وقفة مع «خطاب بار إيلان» وما بعده

mainThumb

16-06-2009 12:00 AM

أسهبت بعض صحف تل أبيب العبرية في تصوير آلام المخاض العسير الذي مر به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قبل أن ينطق بالجملة السحرية: "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" ، حتى أن بعض المقالات ذهبت في قراءة "لغة الجسد" ، جسد نتنياهو بالطبع ، أكثر مما ذهبت في قراءة الخطاب ، وفي ظني أن الأمر مقصود تماما ، ويأتي في سياق "استراتيجية إعلامية" مدروسة ، هدفها التركيز على ما تسميه إسرائيل بـ"التنازلات المؤلمة" وصرف النظر عن "الشروط المسبقة والثقيلة" التي أحاط بها نتنياهو قبوله "المفخخ" و"الملغوم" بالدولة العتيدة ، والتي تكاد تجعل منها شيئا مشابها للسلطة القائمة حاليا في رام الله ، لا أكثر ولا أقل.

لم ينشغل نتنياهو وهو يختار كلمات خطابه بدقة عالية بسؤال: ما الذي ستكون عليه ردة الفعل الفلسطينية والعربية؟ فهذه الأطراف التي ناشدها وخاطب زعماءها ، تحتل آخر قائمة من اهتم نتنياهو بإرضائهم ، الرجل حرص أشد الحرص على "إطراب" الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، وقد أعطاه جملة من أربع كلمات: "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" ، وهو حرص أشد الحرص على الاحتفاظ على وحدة حزبه وسلامة ائتلافه الحاكم ، ولهذا السبب كرّس جلّ خطابه لتفريغ قبوله بالدولة من أي مضمون ، وإثقاله بوابل من الشروط التعجيزية المسبقة.

نتنياهو اليوم ، يجد نفسه في ذات الوضعية التي مر بها إسحق شامير بالأمس ، عشية مؤتمر مدريد وغداة الضغوط الأمريكية القاسية التي مارسها عليها الثنائي بوش الأب - بيكر ، ونتنياهو قرر على ما يبدو الاهتداء والاقتداء بما فعله سلفه وزعيم حزبه الأسبق: عدم البقاء خارج اللعبة ، والعمل على إسقاطها من داخلها.. الأول تعهد بمفاوضات ماراثونية من العرب تستمر لعشر سنوات ، وهي استمرت لعشرين سنة في واقع الحال ، والثاني سيدخلنا في جدل بيزنطي حول "الدولة العتيدة"لسنوات - وربما عقود - قادمة ، تكون إسرائيل خلالها قد فرضت ما تريد فرضه من حقائق على الأرض ، تاركة للفلسطينيين "حق" إقامة دولتهم في مناطق تواجدهم ، وفقا للتعبير الذي استخدمه نتنياهو في خطاب بار إيلان ، حيث استبدل خط الرابع من حزيران 1967 بخطوط الكثافة الديموغرافية الفلسطينية وهي في الغالب لا تتعدى مناطق (أ و ب) وفقا لتقسيمات أوسلو الشهيرة.

خطاب بار إيلان ليس خطوة في الاتجاه الصحيح كما تصفه بعض العواصم الغربية عن نفاق ورياء ومعايير مزدوجة ، خطاب نتنياهو باشتراطه الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة والقدس ورفض حل مشكلة اللاجئين ، وإصراره عن نزع الدسم والسيادة عن الدولة العتيدة ، واستمساكه بالتوسع الاستيطاني ، هو "إعلان حرب" وليس "بيانا من أجل السلام" ، وقد رفضه الفلسطينيون كافة ، بمن فيهم أكثرهم تهافتا وهرولة ، تساوقا واتساقا.

قد يقول قائل بأن البيت الأبيض ، ومعه بعض العواصم الغربية ، رأت في "جهر" نتنياهو بعبارة الدولة خطوة في الاتجاه الصحيح ، من دون أن يعني ذلك قبولها ببقية الشروط التعجيزية والمسبقة المرفقة بها ، وهذا أمر قد يكون صحيحا ، وقد يقال أيضا بأن ترحيب البيت الأبيض بالخطاب ، إنما يستهدف استدراج الرجل لمزيد من المواقف التي تقربه من الإجماع الدولي حول "رؤية الدولتين" وهذا صحيح أيضا ، بيد أن الصحيح كذلك ، والذي يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن تتنبها له ، هو أنه لا ينبغي إعطاء نتنياهو الوقت الذي يريد من إجل التخلي عن اشتراطاته البائسة ، فمعركة الرجل الرئيسة هي معركة كسب الوقت ، ومعيار الفشل والنجاح في المواجهة يقاس بهذا العامل تحديدا ، إلى جانب جملة من العوامل التي تتصل بمضمون الدولة وماهيتها.

في سياق كهذا ، فإن المطلوب من الفلسطينيين أولا ، أن يتصرفوا على قاعدة أن المسافة بينهم وبين حقوقهم غير القابلة للتصرف ما زالت طويلة وبعيدة ، وأن من الإفضل لهم ولقضيتهم الوطنية ، أن يكفوا عن الصراع على سلطة لا سلطة لها ، وأن يتوحدوا في الميدان لمواجهة خطر اليمين الزاحف ، وأن يتخلوا عن إملاءات ما يسمى "المجتمع الدولي واشتراطاته" ، إذ ليس من المعقول أن يكون موقف الحكومة الإسرائيلية من الدولة الفلسطينية ورؤية الدولتين والاتفاقيات السابقة ، بكل هذا الصلف والوقاحة ، وأن يطلب من الفلسطينيين ، ومنهم وحدهم فقط ، اعترافا "كريستاليا" بالدولة العبرية والاتفاقات المبرمة معها.

يجب أن تعطى الأولوية لاستعادة الوحدة الوطنية ، وليس لاسترضاء أحد ، أيا كان هذا الأحد ، فلا يعقل أن يقامر الشعب الفلسطيني بوحدته الوطنية في حمأة مطاردة "سيزيفية" لشبح حلول لا تأتي وتسويات لا يراد لها أن تكتمل ، ولقد كان نتنياهو فجا وبشعا في تحريضه الفلسطينيين على قتال بعضهم البعض ، فليذهب الرجل ودعواته ومبادراتها و"يده الممدودة" إلى الجحيم ، فنحن نعرف والإسرائيليون يعرفون ، بأنه لزج ومراوغ وكاذب.

أما العرب ، فلتكن ضالتهم باراك أوباما والمجتمع الدولي ، وليس بنيامين نتنياهو ، فهذا الذي فتحنا له أبواب مدننا وعواصمنا برهن من جديد بأنه لا يستحق ذلك ، وليكن البيت الأبيض هو العنوان للحركة المقبلة ، ولنستنفر طاقتنا في تحذير واشنطن من "الشراك والأفخاخ" التي يعدها نتنياهو وفريقه بإحكام ، وبهدف إعادة انتاج تجربة شامير وشراء الوقت الذي يريد ،

ولنخرج من كوابيس وأوهام "الأخطار الافتراضية" و"المحاور الاصطناعية" فالتهديد للأمن القومي العربي معروفة مصادره وأشكاله ، ومن المعيب أن نبقى نتلهى بمعارك ومخاوف ، ستظل جانبية وضئيلة متضائلة ، أمام جسامة التهديد الكامن في زحف اليمين الإسرائيلي.الدستور



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد