الصمت مشكلة وليس حلا، أيها الصامتون

mainThumb

18-08-2012 11:00 PM

 حالة النأي بالنفس، وعدم القدرة على التعبير عن الموقف، وإيثار المراقبة، والنظر عن بعد إلى مجريات الأمور غالبا ما يأتي بنتائج سلبية على البيئة والمجتمع الذي تسود فيه هذه الظاهرة، وغالبا ما تكون تكلفة مثل هذا المسلك للأسف مضاعفة ومركبة.

دائما تبدأ المشكلات بسيطة وعَرضِيِّة وربما تافهة لكن تجاهلها والتغاضي عنها يفاقمها، ويُعمّقها ويَزيد من صعوبة معالجتها والتّخلص منها، وكان بالأمكان تلافيها وتجاوزها بأيسر التّكاليف وأقلّ الأثمان.
هي قصة الفساد والانحراف وتردّي الأوضاع في أيّ دولة، حين ترافقها لغة الصمت، والإحالة إلى المجهول، وإيثار الراحة، والاحتكام لمنطق: ما دُمت سالما فلا أبالي ما حَلّ بالناس، أو ما دُمنا آمنين فلا علينا من فساد الفاسدين.
إنها الفكرةُ المريحة التي تُراود الفَرد أو الجماعة في دَورة الحياة، لكنها في ذات الوقت الفكرةُ الغادرة التي تهيئ الكفن، وتَحفر القبر، وتُذهب السلامة والأمان اللذين مِن أجلهما كانت هذه اللغة، لغة الصمت والتطنيش والتجاهل، ومن هنا جاءت حكمة الإمام علي كرم الله وجهه القائلة: "الناس مِن خوف الذلّ في ذلّ، ومِن خوف الفقر في فقر".
هكذا فكلما طالت مدة القعود عن القيام بالواجب، والجُبن عن مواجهة الأوضاع المنحرفة، كلما تكرّست هذه الأوضاع، وعكّرت على الناس صفوَ حياتهم، وسلبتهم أمنهم وسعادتهم، واستنزفتهم وأغرقتم في بحار من الألم والخوف والقلق.
لقد عبر المتنبي عن هذا المعنى ببراعة متناهية، لكن في سياق مبالغته في الثناء على عضد الدولة حين كان ينوي مغادرته لزيارة أهله فقال:
قد استشفيتَ مِن داءٍ بداءٍ *** وأَقْتَلُ ما أعَلَّكَ ما شَفاكا
أي أنك إذا ذهبت تُداوي أشواقك لأهلك بفراقك للممدوح، فقد تداويت بالداء الأخطر والأكثر فتكا.
هذا هو الحال تماما مع الكثرة الكاثرة من الشعوب التي راحت تتداوى بالصّمت عن الأخطاء، والتجاوزات التي تمارسها السلطات والهيئات الحاكمة لسنوات طويلة، وها هي تدفع اليوم الثمن مضاعفا من حقوقها ومستحقاتها وأمنها النفسي والاجتماعي والاقتصادي، ويكفينا نظرة بسيطة على حال الإنسان العربي في ليبيا ومصر وسوريا، قياسا على شعوب عاشت نفس الظروف: لكنها هبّت مبكرا لتصويب أوضاعها وتعديل مسارها، وتنظيف سياسياتها مؤسساتها الحاكمة ودساتيرها، فدفعت التكلفة الأقل لتنال الوضع الأمثل والأفضل، كما هو الحال في اليابان وألمانيا وغيرها من دول الحداثة والإنسانية.
ونحن في الأردن - للأسف - ما زال القطاع الأكبر من الشعب مع شعوره بحجم الخراب والتردي السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد والحاجة الملحّة لعلاجه وبشكل فوري، يحبّذ خيار الصمت، ويبلع اللسان، ويصمّ الآذان ويفضل الانتظار، وهو يراقب عن بعد ما آلت إليه الأوضاع التي تكرّست بشكل ملحوظ في عشر السنوات الأخيرة بفعل الصمت، ليجسد الآفة التي شخصها المتنبي وحذر منها حين قال:
حُبُّ السلامةِ يَثْني عزمَ صاحبهِ *** عن المعالي ويُغري المرءَ بالكسلِ
نحن لا ندعو هنا للفوضى والفتنة، فهذه دعوى الفاسدين المستفيدين من حالة الصمت والتشاغل بالقشور الإصلاحية التي زّورها النظام بلِجانه وحكوماته ونوَّابه، لكننا دُعاةٌ إلى خطوات علاجية ناجعة وحقيقية، وإن حملت في ثناياها بعض الألم فلربما: "صحت الأجسام بالعلل" على رأي بعض الحكماء.. هذه العلل والآلام التي ربما حاول الفاسدون جرّها علينا في اقتصادنا وأمننا، ولوّحوا بها لثنينا عن عزمنا، وتعطيل مشروع الشعب ورغبته في الإصلاح.
ليس هذا الفهم بدعة نبتدعها لنُورط الناس ونُثقل كاهلهم بمتطلبات الحياة الكريمة، لكنه القانون الذي وصل إليه الحكماء و الشعراء والأدباء والمفكرون كالإمام محمد عبده الذي قال: "إن بعض النفوس الضعيفة يُخَيَّل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تُطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً مِن هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مُفزعة، قلقة، تَخاف مِن ظلها، وتَفْرَقُ (تخاف)مِن صَداها، "يحسبون كل صيحة عليهم" .
وأكد هذا المعنى الشهيد سيد قطب وهو يهيئ النفوس للحياة الكريمة بمنطق القرآن، ويصف الذين هربوا من ساحة مواجهة الانحرافات والتحديات فيقول :" شاهدتهم يهربون مِن العزة كي لا تكلفهم درهماً، وهم يُؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليُرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه، وهم يَملكون أن يَرْهَبَهُم(يخافَهم) ذَوو الجاه والسلطان! ...، وقديماً قالت اليهود لنبيها: {يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون} فأَدَّتْ ثمنَ هذا النُّكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيهُ في الصحراء، تأكلها الرِّمال، وتُذِلُّها الغربة، وتُشرّدها المخاوف.... وما كانت لِتُؤدي مِعشارَ هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال.
بهذه الكلمات أحببت أن أخاطب الأغلبية الصامتة الخائفة والمترددة في وطني، فلربما اختصرت المسافة، وقصّرت الطّريق، ووفرت العَناء، ودَفعت صاحب القرار لاتخاذ القرار الجريء بعد عامين من المراوحة في المكان، ولنعلم جميعا أنه كلما ازداد عدد الخارجين مِن مُربع الصَّمت، تضاعفت احتمالات التصويب، وتراجعت احتمالات الركون إلى الهدوء المُحتَقِنِ الممهّد للانفجار، عندها وعندها فقط تَتضاعف الخسارة ويعظم الخَطب.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد