فيتغنشتاين: مؤاخذات على الغصن الذهبي لفريزر

mainThumb

28-04-2024 08:43 AM

سبق لي أن كتبت مرارا عن «المتأولين الجدد»، من المغرب وبعض الأقطار العربية، من أشباه «المثقفين» و«المفكرين» الذين يملأون وسائط التواصل الاجتماعي تحت ستار العقلانية، وإعادة قراءة التاريخ، وتجديد الخطاب الديني، وتنوير متابعيهم بما أخفي عنهم من الحقائق التي يعلنون أنهم يكشفون عنها لأول مرة. يسرُّ أمثال هؤلاء تقديم أنفسهم على أنهم «علماء في تاريخ الأديان»، و«متخصصون» في التاريخ، وفي الأنثروبولوجيا. وصارت أسماء بعض الاختصاصات مثل «الأنثروبولوجيا»، و«مقارنة الأديان»، و«علم الآثار» و«الجينات» تُقدّم وكأنها فتح مبين على ما تحمله من حقائق ثابتة لا يطالها الزلل، أو تنال منها النسبية، هي ما يحلو لهؤلاء ادعاء اعتمادها فيما يروجون له من «معرفة» جديدة. وبسبب اليقينية التي يتحدثون بها، والعنف اللفظي الذي يستعملون يثيرون مشاعر البعض فيكون السجال، والسجال المضاد، وهكذا تحول الفضاء الشبكي إلى مساحة عمومية تعج بالحلاقي الافتراضية التي يتجاور فيها باعة الأعشاب مع حواة الأفاعي وغيرهم كثير من الحلايقية، وكل يبحث عما تدر عليه حلقته من رزق يوم.
لقد أخلى الباحثون والمثقفون العرب الجادون هذا الفضاء لهؤلاء، فصاروا يعتبرون أنفسهم «مؤثرين»، و«نشطاء»، يحسب لهم ألف حساب، فصاروا في كل واد يهيمون، ويخوضون فيما لا يعلمون. عندما يتحدث في بعض الاختصاصات من لا يعرف طبيعة الاختصاص، وتطوراته، ولا يواكب ما يتجدد فيه من تصورات ونظريات، ويعمل على تطوير معلوماته، والاطلاع على مختلف الآراء فيه، والاختصاصات الأخرى التي يتفاعل معها بهدف تكوين إطار تصوري خاص به، ويبنيه على أساس مشروع قابل للتطور، فليس في رأيي سوى حلايقي افتراضي، سواء اشتغل بتحليل النصوص الأدبية أو التاريخية أو الدينية أو غيرها. وأي حلايقي مهما كان بارعا في الخطابة والقدرة على الإبلاغ يدور في فلك ضيق، ويقول الشيء نفسه مرارا ولكن مع تغيير في الأساليب، او تحوير في الموضوعات. وفي كل الحالات يظل متأولا يفسر بما يحلو له، وما ينطلق منه من أهواء ومواقف جاهزة.
لم تتأسس في ثقافتنا العربية اختصاصات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولم تتكون في مناخنا الأكاديمي التقاليد العلمية ولا أدبيات الفكر النقدي والإبستيمولوجي، فكان أن هيمنت في ساحاتنا تأويلات الظواهر المختلفة، ونحن لم نفهم طبيعتها، أو نضعها في سياقاتها، أو النظر إليها في ذاتها من حيث هي بنيات، لننتقل بعد ذلك إلى الوقوف على العلاقات التي تربط بينها من منظور نسقي. فكان أن سادت عندنا الرؤيات الذاتية والانطباعية، فضاع النظر والعمل.
من يتابع ما يستجد في الدراسات الإنسانية والاجتماعية في المجتمعات العلمية الحقيقية من حوار نقدي، ومن تطوير دائم للمقاربات والنظريات يجزم أننا بعداء عن إنتاج المعرفة بله المساهمة فيها، ويتأسف على واقعنا الثقافي والفكري الذي لا غرابة في أن نجده قرين واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فكل منهما متخلف وعاجز عن الانتماء إلى العصر.
يعتبر كتاب جيمس فريزر «الغضن الذهبي: دراسة في السحر والدين» (مترجم إلى العربية) من كلاسيكيات الأنثروبولوجيا. لقد وقف فيه على الكثير من تصورات وممارسات الشعوب البدائية، ولذلك نجد فيتغنشاين، الفيلسوف والرياضي، يصر على قراءة هذا الكتاب، ويدون ملاحظات عليه لم تطبع إلا بعد وفاته، لأنه لم يعمل على صياغتها. ويرى جاك بوفيريس في دراسته تحت عنوان: «الحيوان الاحتفالي: فيتغنشتاين والأنثروبولوجيا» أن هذه الملاحظات تعتبر بحق من بين أهم نصوصه التي تعبر عن «عقل» فلسفته، من جهة، ومن جهة أخرى يمكن التعامل معها على أنها وثيقة هامة لإعادة التفكير النقدي في مناهج ونتائج البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي.
يؤاخذ فيتغنشتاين على فريزر خطأه في فهم الإنسان «البدائي» موضحا أن السبب في ذلك يعود إلى أنه ينطلق في تأويلاته من العقلانية الضيقة، ومن المركزية العرقية الساذجة. وتبعا لذلك فإن موقفه الرئيسي يتمثل في رغبته في شرح ما لا يمكن، وما لا يجب أن يكون. ويستنتج أن تأويلاته تجمع بين عيوب الموضوعية العلمية وعيوب التأويل النفسي. ويعارض الفضائل التفسيرية للأطروحة التطورية، وبشكل عام، فضائل الفرضيات الجينية، مبرزا أن المسافة التي حددتها الأنثروبولوجيا التطورية بشكل مصطنع بين المجتمعات «البدائية» ومجتمعاتنا تنتج أساساً عن سوء تأويل الغرض من التفسير العلمي ووظيفته، وتقدير خاطئ لإمكانياته. كما أن التقارب الحقيقي الموجود بين «متوحشي» فريزر وأنفسنا لا يتجلى فقط في حقيقة أننا لدينا أنفسنا أساطير لا تختلف عن نظيرتها لدى الشعوب الأخرى.
ويسجل أن الفلسفة نفسها تقدم أمثلة رائعة على استخدام الإجراءات «السحرية»، وموقفها الطبيعي من اللغة أسطوري بشكل أساسي. وعلى عكس ما قد توحي به بعض فقرات ملاحظاته على فريزر، لم يقبل فيتغنشتاين التفسير الذاتي (النفسي) أكثر من التفسير الموضوعي لمفهوم «التأويل» في العلوم الإنسانية. إن أصالتها هي أن تحاول في نفس الوقت الحفاظ على تمييز واضح بين طريقة العلوم الإنسانية وأسلوب علوم الطبيعة.
وبعد تسجيله للخلفية التي تحكمت في تصورات فريزر وتأويلاته، كانت أهم مرتكزات ملاحظاته تتمثل في ذهابه إلى أن مختلف الممارسات والطقوس التي يمارسها الإنسان قديما وحديثا متشابهة، وأن الممارسات الدينية، أو الحياة الدينية للملك ـ الكاهن، ليست من طبيعة مختلفة عن أي ممارسة دينية في وقتنا الراهن، مثل الاعترافات عن الخطايا. هذه أيضا يمكن أن تفسر، ولا يمكنها أن تفسر. ويعترض على قول فريزر الذي يؤكد أن بعض الطقوس التي يمارسها البدائي بأنها تعبير عن الخوف من «شبح» الضحايا. متسائلا: لكن لماذا يستخدم فريزر كلمة «شبح»؟ إنه يفهم هذه «الخرافة» جيدًا، وهو يشرحها لنا بكلمة «خرافية» ذات استخدام متواتر حاليا. أو بالأحرى: ربما لاحظ أن شيئاً ما فينا أيضاً يتحدث لصالح ممارسات المتوحشين هذه؟ ويضرب المثال التالي: عندما أعتقد أن هناك بشراً خارقين في مكان ما، يمكن تسميتهم، مثلا، بالآلهة، أقول: «أخشى انتقام الآلهة». لكن هذا لا يعني أنني مرتبط بهذا الاعتقاد أصلا. ويمكننا في هذا السياق تقديم عبارة الفرنسي: (à Dieu)، أو ( Grâce à Dieu) مثالا لذلك. فهي لا تعني أن قائلها يعتقدها ولا سيما إذا لم يكن مؤمنا.
كما يرفض فيتغنشتاين التفسير التاريخي الذي يأخذ شكل فرضية التطور والتي هي ليست سوى طريقة لجمع البيانات لتقديم صورة إجمالية عن الممارسات. لذلك يمكن النظر في البيانات في علاقاتها المتبادلة وتجميعها في جدول عام. لكن ذلك لا يعني وضع فرضية تؤكد أن تلك الممارسة تطورت مع الزمن. ويضرب لنا مثالا عن ذلك من خلال قوله: «فأنا مثلا حين أستشيط غضبا من شيء ما، أضرب أحياناً بعصاي على الأرض أو على شجرة. لكنني لا أعتقد أن الأرض مسؤولة، أو أن فعل الضرب يمكن أن يقدم لي شيئا. إنني فقط أعبر عن غضبي. وكل الطقوس التي يمارسها الإنسان هي من هذا النوع. يمكن أن تسمى مثل هذه الأفعال أفعالًا غريزية. لكن الذهاب إلى محاولة تفسيرها تاريخيا على أساس أن أسلافنا اعتقدوا ذلك، فهذه افتراضات لا أساس لها. إن ذلك مجرد تشابه في التعبير عن الغضب. إن كل أسطورة هي مترسبة في اللغة. ويعدد فيتغنشتاين الأمثلة التي تبرز تهافت تأويلات فريزر التي لا تختلف عن تهافتات بعض «مثقفينا».


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد