المؤامرة البائسة

mainThumb

18-12-2014 12:34 PM

عندما نتصفح صفحات المنطقة في الوقت الحالي ونراجع مشكلات الدول الممتدة من باكستان ولغاية المغرب العربي نجد أن هناك وضعاً غير طبيعي يعبق في جنبات الشرق الأوسط ككل، وهذا لا يخفى على أحد، ونشم رائحة مؤامرة ينفذ سيناريوهاتها الغرب الذي تبع الحركة الصهيونية المتطرفة في إرادتها الراغبة بتفكيك المنطقة الى دويلات جغرافية ودويلات ديمغرافية ودويلات ايدولوجية ودويلات طائفية، وقد كرَّرتُ كلمة ( دويلات ) هنا لإظهار رغبة الصهيونية المتطرفة بتصعيب المصالحة والتقارب بين هذه الدويلات وإدامة الصراع والتفتيت فيما بينها.


ونلاحظ أن مفهومي التفتيت والتفكيك هما المزدوج الذي تلعب به قوة الشر في المنطقة من أجل أن تفتح الطريق لسيناريوهاتها بالمرور نحو تحقيق أهدافها ورغباتها بالسيطرة على المنطقة، ليس عسكرياً ولا سياسياً فقط، بل أيدولوجياً أيضاً، تمهيداً للوصول الى إقامة حكومة الشيطان العالمية وتنصيب ملك العالم الدوني المزعوم بعد الانتهاء من بناء الهيكل في أطهر مكان وأقدس أرض.


واذا عدنا للوراء قليلاً مع بدايات تسعينيات القرن الماضي، نجد أن انهيار الاتحاد السوفييتي واحتلال الكويت من قبل العراق وانهيار الاتحاد اليوغسلافي هي أكبر مؤشرات تغير وجه العالم، والانقلاب نحو أحادية القطبية، وتزعم الرأسمالية سدة العالم، وسيطرة الليبرالية المتوحشة الجديدة، التي لا تمت لليبرالية الكلاسيكية التي جسدت حقوق الانسان والحريات العامة لفائدة الجميع بأية صلة، من هنا بدأ العالم الرأسمالي الجديد يحقق أطماع دولة الصهيونية السياسية المؤدية الى الهدف المذكور سابقاً.


ثم دخلت المنطقة في حمى مكافحة الارهاب المزعوم، وتم استباحة أراضيها وشعوبها وحشد قوى العالم العسكرية فيها بحجة التعاون العسكري والتنسيق الأمني حتى تمكنت هذه القوى من مفاصل كينونة المنطقة برمتها، وتم بناء الحجج الواهية وخلق الادعاءات المضللة بامتلاك بعض دول الاقليم للسلاح النووي وقدرات الحرب الكيماوية ودعم الارهاب، حتى أقنعوا العربي قبل الغربي باحتلال العراق وتفكيكه وتذويب قوته التي كانت تمثل أحدى ركائز وأعمدة النظام العربي.


ثم أتى بعدها مشروع الفوضى الخلاقة الذي أساسه ما جاء به المفكر الأمريكي مارتن كروزرز مؤسس مذهب الفوضى الخلاقة في علم النفس، حيث يقول أنه (( عند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به )). أرادوا نشر الفوضى وتحرير منطقتنا المليئة بالضوابط الدينية والحضارية والقومية والوطنية كي ينفلت إنساننا المشرقي من كل هذه القيم لينتظر المعجزة الغربية التي تعيد بنائه وبرمجته على هواها، كي يحقق غاياتها وأهدافها ويسير على هداها للوصول الى الوحدة البشرية التي أساسها الاختلاف والتنوع.


ثم نادوا بدمقرطة الشرق الأوسط، فكان هذا المفهوم آخر المسامير التي تدق في نعوش بعض الأنظمة السياسية التي وصلت للحكم إما بالانقلابات العسكرية أو تزوير الانتخابات أو بطرقها الخاصة، وتأزم الوضع العربي، وعمت الفوضى التي ما كانت خلاقةً بل دمويةً بامتياز، وارتفعت حدة التوتر ما بين شعوب الدول ورؤسائها حتى وصلنا لمرحلة الحسم في العلاقة ما بينهم بما يسمى بالربيع العربي الذي لا يمت بصلة الى أي ربيع كان فساد الخراب والدمار فيها.


قامت الثورات وإنتشرت، وتم الاعتداء على أجهزة الدول وتم تفكيكها، وانتشر التفكك الاجتماعي الذي قضى على لُحمة الأسرة العربية ووحدتها، وعم التناحر والخلاف، وتم تجنيد بعض أبواق الإعلام الغربي المسيطر والمنتشر بصورة فائقة، وبعض أقلام الكُتَّاب المتعولمين لتغذية تلك الخلافات وإطالة عمر الفوضى، وتم استهداف الدول وسرقة مقدراتها بحججٍ واهية تمثلت بدعم الارهاب أو شراء الأسلحة لمواجهة الخطر الخارجي أو الاتغماس في مشاريع الإصلاح التي تأخرت كثيراً عن بعض المواطنين العرب كي يصلوا لإضعاف هذه الدول اقتصادياً ولنشر الفساد.


وتم استهداف الدين الاسلامي صاحب المظلة الواسعة والتي تحتوي الجميع، وسيَّسوا مذاهبه وطوائفه ونشروا الفتن بين العرقيات والأقليات، سُنة وشيعة وسلفية ووهابية وسلفية جهادية ودواعش وحوثية وقاعدة وطالبان ومتشددين ومعتدلين، رغم أنهم كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وقبلتهم وقرآنهم وغايتهم واحده. وتم تأصيل الصراع فيما بينهم استجابة لمطامع الفتنة والتفرقة.


وبعد أن تم تفكيك جغرافية المنطقة الى دول مختلفة ومتنازعة، وتفكيك الدين الى مذاهب متناحرة، وتفكيك الواقع المجتمعي الى أكثريات وأقليات وإثنيات مختلفة ومتقزمة تطالب بحقوقها الخاصة على حساب المصلحة العامة للدول والشعوب، بدأت مؤامرة تفكيك الإنسان وتحويله من كتله بشرية جماعية لها قيمها الحضارية والعقائدية والقيمية، ولها أبعادها الحقيقية في صد هذا الفيض التآمري، الى حالة فردية مهمشة لا قيمة لها، وفاقدةً للبوصلة التي توجهها نحو الخلاص الآمن والمستقبل المشرق، خاصةً بعد الإطاحة بمُثُلها العليا من القيادات الدينية والحضارية والقومية والوطنية التي كانت تهتدي برؤاها.


ونعيش الآن ساعة الحسم في هذا الصراع وهذا السعي الذي تقوده العولمة من الخارج سياسياً وتقوده الصهيونية المتوحشة من الباطن عقائدياً لإقامة الحكومة العالمية التي تمثل بالنسبة لها نهاية التاريخ الذي ينتصر فيه رافضو الأديان ومنكرو المباديء الأخلاقية والقيمية ومَنْ لف لفيفهم من الظالمين المتصهينين، ساعة الحسم التي هيهات لهم أن تتحقق، لكننا وكما نشاهد فإن هناك يقظةً للضمير الإنساني بدأت تتململ في عقر دار الغرب، وبالذات في الدول التي قامت فيها ثورات حقوق الإنسان قبل ثلاثة قرون مثل فرنسا والسويد وسويسرا وبريطانيا، وفي دول أمريكا اللاتينية التي خرجت قبل عقود من رحم الاستعمار وتم إعطاؤها الفرصة الكافية لبناء ذاتها، وفي دول المصالح الكبرى كروسيا والصين والهند، وفي القوى الخيرة من أصحاب الديانات والمذاهب الإنسانية المحبة للعدل والتسامح والتعايش السلمي بين بني البشر .

كل هؤلاء بدأوا يتحركون وينصتون الى أصوات العقل القادمة من رحم الأزمة في الشرق الأوسط والتي تنذرهم جميعاً ليترفعوا عن تغليب مصالحهم الخاصة والآنية على سلامة مستقبلهم وخلاصهم، بدأوا يستمعون بشغف الى أصحاب المظالم الذين طالت معاناتهم، والى الأشخاص الذي يشخصوا لهم قضية الشرق الأوسط باللغة التي يفهمون. استمعوا بإمعانٍ لأنهم أحسوا باقتراب ساعة الحسم التي لن تبقِ ولن تذر لهم أي من المكاسب التي بنوها على مدى قرون طويلة، فقامت جبهةٌ نراها تتبلور يوماً بعد يوم لوضع حدٍ لهذا الاستهتار وهذا الاستخفاف بواقع منطقتنا وتاريخها وحضارتها، وبدأ صوتها يرتفع لتشارك في تصحيح حالة الضمير الإنساني الذي كان مغيَّباً لفترة طويلة عن واقع الصراع الذي كانت تلبسه قوى الشر كل يوم وجهاً جديد. بدأت تقول كلمتها وتحرج دولة إسرائيل المتعطشة للدماء والتوسع والانتقام بأن كفى ما قد حصل، وها هي تشطب حركة المقاومة الإسلامية الوطنية عن قائمة الإرهاب، وتعقد مؤتمرا دولياً في سويسرا لإنصاف المظلومين وبغياب دولة إسرائيل، وها هي تقدم مشروعاً لمجلس الأمن لإنهاء أقدم إستعمار واحتلال على وجه الأرض.


وبعد كل هذا نرى المكر الإلهي يقف خلف كل هذه الأحداث يُجيِّرها كيف يشاء، ليورث الأرض لعباده الصالحين، وليمُن على الذين استُضعفوا في الأرض، وليمحق الكافرين، وحتى يعلم الذين ظلموا البشرية عندما كشفوا عن سوءتهم وتجبروا وأهلكوا النسل والحرث بأن العدالة الإلهية لا بد وأن تتجلى وتتحقق بتمكين المستضعفين في الأرض، وعندها يفرح المؤمنون وأصحاب المُثُل بنصر الله.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد