يحكى أن ثلاثة أشخاص حكم عليهم بالاعدام بالمقصلة , وهم ( عالم دين , محامي , فيزيائي ).. وعند لحظة الاعدام تقدم (عالم الدين) ووضعوا رأسه تحت المقصلة , وسألوه : هل هناك كلمة أخيرة تود قولها ؟ فقال : الله .. الله.. الله هو من سينقذني , وعند ذلك أنزلوا المقصلة , فنزلت وعندما وصلت لرأس عالم الدين توقفت , فتعجب الناس , وقالوا : أطلقوا سراح عالم الدين فقد قال الله كلمته , ونجا عالم الدين .
وجاء دور (المحامي) الى المقصلة , فسألوه نفس السؤال , فقال : أنا لا أعرف الله كعالم الدين , ولكن أعرف أكثر عن العدالة ... العدالة.... العدالة هي من سينقذني , ونزلت المقصلة على رأس المحامي , وعندما وصلت لرأسه توقفت , فتعجب الناس وقالوا : أطلقوا سراح المحامي , فقد قالت العدالة كلمتها , ونجا المحامي .
وأخيرا جاء دور (الفيزيائي) فسألوه نفس السؤال , فقال : أنا لا أعرف الله كعالم الدين , ولا أعرف العدالة كالمحامي , ولكني أعرف أن هناك عقدة في حبل المقصلة تمنع المقصلة من النزول , فأصلحوا العقدة وأنزلوا المقصلة على رأسه وقطع رأسه .
من هذه القصة المعبرة جدا على ما تحملها من معان وفوائد جمة تشفي الغليل , ترشدنا على ضرورة التحلي بالعقلانية والتأمل والتدبر عند التحدث , لما للكلمة من أهمية قصوى تجر صاحبها أحيانا الى تحمل أعباء الويلات والمصائب , والوقوع في ألغام ربما تنفجر في وجهه, فتسبب له الهلاك والدمار له ولأهله, فهي حقا كالسيف القاطع , ان لم تحمل في طياتها الخير والنصح والارشاد ونشر المحبة والاصلاح والنهي عن استخدام شتى أنواع الفساد, ووضعها في اطارها الصحيح , كما حصل لهذا الفيزيائي الذي لم يفكر بأن ما قاله سيكون وبالا عليه حيث قطع رأسه ,لأنه لو سكت لما قطع رأسه ونجا كالبقية . وهكذا فانه "ليس بالواجب بمكان أن كل ما يعرف يقال " , "ورب كلمة تقول لصاحبها دعني" . وهذه قصة أخرى معبرة عما يجول في خاطري : فقد روي في الزمن الماضي أن هناك أحد الملوك كان قد خرج مع حاشيته في نزهة أو للصيد , ووصلوا الى مكان به صخرة ملساء , فقال أحد خدمه ما معناه " يا ترى اذا ذبح رجل على هذه الصخرة , ففي أي اتجاه سيسيل دمه؟ " فأمر حينها الملك بذبح الخادم على تلك الصخرة لكي يروا جميعا على أرض الواقع أي اتجاه يسيل فيه دمه, وكلمة الخادم والحالة هذه قد أوقعته في الهلاك . فلو لم يتكلم لنجا وتنزه مع ملكه وعاد الى مأواه مسرورا . وتأكيدا لذلك فقد قال الشاعر عبدالله بن معاوية :
أيها المرء لا تقولن قولا لست تدري ماذا يجيئك منه
واخزن الصمت ان في الصمت حكما واذا أنت قلت قولا فزنه
وهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :
ان القليل من الكلام بأهله حسن وان كثره ممقوت
ما زل ذو صمت وما من يكثر الا يزل وما يعاب مصموت
ان كان ينطق ناطقا من فضة فالصمت در زانه الياقوت
وهذا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود يشعر قائلا :
احفظ لسانك أيها الانسان لا يلدغنك انه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
وهذا نبينا ورسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه يقول " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ". وهذا الامام الشافعي رحمه الله يقول :
وجدت سكوتي متجرا فلزمته اذا لم أجد ربحا فلست بخاسر
وما الصمت الا في الرجال متاجر وتاجره يعلو على كل تاجر
ومن هنا نستنتج أن السكوت في بعض المواقف من ذهب اذا كان بهذا السكوت حلا لمشكلة ما قد وقع فيها أو متوقع أن يقع فيها , وعلى صاحبه أن يستخدم ذكاءه بحنكة , ويقدر الأمور على أحسن تقدير , وقد قيل بأن "من الذكاء أن تكون في صف الأغبياء" في بعض المواقف .
لا شك فيه ان لكل انسان طريقة في مواجهة المواقف السلبية التي يمر بها , ويصطدم من خلالها بالآخرين , فمنهم من يواجهها برعونة وتهور , ومنهم من يواجهها بصمت , وقد يكون هذا الصمت نابعا عن حكمة , كما قد يكون ناتجا عن جبن واستسلام أو لغاية في نفس صاحبه , ولكن الحكمة تقول " ندمت على السكوت مرة وندمت على الكلام مرارا ", وفعلا هذه حكمة ذهبية قد ثبتت لنا جميعا بالتجربة , ولكن هل التزام الصمت هو الوسيلة الصحيحة لمواجهة كل المواقف ؟ وهل هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع مختلف نوعيات البشر ؟
هناك من الناس من يظنك تصمت عن ضعف فيتمادى في غيه , وهذا النوع يجب أن يوقف عند حده , وقد تكون كلمة واحدة تكفيه ليلزمه حدوده , وهناك نوع آخر لا ينفع معه الا الصمت لفرط جهله ورعونته , وبالتالي عدم أهميته , فالأفضل للانسان أن يتجاهله ويهمشه بقدر ما يستطيع , ما دام كلامه لا طائل ولا هدف من وراءه , فهؤلاء هم السفهاء الذين ينطبق عليهم قول الشافعي رحمه الله :
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الاحراق طيبا
وهناك نوع ثالث حيث يكون صمتك عنه وسكوتك على خطأه في حقك أقسى من أي ردة فعل أخرى , وأشد عقوبة تؤثر به , وهذا هو الانسان المحترم اذ أنت اذا سكت لم يلبث أن يحس بخطأه ,ويتمنى لو أنك زددت عليه وأهنته كي لا يحس بما يحس به من ندم على ما تفوه به . ولكن وفي جميع الأحوال لا يمكننا أن ننكر أن التمادي في الجدال والخصام فيه فتح لأبواب الشر والقطيعة بين الناس. وقد قال الشافعي بهذا الخصوص :
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ان الجواب لباب الشر مفتوح
والصمت من جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضا لصون العرض اصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة؟ والكلب يخسى لعمري وهو نباح
فالصمت كما يقال أبلغ من الكلام أحيانا , فالنظرة في الشخص الذي أمامك في لحظة صمت قوية ,قد تعيد لك ما لم يستطع الكلام على اعادته أو توصيله . والانفعال يولد الندم على تصرفات لا تأتي عن قناعة ما بدر من الشخص , ويمكن ردع الخصم اذا كان ممن لا ينفع معه الا استخدام أسلوب الكلام . فأحيانا يفعل الصمت ما تعجز الحروف عن القيام به , فعندما نجلس لنبحث وسط الحروف عن كلمات تعطي الحق لصاحبها , نخاف أن لا نعطيه حقه وأن تصبح الكلمات عاجزة عن التعبير عما يدور بداخلنا اتجاهه , وأحيانا بالصمت نخسر كل شيء من حولنا , فلا ينفع الصمت عند تناولنا للقضايا الحساسة المصيرية ,وابداء الرأي واجب شرعي وقانوني لتلافي الخطر الذي سينشأ عن صمتنا , واذا لم يصل الحوار الى حل فالسكوت أفضل لدرء الشر , وخير الكلام ما قل ودل .
الصمت هو العلم الأصعب من علم الكلام , يصعب أحيانا تفسيره وهو أفضل جواب لكل سؤال, وقد قيل عنه قديما أن الصمت اجابة رائعة لا يتقنها الآخرون , وقد قال عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه " اذا تم العقل نقص الكلام , وبكثرة الصمت تكون الهيبة " , وقد قال الصحابي الجليل عمرو بن العاص " الصمت كالدواء ان أقللت منه نفع وان أكثرت منه قتل" , وقال لقمان لولده " يا بني اذا افتخر الناس بحسن كلامهم , فافتخر أنت بحسن صمتك " , وقال الشافعي رحمه الله " اذا أراد أحدكم الكلام فعليه أن يفكر في كلامه , فان ظهرت المصلحة تكلم , وان شك لم يتكلم حتى تظهر " , وقال لقمان " الصمت زينة والسكوت سلامة , فاذا نطقت فلا تكن مهذارا ", وقال الشاعر أبو النواس :
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
انما العاقل من ألجم فاها بلجام
كل ذلك لا يمنعنا أن نتكلم ونقول كلمة حق ولو عند سلطان جائر ,والساكت عن الحق شيطان أخرس, بل علينا أن نختار الوقت المناسب للكلام والوقت المناسب للسكوت حتى تصل رسالتنا بحق وننال حقوقنا دون أذى أو اراقة دماء . ورب كلمة تودي بصاحبها الى النار دون أن يحسب لذلك حسابا , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص حديثا نصه كما يلي " ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى له بها رضوانه الى يوم يلقاه , وان الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت , يكتب الله تعالى له بها من سخطه الى يوم يلقاه."
فالصمت حكمة وقليل فاعلها , فهو يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولك, والتركيز بعقلانية حتى لا يحصل ما يحمد عقباه , وقد قيل " لسانك حصانك , ان صنته صانك وان خنته خانك " ,ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبا معاذ بن جبل رضي الله عنه : " ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم" , وهذا الصحابي عقبة بن عامر رضي الله عنه يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :قال " أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك " , وروي عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن ؟قالوا بلى يا رسول اله , قال : الصمت وحسن الخلق" , وفي هذا السياق يقول الحكماء " ان جرح اللسان أنكى من جرح السنان " , أي أن جرح اللسان أشد تأثيرا من جرح كل من السنان والسكين والسيف والسلاح الأبيض , لكن جرح اللسان أشد ألما وأكثر ايلاما وأشد تأثيرا , والحكيم العربي يقول : "جراحات السنان لها التئام ولا يلتئم جرح اللسان".
ومن هنا نقول بأن الصمت ينقذنا أحيانا من مواقف عدة لأن في أجوبتنا يتضمن ربما كلاما قد يقتلنا قبل أن نقتلهم , فالمرء كما قيل يحتاج الى سنتين تقريبا ليتعلم الكلام , ولكنه يحتاج الى سنين ليتعلم لغة الصمت , فالصمت فن , فاذا أتقنته أصبحت مبدعا في كلامك . فتأمل كيف تنمو الأشجار والأزهار والأعشاب في صمت ! وكيف يتحرك القمر والشمس والنجوم في صمت ! عندها ستدرك الى أي مدى نحتاج الى الصمت كي نكون مؤثرين. وقد سب رجل الخليفة الراشد أبا بكر الصديق فقال أبو بكر رضي الله عنه " سبك يدخل معك قبرك ولن يدخل قبري " . وهذا أبو الطيب المتنبي يقول :
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار
فلو ذهبنا نرمي الكلاب كلما نبحت بالحجارة فسوف يرتفع سعر الحجارة ولا يستطيع أحد شراءها .
وأخيرا حين يشعر المرء بأن الزمان ليس زمانه , والأشياء من حوله لم تعد تشبهه , حين يشعر بأن كلماته لا تصل , وأن مدن أحلامه ما عادت تتسع , هنا يكون الرحيل بصمت هو أجمل هدية يقدمها لنفسه كي يختصر بها مسافات الألم والاحباط والفشل , وعندما تعجز كلماته عن وصف احساسه , يصبح صمته أصدق تعبير عما هو بداخله . وعندما يختار الصمت هذا لا يعني بالضرورة سذاجته أو أنه لا يعي ما يدور حوله , بل في ذلك ارضاء لرغبته في استكشاف الآخر والتعمق في أغوار شخصيته لادراك خفاياه . وهكذا فما أحوجنا لتوظيف عناصر الصمت والعقلانية وحسن الكلام أثناء ما يقام من مسيرات واحتجاجات واضرابات بفاعلية ! وما أعوزنا لنبذ الكلام الجارح والأفعال المشينة التي تسيء الى حضارتنا وثقافتنا وديمقراطيتنا لما في ذلك خير للقائمين على تلك المسيرات , اذ منها ربما ينالوا حقوقهم ويكثر مؤيديهم ,ان وجدوهم على حق , دون احداث بلبلة أو اعتقال أو اراقة دماء !