقافتنا مما ادى الى فقدانه بعض من مكتسباته لدينا من خلال انتصاراتنا عليه عندما يعاود الكرة والعدوان ، نجحنا في استرداد عزتنا وهزيمته عندما عربنا الجيش في الاردن وانتصرنا عليه عندما باشرنا سلطتنا على قناة السويس في مصر وحررنا الجنوب العربي اليمني من براثنه ، وطردناه من الجزائر ورددناه عن بعض ارضنا عام 73 ومررنا بربيع عربي زاهر ضد اوكاره ومصالحه وازلامه ، وفي كل مرة ومن اول مرة كان الاستعمار على يقين من ان سر قوتنا ومخزن اسلحتنا الفتاكة وقدرتنا على العودة دائما يكمن في تمسكنا بجبهة ثقافتنا ومعتقداتنا وموروثنا ، وقرر منذ قديم غزونا من تلك الجبهة ليس ليهزمنا من ناحيتها فقط بل ليضمن ان لا نعود مرة اخرى في اي زمان واي مكان وتحت اي ظرف، فمارس الغزو الثقافي في مواضع كثيرة في وطننا وقام بالسطو على نفس الجبهة الممتدة في كل مكان وبين كل افراد وجماعات امتنا ، ولما كان الاستعمار راغبا في التاكد من انتصاره على تلك الجبهه فانه وضع مؤشرات و مقاييس بيننا لتدل على نجاحه وانتصاره .
ابسط اشارات هذا المؤشر ان يشيد الذين انهزموا منا بثقافة وحضارة المستعمر مقابل ثقافتنا وحضارتنا ، وشر الهزيمة تكون في تفضيل المهزومين منا لثقافته وحضارته على ثقافتنا وحضارتنا ، ولان الاستعماربلا موروث عنده فقد عبث في ضمير المهزومين منا واوهمهم بان موروثنا عفن وضار لحاضرنا والافضل ان نتنازل عنه او لا نتذكرة ونمحوه من ذاكرتنا وضميرنا وكتبنا ووثائقنا حتى التي في المتاحف. والاستعمار ومن اصبحوا من ازلامه يحاولون جمع اكبر عدد من الناس حولهم وحول افكارهم واساليبهم الجاذبة لمن اصبح منا مستعد ان يبدأ عملية البيع القذرة ، فيزداد عدد المهزومين فينا ويستدل المستعمر على ذلك من خلال قياسه لمدى انتشار مصطلحاته بيننا ويتأكد من ضعف مقاومتنا واقتراب استسلامنا النهائي على طريق انقراضنا ليعلنوا انتصارهم الاخير استعدادا للمعركة الاخيرة قبل نزول عيسى عليه السلام ليحكم الارض ويحارب الدجال.
الاصل في التواصل ان تكون مادة الاتصال مفهومة او ان يكون مستوى فهمها بين كلا الطرفين متماثلا ، وان التفاهم مرتبط بقاعدة الفهم والمعلومات المتوفرة في عقل طرفي الاتصال ، وان اي تغيير في مادة الاتصال يستدعي تغيير في قواعد الفهم والاتصال من اجل فهم وقبول الافكار وتبادلها ، ولما كانت اللغة اصل للتواصل وفهمها ضروري بين المتواصلين فان اقحام اللغات غير الاصيلة في عقول واذهان افراد المجتمع ضروري للتاثير في عقولهم لاستمرار التواصل ونقل الافكار الخاصة باصحاب اللغة الاخرى لاعتمادها واعتناقها كما يريدون ، ولا بد ان نتنبه الى ان تعلم لغات الاخرين امر هام وضروري وقد حض عليه الدين الحنيف ، الا ان هناك فرق بين تعلم اللغات لكي نامن شر اصحابها ومتحدثيها وان نتعلم اللغات لنصبح اتباعا وعبيدا لاصحابها ولمتحدثيها. ولعل اول المؤشرات على نجاح الاستعمار في غزوه لنا هو استعمالنا للغتهم ومصطلحاتهم بيننا وفي حياتنا اليومية دون ان يكون هناك سبب لذلك ، وان مؤشر انتصارهم الاكثر ايلاما لنا يتمثل في ضعف لغتنا على لسان العديد منا قراءة وكتابة واستبدال كلماتنا بكلماته ومصطلحاتنا بمصطلحاتهم ، علما بان ملك ايطاليا في القرن السابع عشر لم يكن ليتوج قبل التاكد من اتقانه اللغة العربية. ومن المؤشرات الواضحة ايضا على نجاح بعض معاركهم الثقافية في بعض اركاننا هو استعمال مصطلحات هم يريدوننا ان نستعملها لتخدم معاركهم ضدنا وتكون ككلمات السر التي تدل على مواقعنا في ارض المعركة ، وساضرب هنا مثلا اصبح ملازما لمواقفنا من بعضنا منذ الحادي عشر من ايلول اياه ، ان لدى الاعاجم مصطلح في لغتهم هو " تيرورزم " ، وهو يعني في لغتنا "الترويع" ، ويشمل ضرب الامنين وقتلهم وتخريب الممتلكات وقتل الاخر بدون وجه حق وهكذا ... وهذا موجود في قانون حياتنا بشكل عفوي من ان كنا على وجه الارض ويقف شاهدا في تراثنا بكل قوة ووضوح ، وقد كان المصطلح ذاته "الترويع" لب وصية ابي بكر الصديق عند تجهيزه جيش حرب الردة ، وكان اساسا من اسس التوجيه المعنوي للجيش في معركته الفاصلة في تاريخها الامة ، والمستعمرون يعلمون اننا هكذا نفهم المصطلح وهكذا نتعامل معه فلماذا قام ازلامهم بدفعنا لاستخدام مصطلح " الارهاب " بدلا من الترويع ؟ خصوصا ان مصطلح الارهاب ورد في معتقدنا بانه سلاح لا بد من استعماله ضد اعداء الله الذي نؤمن به وضد اعدائنا .
اليس هذا دليل على الاستعمار بالمصطلحات ؟ هكذا تصبح المصطلحات قنابل موقوته ملقاة على السنتنا وبين ايدينا نتقاذفها على مدى اجيال وكانها امنة او انها تعبر عما يدور في عقولنا وفيما نحن بصدده او نقصده بينما تتفجر تلك القنابل في وجوهنا وعقولنا وحضارتنا وتمزق الباقي منها وهكذا ينتصر الاستعمار .
يدفع بتلك القنابل الى ثقافتنا وعقولنا مغرضون همهم لوي السنتنا لتخدم مصالحهم وتوطد فينا سيادتهم وترسخ في عقولنا وبالتالي في ارضنا تواجدهم الذي ظل غير مرغوب فيه. وارغب هنا ان انبه الذين لم ينتصر عليهم استعمار المصطلحات بعد بان الغزو ما زال قائما ويزداد مع الايام تأثيرا وخطورة ونحن نهادن كثيرا ونخسر مواقعا دون ان نعلم ، ولننتبه الى ان الصهاينة في العالم هم اسياد الحرب بالمصطلحات لتوطيد انتصاراتهم وتاكيد هزيمتنا ، فنحن مثلا نستعمل مصطلح "الشعب اليهودي" المصطلح الذي صنعه الصهاينه وحفظونا اياه ، ولما ايقنوا ان فكرة وحدانية الشعب اليهودي اصبحت مقبولة لدينا بدأوا يطالبون بالاعتراف بدولة للشعب اليهودي على اساس ان مفهوم الشعب اليهودي الواحد قد ترسخ في اذهاننا واذهان العالم حيث ان مجرد ذكره يدل على ان لليهود اصل واحد يحدد لهم كيان وتاريخ وواقع يسهل لهم الانتصار في معركتهم مع التواجد في فلسطين ، وعندما نعترف بذلك فاننا نخسر سلاحا بتارا في ايدينا لانهم ليسوا كذلك فهم مجموعات مختلفة الاعراق والاصول منهم اليمني ومنهم البولندي ومنهم الانجليزي ومنهم الروسي فهل بين كل هؤلاء اية صفات مشتركة وهل هو منطقي في غير مفهوم الصهيونية ان كل اولئك شعب واحد؟ ومن مصطلحاتهم التي ارادوا ان يغرسوها في اذهان العالم ويجعلوا لها كيانا ذو معنى بعد تعزيز مصطلع الشعب اليهودي مصطلح اليهودي نفسة ، علما بانهم لا يقصدون به الشخص الذي يعتنق الديانه اليهودية بل المقصود به اولئك الذين يستوطنون في فلسطين بشكل مباشر او من يدعمهم من الخارج بشكل غير مباشر ، والا فما معنى مصطلح اليهودي الملحد ؟ فالواحد منهم اما يهودي من اتباع موسى او ملحد لا دين له كاي ملحد على وجه الارض الا اذا كان المقصود بمصطلح اليهودي هنا شيء اخر غير اتباع الديانة التي جاء بها موسى عليه السلام.
هذا رايهم واسلوبهم لا يعنينا الا اذا اعتنقناه ، وهناك بوادر تدل على اننا نعتنق بعض الذي يريدون ، فبالاضافة الى استعمال مصطلح الشعب اليهودي عند بعضنا ( ورديفه العربي هو الجماعات اليهودية ) فقد فرضوا علينا وقبلنا باللغة التي يتحدثونها كامر واقع من خلال ان نتحدث بعض الكلمات العبرية وكاننا نفهم مدلولاتها العبرية ، خذ مثلا مصطلح "كيبوتز" وخذ مثلا " موشي " واضف اليه " يتسحاق " مع ان لدينا في لغتنا مرادفات لتلك الكلمات تدل مباشرة على اصحابه فلماذا لا نقوم موسى بدا موشيه ولا نقول اسحق بدل يتسحاق ؟ وانا اعلم بان البعض قد ينبري لي في هذا الموضوع ليقول بان هذه اسماء ولا ضير ان ننطقها كما هي فاقول له لكننا نسمس حزب " كونسيرفاتيفز " الانجليزي حزب المحافظين بالعربي اما حزب الليكود ننطقه ليكود ، الا ترى معي بان عندنا توجه تعريبي في الاول وليس عندنا نفس التوجه في الثاني ؟ .
ومن اطرف القصص التي حصلت في التاريخ العربي الحديث والتي تعبر عن الموضوع وعن الحاله هي تلك المظاهرة الشهيرة في عشرينات القرن الماضي والتي خرج فيها الاف الناس لتهتف " فليسقط وعد بلفور " انتبه احدهم الى ان صوتا نشازا في المظاهرة وتتبعه بعض الجموع فيها تهتف " فليسقط واحد من فوق " فالذي حور الهتاف من تعبير وطني عن ظلم فاحش الى نكتة سمجه ماسخة لم يكن وطنيا ولا فاهما الموضوع بل ربما كان معارضا للفكرة او مدفوعا من معارض لها .
انا اعلم بان لدى غيري عديد من الدلالات والشواهد في مضمار الاستعمار بالمصطلحات ، وقد اردت بهذا الموضوع ان استثير واتتبع واحد من اساليب الاستعمار في تدجيننا وفرض سيطرته علينا واردت ان اشير الى مدى تأثرنا به من خلال رصد المصطلحات التي تخدم اغراضه ومصالحة، فمن كان يؤمن مثلي بمؤشر المصطلحات كدلالة على مدى قبولنا للاختراق الثقافي فليرصدها.