الرجل الموقف

mainThumb

09-11-2013 03:38 PM

يقال ... إذا أردت أن تعرف قيمة الإنسان ومكانته الحقيقية، فانظر إلى هذه القيمة وهذه المكانة عندما يكون هذا الإنسان على قيد الحياة... ثم انظر بعد ذلك إلى قيمته ومكانته بعد وفاته، فإذا استمرت هذه القيمة وتلك المكانة لدى الناس في ضمائرهم فإعلم أن هذا الإنسان حقيقياً بنقاء جوهره ومعدنه وأصالته. المرحوم الأستاذ محمد عبد الله خلف العناقرة  (المعنقر) واحداً من أبرز رجالات مدينة إربد، والتي ما زال أبناء عشيرة العناقرة يفتقدونه ويتذكرون جلساته وأحاديثه ويتذكرون مواقفه حيث كان رمزاً وطنياً أصيلاً، ومثالاً للوطنية الصادقة.

 كلما نذكر الشخصيات الأصيلة نذكر أولئك الأفذاذ اللذين حافظوا على رموز الأصالة، وأننا لا نستطيع إلا أن نُكبر ما قدموه لوطنهم من خدمة للمصالح الوطنية وصون مقدرات الوطن والقيام بالمسؤولية حق قيام في مختلف الأماكن والمواقع التي تقلدوها.

جاء في كتاب معجم العشائر الأردنية لمؤلفه دولة الأستاذ عبد الرؤوف الروابدة "أن عشيرة العناقرة في الأردن تميميون ينتسبون إلى قبيلة تميم بن مر العدناني وينحدرون من عشيرة العناقر في نجد"، وهم من بطن سعد بن زيد بن مناة بن تميم القبيلة العدنانية المستعربة التي تُغني شهرتها عن الحديث عنها، والتي كان لها دور تاريخي على مر العصور التاريخية، فقد انتشرت بطونها وأسرها المتحضرة في إقليم نجد في سدير وفي الوشم والحريّق، وتفرقت في البحرين والكويت والمنامة والبصرة وسكن من بطونها بلاد الشام في الأردن في جمحة وزحر وكفرجايز وعمّان والزرقاء وفي سوريا في حمص في القريتين.

وقد جاء في فضل تميم عن أبي هريرة أنه قال: أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: لما جاءت صدقاتهم: هذه صدقات قومي، وقوله: في الجارية التميمية: اعتقها فإنها من ولد إسماعيل وقوله "هم أشد أمتي على الدجال".

وفي دراسة لي تتحدث عن جذور عشيرة العناقرة وانحدارهم من قبيلة تميم يمكن القول إن الموجود في نجد من تميم يمكن حصره في ثلاثة بطون وهي؛ أولاً: بطن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. فمن حنظلة الوُهبه وهم بيت الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في الرياض، وآل بسّام في عنيزة، والقضاة في عنيزة، وآل معيوف في جلاجل، وآل منيف في الحوطة، وآل مَغامِس في الخطامة، وآل أبي حسين في الوشم وفي وشُيقر، وآل فايز، ومن الوهبة المعاضيد الذين منهم آل ثاني أمراء قطر وانتقل آل ثاني من نجد إلى قطر، ومن أوائل من سكن الدوحة في قطر الأمير محمد ابن ثاني المتوفى سنة 1264هـ. ثم ابنه الشيخ قاسم (1242- 1331 هـ) وكان من أبرز رجال العرب في عصره، ثم ابنه الشيخ عبد الله بن قاسم.

ثانياً: بطن سعد بن زيد بن تميم. ومنهم آل عليان أهل بريدة، الذين منهم حجيلان الذي توفي في المدينة المنورة. ومن آل عليان السفاد أهل شقراء، وأهل الحريّق، والعناقر أهل القراين، ويقال لهم آل سلوم، والعناقر أهل وثيثية، ويقال لهم الريمان، والعناقر أهل ثرمدا، وهم ثلاثة أفخاذ: آل عبد الرحمن، وآل عبد العزيز، وآل ناصر. ومن آل عبد الرحمن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن سليمان بن ناصر بن إبراهيم بن خنيفر العنقري. ومن بنى تميم الفرحة المعروفون بالفرحة في بلد أوشيقر، ويقال أنهم من العناقر من بني سعد بن زيد بن تميم.

ثالثاً: بطن عمرو بت تميم. فمنهم المزاريع والنواصر. ومن المزاريع رميزان بن غشام المتوفى (سنة 1669م/ 1079هـ) قد أنجب من الأولاد أربعاً هم: جلال وهو جد المجالية، ومعاط وهو جد المعايطة، وبيوض وهو جد البيايضة، وحمد الذي لم يعقب.

ومن بني تميم في الأحساء آل مطلق، وآل فيروز، وقد انتقل آل فيروز إلى الكويت. ومن بني تميم آل جميعان سكان الكويت من الأحساء وآل مانع حمولة الشيخ محمد بن مانع، ومنهم آل سليمان سكان بلد عنيزة من القصيم. ومن تميم بطون كثيرة في العراق، والبصرة، وجبل طيء عزية طيء.

وقد اختلطت تميم بأهل السواد، والجزائر، ولم يرد نص قاطع على أنهم من تميم بن مروان والله أعلم. ومن تميم آل بوسعيد أهل بلد مسقط عُمان، ومنهم شتيت في مصر وغيرها.

وعشيرة العناقر (العنقري، العنجري، العناقرة) فهي عشيرة عريقة وأصيلة، وكريمة، ومشهورة ذات جاه ومال وأصحاب رياسه، ومتحضرة خرج منها عددٌ كبيرٌ من الشباب الواعي المثقف المعتز بأصله ونسبه. ونحن دائماً نعتز ونفتخر بمن سجّل لهم التاريخ بالقيادة والسيرة الحسنة، متمثلة بثلة من الرجال ومنهم المرحوم الأستاذ محمد عبد الله خلف العناقرة.

ولد الأستاذ محمد عبد الله العناقرة في بلدة كفر جايز عام 1935 وكان الإبن الأكبر للمرحوم عبد الله العناقرة والحفيد الأكبر للشيخ خلف السالم، وكغيره من أبناء البلدة تعلم القرآن الكريم والحديث الشريف وأساسيات القراءة والكتابة من الكتاتيب على يد شيخ القرية آنذاك، بعدها انتقل للدراسة في بلدة سما الروسان وذلك نظراً لإصرار الجد الشيخ خلف السالم على ضرورة متابعة التعليم سواءاً لأبنائه أو لأبناء العشيرة وكذلك لأبناء البلدة جميعاً، حيث كان يرحمه الله شديد الحرص على التعليم وغير متساهل بالأمور المتعلقة بموضوع متابعة الدراسة.

وهناك في مدرسة سما أكمل الأستاذ محمد عبد الله العناقرة المرحلة الإبتدائية كاملةً حتى الصف السادس، وكان من زملائه في الدراسة الدكتور قاسم الروسان والأستاذ سامي الروسان (أبو خلدون) والمحامي خالد العناقرة والدكتور علي محافظة، ووالدي الحاج محمود خلف العناقرة، ومن باب الحرص على العلم كان يذهب يومياً من بلدته كفر جايز إلى مدرسة سما سيراً على الأقدام ويتحمل هذه المسافة الشاقة في ظروف الحر والقر.

انتقل الأستاذ محمد العناقرة إلى مدينة إربد لإكمال دراسته الثانوية ولأن المواصلات في تلك الفترة كانت في غاية الصعوبة، قام جده المرحوم الشيخ خلف السالم بإستئجار سكن في كرم علي نيازي وسكن محمد عبد الله العناقرة مع أقارب له فيه، حيث أكمل دراسته في ثانوية إربد الأولى وكان من زملائه في الدراسة في مدرسة إربد دولة السيد أحمد عبيدات ومحمد عبد الله حجات الذي أصبح قائداً للشرطة العسكرية في الأردن، وفي إربد أنهى الخامس ثانوي، بعدها أنتقل محمد العناقرة إلى مدينة نابلس إلى المدرسة الصالحية التي كان مديرها الأستاذ عبداللطيف دروزه، وهو عم زوجته فيما بعد وهناك في مدرسة النجاح الوطنية أكمل دراسته الثانوية بعدها انتسب لكلية الحقوق في جامعة دمشق.

إرتبط الأستاذ محمد عبد الله العناقرة بعلاقة طيبة مع السياسي الكبير معالي السيد فضل الدلقموني، جمعتهما أواصر الصداقة الطيبة عندما كان أبو عبد الله مديراً لمكتب الجوازات في نابلس وممثلاً للمملكة الأردنية الهاشمية في نابلس، حيث كان في وقت سابق قد بدأ حياته العملية موظفاً في دائرة الجوازات في H4 والـ H5 ثم انتقل إلى المركز في عمان ثم إلى لواء نابلس وإلى قلقيليا حيث كان المسؤول الأول عن إصدار جوازات السفر الأردنية آنذاك وذلك في الفترة ما بين عامي 1962 إلى 1967م.

حرص الأستاذ محمد عبد الله العناقرة خلال حياته على المواظبة وعدم الانقطاع عن حضور المجالس الأدبية والسياسية وكان له مشاركاته الخاصة فيها ولأن مرتادي هذه المجالس في معظمهم يتمتعون بمستوى خاص في مجال متابعة الأوضاع على الساحة والقدرة على تقدير الأمور حق قدرها فإن طروحاتهم وأحاديثهم دائماً تكون هادفة وتصب في مصلحة الوطن، كما وتعتبر هذه الصالونات الأدبية والسياسية فسحة مصغرة للحوار والجدل وتبادل الآراء في مسائل ذات طابع ثقافي وفكري وخلال لقاءاته بشخصيات مدينة نابلس تعرف على الشيخ رضا خليل دروزة أحد أبرز مشايخ نابلس والذي عُرف بصلاحه وعظيم أخلاقه وحضوره الاجتماعي بين الناس، وقد تزوج الأستاذ محمد عبد الله العناقرة من سيدة ومربية فاضلة وهي السيدة انشراح دروزة ابنة المرحوم الشيخ رضا خليل دروزة، واقاموا في نابلس حيث كانت نابلس مدينة عريقة ورزقا بإبنهما المهندس عبد الله في مدينة نابلس عام 1965، حيث كانت السيدة أم عبدالله آنذاك مدّرسة في دار المعلمين في نابلس، ومع حصول النكبة عام 1967 اضطروا لترك مدينة نابلس والخروج منها، وقد رجعوا منها بسيارات الجيش خلال الحرب، وبعد عودتهم إلى الأردن عملت في مدارس عمان وإربد وكانت مثالاً يحتذى للكرم والجود وطيب الأخلاق الفاضلة، وشكلت سند حقيقي للأستاذ محمد العناقرة وكانت إلى جانبه وتشد من أزره  نظراً لظروف بعده عن الأهل وتحمله لظروف ومشاق الاغتراب من أجل تأدية واجبه في العمل الحكومي المكلّف به، أنشأت أولادها عبد الله وعبد الرحيم على كريم الأخلاق وربتهم تربية إسلامية صالحة مع زوجها الأستاذ محمد عبد الله العناقرة.

ورجع الأستاذ محمد عبد الله العناقرة إلى المديرة العامة للجوازات في عمان ثم انتقل إلى مكتب جوازات إربد، حيث كان يقدم المساعدات لكل الناس ولكل شخص يقصده، فبابه كان دائماً مفتوحاً أمام الجميع من شتى الأصول والمنابت حيث كان مثالاً للإستقامة ونظافة اليد والمسلك والشفافية في العمل، فتجده قد عاش تجربة الحوار مع نفسه ومع الآخرين ذلك الحوار الذي تسكنه الشفافية في الطرح والصدق في الظن والولاء للثوابت التي نشأ عليها وعلّمها لأولاده من بعده. وأثناء فترة إقامته في العاصمة عمان سكن في جبل القلعة وجبل الجوفة وكان مواظباً على مجالسة كبار رجالات الفكر والثقافة والسياسة والقوميين العرب في مقهى الأقصى في منطقة سقف السيل بعمان.

وقد شكلت العشيرة والولاء للأهل كل معاني الفخر والاعتزاز لديه وخير مثال على ذلك أثناء فترة دراسة أولاده في جامعات سوريا في دمشق وحلب وحمص واللاذقية كان عندما يذهب لزيارتهم يلتف حوله جميع أبناء عائلة العناقرة الدارسين هناك ويلتقون بشكل يومي حيث كان دائماً أباً لجميع الأردنيين الدارسين في سوريا.

أينما تواجد أبو عبدالله كان هو الرجل والمكان يخطف الضوء والإعجاب، لطيفاً في التعامل، يؤدي الحقوق إلى أصحابها بشهادة الجميع، يحترم نفسه ولا يسمح لأحد بمس كرامته، عُرف بإحترامه الشديد لمن يكبره سناً، محباً للمطالعة وشغوفاً بها فالقراءة بالنسبة له بمثابة طائرة يطير بها بعيداً عن دواخله لتحمله إلى عوالم أناس آخرين يقف عند أفكارهم وثقافتهم، مطلقاً العنان لنفسه في الحكم على هذه الأفكار والرؤى، فطالع فنون الأدب العربي وكتب الشعر والشعراء ونظمها وقرأ في سير الرجالات وكان جُل اهتمامه منصباً على كتب السيرة النبوية الشريفة والتي تعمّق في دراستها واستنبط منها الأفكار والمبادئ لتربية أبنائه عليها وكذلك يَستدل على مواقف الحياة اليومية من السيرة النبوية، كان متديناً وسطياً يؤمن بالوسطية في كل أمور الحياة، يكره التشدد يحب الدين بدون أحزاب لم يؤمن بالإسلام السياسي ولكن آمن بعلاقة العبد بربه.

توفيت السيدة انشراح دروزة عام 1981 خلال عملية جراحية تاركة ولدين هما: عبد الله وعبد الرحيم، بعدها اقترن أبو عبدالله بالسيدة نوال الزعبي وأنجب منها يزن وأمل.

وقد تحدث المهندس عبد الله محمد العناقرة عن شخصية والده قائلاً: الوالد هو الأب والمعلم والقدوة والنفس، وقد تجاوزنا مرحلة فقدان والدتنا أولاً بقلوب مؤمنة بالقضاء والقدر وكان والدي بالنسبة لنا الأب والأم والأخ والمعلم والقدوة والصديق والناصح الأمين، قدم لنا ما بوسعه وعّوضنا عن فقدان الأم فكان مثالاً في حبه لأولاده وأحفاده غرس فينا القومية التي تجمع العرب من حيث عناصر الدم والدين والفكر والجنس واللغة والعادات.

توفي المرحوم الأستاذ محمد عبد الله العناقرة في 12/1/2000م بعد حياة مليئة بالصراحة في الحق والشفافية في التعامل والزهد في المناصب والعمل بصمت فكان بحق إبناً للكبير وأخاً وأباً للصغير.

كل من يعرف أبو عبد الله أو تعامل معه يلمس فيه تواضعه وحبه للناس فهو دائماً بين البسطاء لم يحب المظاهر ولا التكلف، وقور ترتسم على محياه سمات الحكمة والحنكة وفياً لعهوده لا يقول إلا ما يفعل، نقي السريرة لا يعرف الغل مكاناً في نفسه كاظم للغيظ عافٍ عن الناس يلتمس دائماً لهم عذراً، عفيف النفس واللسان، تعد حياته ومواقفه صوراً حية للإيثار، كارهاً للنفاق والرياء وأنصاف الحلول، كانت الحياة عنده موقف صدق والعمر لحظات شجاعة مليئة بالإيمان.

ترك المرحوم أبو عبدالله أربعة من الأبناء هم المهندس عبد الله والأستاذ عبد الرحيم والأستاذ يزن والسيدة أمل وهم حالياً يشغلون مواقع ومناصب هامة في دولة قطر الشقيقة وفي المملكة الأردنية الهاشمية.

في مدرسة الأستاذ محمد عبد الله العناقرة للرجولة والشهامة ومكارم الأخلاق تخرج المهندس عبد الله الإبن البكر للأستاذ محمد العناقرة فقد حمل عن أبيه عراقة الأصل، وكذلك الأصالة وتضاعفت في شخصيته الصفات نفسها بما ورثها عن جده لأمه الشيخ رضا خليل دروزه الذي كان من أبرز وجهاء نابلس، فاستوعب باكراً أن والده هو القدوة التي يجب السير على نهجها فتعلم من والده الإنصاف والاعتراف بالحق، والحرص على التواصل مع الأهل والعشيرة، بالإضافة إلى القدرة على معرفة معادن الرجال فكل من يقصده يلبيه، واليوم نقولها وبكل حيادية أن المرحوم الأستاذ محمد عبد الله العناقرة يعد رمزاً منتصباً بين أبناء عائلة العناقرة، فالذكريات ستبقى نشطة متيقظة... رحم الله أبو عبد الله وأسكنه فسيح جناته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد